يعني أن المقصود بالموت هنا: الكفر والضلال، والحياة: الإيمان والهدى، والله ذكر هذا المعنى في مواضع من كتابه، وهو معنى صحيح مشهور، وذلك أنه يعبر بالحياة عن حياة القلب، واستنارته، وإيمان العبد، وهدايته.
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله | فأجسامهم قبل القبور قبور |
وإن امرأً لم يحي بالعلم ميت | فليس له حتى النشور نشور |
يقول تعالى: أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا، وفي القراءة الأخرى - وهي قراءة نافع -: أَوْ مَن كَانَ مَيِّتًا [سورة الأنعام:122] أو بإسكان الواو، وتشديد الياء.
هذا المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير هو مثل ضربه الله - تعالى - للمؤمن الذي كان ميتاً يعني هالكاً في الضلالة، فأحياه الله بإحياء قلبه بالإيمان، وهذا هو المتبادر - والله تعالى أعلم - في معنى الآية.
وابن جرير - رحمه الله - حمل الآية على معنى آخر وهو أنها نهي عن طاعة المشركين المجادلين وقال: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [سورة الأنعام:121]، وأمر بطاعة المؤمن الذي كان كافراً فهداه الله، حيث إن طاعته أولى من طاعة ذلك الإنسان الضال الذي قد تحير، وهو يتخبط في الظلمات لا يعرف كيف يخرج منها.
لكن المعنى المتبادر - والله تعالى أعلم - هو ما ذكره ابن كثير - رحمه الله - أي أن هذه مقارنة بين المهتدي وبين الضال كما في قوله تعالى: أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [سورة الملك:22] وليس الكلام فيها متعلقاً بقضية الطاعة - والله تعالى أعلم -، أي أن قوله: أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا ليس المقصود بها أن طاعة من كان كافراً ثم آمن هي المطلوبة، وأنها مقدمة على طاعة الكافر - والله أعلم -.
هذه العبارات: الإسلام، الإيمان، الهدى، العلم؛ كلها ترجع إلى شيء واحد، وبعضهم يقول: إن هذا النور في قوله - تعالى -: وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ [سورة الأنعام:122] هو الذي يكون للمؤمن على الصراط، وهذا لا دليل عليه، لكن ذلك النور هو نتيجة لنور الهداية، والإيمان، والإسلام الذي يكون للعبد.
وقد تكلم الحافظ ابن القيم - رحمه الله - على هذه الآية بكلام جيد، وخلاصته أن الضلال بمنزلة الموت، والهداية، والعلم بمنزلة الحياة، فهو يقول: إن الحياة التي عليها مدار النجاة للإنسان على قدر اهتدائه وبصره بما أنزل الله على رسوله ﷺ، فكلما عظمت هدايته، واكتملت؛ كلما كان ذلك أكمل في الحياة التي توهب له، وكلما نقص من هدايته، ومن بصره بما أنزل الله؛ كلما قلت هذه الحياة، وضعفت، ولذلك فإن الإنسان كلما زاد إيمانه يشعر أن حياته أكمل، وأعظم، ولها معنى يعيش من أجله، ويجد من الروح، واللذة، والسرور، والانشراح ما لا يقادر قدره، وكذلك من ارتاضت نفسه بالعلم يجد حياته في مجالس العلم، ويرتفع إيمانه، ويقوى يقينه، ويحصل له من أسباب الثبات، ومعرفة معالم الطريق التي رسمها الله لعباده، وأمرهم بسلوكها، وتفاصيل الصراط المستقيم، ويعرف أموراً تخفى على غيره من الناس ممن لم تشرح صدروهم لهذا، ولم تستنر قلوبهم بهذا العلم، فالعلم حياة، وعلى قدر ما عند الإنسان من العلم يكون عنده من الانشراح، والبصيرة، وهذه هي الحياة الحقيقية.
وفي مسند الإمام أحمد عن رسول الله ﷺ أنه قال: إن الله خلق خلقه في ظلمة، ثم رشَّ عليهم من نوره، فمن أصابه ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل[1] كما قال تعالى: اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة البقرة:257]، وقال تعالى: أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [سورة الملك:22]، وقال تعالى: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ [سورة هود:42]، وقال تعالى: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاء وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ [سورة فاطر:19-23].
والآيات في هذا كثيرة، ووجه المناسبة في ضرب المثلين هاهنا بالنور والظلمات ما تقدم في أول السورة وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [سورة الأنعام:1] وقوله تعالى: كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [سورة الأنعام:122].
وقوله تعالى: كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [سورة الأنعام:122] أي: حسَّنَّا لهم ما كانوا فيه من الجهالة، والضلالة؛ قدراً من الله، وحكمة بالغة لا إله إلا هو وحده لا شريك له".
قوله تعالى: كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [سورة الأنعام:122] هو كقوله تعالى: كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ [سورة الأنعام:108] وقد سبق أن المعنى أنه - تبارك وتعالى - زينه لهم قدراً، وخلقاً، وأن ذلك جرى على أيدي الشياطين فنُسب إليهم كما في قوله تعالى: زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ [سورة الأنفال:48]، وهذا التزيين حصل لحكمة الله - تبارك وتعالى - علمها، وقدرها، لينقسم الناس إلى فريقين، ويتمايزون في الدنيا والآخرة، ويحصل بسبب ذلك ألوان المجاهدات، وتظهر معاني الأسماء الحسنى وما إلى ذلك.
والعجيب أنها ظلمات، ومع ذلك زُيِّنت لهم، ولذلك نجد الكفار مهما كان كفرهم، وضلالهم؛ إلا أنهم يتوالدون، ويربون أبناءهم على ذلك الكفر، وينشئونهم عليه، وهكذا تعيش أمم تقتات على هذا الضلال والظلمات، وليس عندهم غضاضة بهذا إطلاقاً؛ لأنهم قد زُيِّن لهم هذا العمل - نسأل الله العافية -.
وهكذا تجد الرجل مع أنه في غاية الفقر طيلة حياته إلا أنك تراه يجمع بقرات، أو عسلاً، وأموالاً طائلة، ويشرك بالله شركاً أكبر حيث يعطيها لحجر، أو شجر، أو صاحب قبر كالسيد البدوي، أو السيد الحسين، أو السيدة نفيسة، يصنع ذلك وهو منبسط لا مشكلة عنده، بل ويرى أنه قدم قرباه، وأنه قد أراح ضميره، وهو في الواقع يتخبط في الظلمات إلى النخاع، والمقصود أنه زُيِّن له سوء عمله ذلك - نسأل الله العافية -.
وإذا جادلتهم رأيت العجب العجاب، حتى إن أحدهم لما نوقش وذكرت له آية من كتاب الله حيث قيل له: إن الله يقول: وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ [سورة العنكبوت:61] قال: يا أخي هذه آية وهابية!! وذلك أنه يسمي من يستدل بهذه الآية وهابيين، نسأل الله العافية، وهكذا يصنع التزيين، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
- أخرجه الترمذي في كتاب الإيمان - باب ما جاء في افتراق الأمة (2642) (ج 5 / ص 26) وأحمد (6644) (ج 2 / ص 176) وصححه الألباني في المشكاة برقم (101).