يقول تعالى: وكما جعلنا في قريتك يا محمد أكابر من المجرمين، ورؤساء، ودعاة إلى الكفر، والصد عن سبيل الله، وإلى مخالفتك، وعداوتك؛ كذلك كانت الرسل من قبلك يبتلون بذلك، ثم تكون لهم العاقبة كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ الآية [سورة الفرقان:31] وقال تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا الآية [سورة الإسراء:16] قيل: معناه أمرناهم بالطاعة فخالفوا فدمَّرناهم، وقيل: أمرناهم أمراً قدرياً، كما قال هاهنا: لِيَمْكُرُواْ فِيهَا [سورة الأنعام:123]".
في قوله - تبارك وتعالى -: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا [سورة الأنعام:123] يقول الحافظ - رحمه الله -: "وكما جعلنا في قريتك يا محمد أكابر من المجرمين، ورؤساء ودعاة إلى الكفر، والصد عن سبيل الله، وإلى مخالفتك، وعداوتك؛ كذلك كانت الرسل من قبلك يبتلون بذلك" هكذا قال الحافظ - رحمه الله - أي: لست وحدك الذي تواجه هؤلاء العتاة من المكذبين، المجرمين، الماكرين.
وأما ابن جرير - رحمه الله - فإنه يربط هذه الآية بقوله تعالى: كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ [سورة الأنعام:108] يعني يكون المعنى: وكما زينا للكافرين ما كانوا يعملون كذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها.
والجعل في قوله: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا بمعنى صيرنا؛ لأن لفظة "جعل" تأتي لمعنيين في كلام العرب، فهي تأتي بمعنى صيَّر، كما في هذا الموضع، وتأتي بمعنى خَلَق، ومنه قوله - تبارك وتعالى -: وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا [سورة الأعراف:189] أي: خلق منها زوجها، ومنه قوله تعالى: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [سورة الأنعام:1] أي وخلق الظلمات، والنور.
وقوله: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا [سورة الأنعام:123] يحتمل فيه أكثر من إعراب، فيحتمل أن تكون لفظة "أكابر" مضافة إلى لفظة "مجرميها" وعلى هذا يكون "أكابر" هو المفعول الأول لجعل؛ وذلك أن الفعل جعل الذي يكون بمعنى صير له مفعولين، والمفعول الثاني لـ"جعل" يكون هو الجار والمجرور، أي أن قوله: فِي كُلِّ قَرْيَةٍ [سورة الأنعام:123] في محل نصب مفعول به ثاني لـ"جعل"، وعلى هذا الإعراب يكون معنى الآية وكذلك جعلنا أكابر المجرمين في كل قرية، والجار والمجرور محله التأخير من الناحية الإعرابية.
والاحتمال الإعرابي الثاني أن مجرميها مفعول أول لـ"جعل" و"أكابر" مفعول ثاني، وعلى هذا يكون المعنى: وكذلك جعلنا مجرميها أكابرها، وهذا ظاهر كلام ابن جرير - رحمه الله - حيث يقول: "أي: وجعلنا مجرميها عظماءها".
وعلى المعنى الأول يكون قوله: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا [سورة الأنعام:123] يعني أن كبار المجرمين هم في كل قرية أعداء الرسل، وعلى المعنى الثاني يكون قوله: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا [سورة الأنعام:123] أي: أن مجرميها جعلهم أكابرها لحكمة وهي ابتلاء الرسل - عليهم الصلاة والسلام -، وأتباعهم بهم، والله تعالى أعلم.
يقول الحافظ - رحمه الله -: "كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ الآية [سورة الفرقان:31] وقال تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا الآية [سورة الإسراء:16] قيل: معناه أمرناهم بالطاعة فخالفوا فدمَّرناهم، وقيل: أمرناهم أمراً قدرياً" إذا فسر قوله تعالى: أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا يعني بالفسق، والمعصية؛ فإن المقصود بالأمر هنا هو الأمر الكوني القدري؛ لأن الله لا يؤمر بالفحشاء، وإنما يأمر بالأمر الشرعي المتمثل بالإيمان، والقسط، والمعروف، وإذا فسر بالمعنى الثاني أي أنه الأمر الشرعي فالمعنى أنه أمرهم بالطاعة فكفروا، فدمرهم، وأهلكهم، والشاهد هنا في ذكر المترفين وليس في قوله: أَمَرْنَا، فالمترفون هم الأكابر كما قال تعالى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ [سورة المزمل:11].
هذا كله بيان بأن الأكابر المجرمين هؤلاء هم المترفون من النعمة، وهذا من بيان القرآن بالقرآن، فقوله: إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا يعني أكابر المجرمين.
المكر هو الحيلة، وبعضهم يقول: أصله مأخوذ في اللغة من الفتل، فالماكر يدبر للإفساد، وهم يمكرون بمعنى يخططون لمحاربة الرسل - عليهم الصلاة والسلام -، ولإفساد الخلق، ونشر الباطل، والصد عن سبيل الله .
في هذه الآية توضيح لمكر الأكابر هؤلاء، فلو قال قائل: كيف يمكرون؟ قيل: هذا ينكشف ويتجلى في مثل هذه الآيات قال تعالى: قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [سورة سبأ:32-33] ما هو مكر الليل والنهار؟ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا [سورة سبأ:33] يعني يأمرونهم بهذا أمراً مباشراً وبكل ما يستطيعون من حيلة يتوصلون بها إلى هذا المطلوب.
يقول: "كل مكر في القرآن فهو عمل" يعني يعمل على كذا، لكن هذا يحتاج إلى استقراء، وهذه يقال لها: الكليات في القرآن، أعني قولهم: كل كذا فهو كذا، وهي مبنية على الاستقراء؛ فإذا صح الاستقراء صحت، لكن نجد عند الاستقراء كثيراً مما يقولون فيه: إنه كذا قد لا يثبت.