الأربعاء 09 / ذو القعدة / 1446 - 07 / مايو 2025
أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُۥ نُورًا يَمْشِى بِهِۦ فِى ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُۥ فِى ٱلظُّلُمَٰتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَٰفِرِينَ مَا كَانُوا۟ يَعْمَلُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [سورة الأنعام:122] هذا مثل ضربه الله - تعالى - للمؤمن الذي كان ميتاً أي: في الضلالة هالكاً، حائراً؛ فأحياه الله، أي: أحيا قلبه بالإيمان، وهداه له، ووفقه لاتباع رسله".

يعني أن المقصود بالموت هنا: الكفر والضلال، والحياة: الإيمان والهدى، والله ذكر هذا المعنى في مواضع من كتابه، وهو معنى صحيح مشهور، وذلك أنه يعبر بالحياة عن حياة القلب، واستنارته، وإيمان العبد، وهدايته.
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله فأجسامهم قبل القبور قبور
وإن امرأً لم يحي بالعلم ميت فليس له حتى النشور نشور
 ولا حاجة أن يقال بما قاله بعض السلف - رحمهم الله - أنه كان ميتاً باعتبار أنه كان نطفة، فأحياه الله ، حيث نفخ فيه الروح.
يقول تعالى: أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا، وفي القراءة الأخرى - وهي قراءة نافع -: أَوْ مَن كَانَ مَيِّتًا [سورة الأنعام:122] أو بإسكان الواو، وتشديد الياء.
"وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ [سورة الأنعام:122] أي: يهتدي كيف يسلك، وكيف يتصرف به".

هذا المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير هو مثل ضربه الله - تعالى - للمؤمن الذي كان ميتاً يعني هالكاً في الضلالة، فأحياه الله بإحياء قلبه بالإيمان، وهذا هو المتبادر - والله تعالى أعلم - في معنى الآية.
وابن جرير - رحمه الله - حمل الآية على معنى آخر وهو أنها نهي عن طاعة المشركين المجادلين وقال: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [سورة الأنعام:121]، وأمر بطاعة المؤمن الذي كان كافراً فهداه الله، حيث إن طاعته أولى من طاعة ذلك الإنسان الضال الذي قد تحير، وهو يتخبط في الظلمات لا يعرف كيف يخرج منها.
لكن المعنى المتبادر - والله تعالى أعلم - هو ما ذكره ابن كثير - رحمه الله - أي أن هذه مقارنة بين المهتدي وبين الضال كما في قوله تعالى: أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [سورة الملك:22] وليس الكلام فيها متعلقاً بقضية الطاعة - والله تعالى أعلم -، أي أن قوله: أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا ليس المقصود بها أن طاعة من كان كافراً ثم آمن هي المطلوبة، وأنها مقدمة على طاعة الكافر - والله أعلم -.
"والنور هو القرآن كما رواه العوفي وابن أبي طلحة عن ابن عباس - ا - وقال السدي: الإسلام، والكل صحيح".

هذه العبارات: الإسلام، الإيمان، الهدى، العلم؛ كلها ترجع إلى شيء واحد، وبعضهم يقول: إن هذا النور في قوله - تعالى -: وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ [سورة الأنعام:122] هو الذي يكون للمؤمن على الصراط، وهذا لا دليل عليه، لكن ذلك النور هو نتيجة لنور الهداية، والإيمان، والإسلام الذي يكون للعبد.
وقد تكلم الحافظ ابن القيم - رحمه الله - على هذه الآية بكلام جيد، وخلاصته أن الضلال بمنزلة الموت، والهداية، والعلم بمنزلة الحياة، فهو يقول: إن الحياة التي عليها مدار النجاة للإنسان على قدر اهتدائه وبصره بما أنزل الله على رسوله ﷺ، فكلما عظمت هدايته، واكتملت؛ كلما كان ذلك أكمل في الحياة التي توهب له، وكلما نقص من هدايته، ومن بصره بما أنزل الله؛ كلما قلت هذه الحياة، وضعفت، ولذلك فإن الإنسان كلما زاد إيمانه يشعر أن حياته أكمل، وأعظم، ولها معنى يعيش من أجله، ويجد من الروح، واللذة، والسرور، والانشراح ما لا يقادر قدره، وكذلك من ارتاضت نفسه بالعلم يجد حياته في مجالس العلم، ويرتفع إيمانه، ويقوى يقينه، ويحصل له من أسباب الثبات، ومعرفة معالم الطريق التي رسمها الله لعباده، وأمرهم بسلوكها، وتفاصيل الصراط المستقيم، ويعرف أموراً تخفى على غيره من الناس ممن لم تشرح صدروهم لهذا، ولم تستنر قلوبهم بهذا العلم، فالعلم حياة، وعلى قدر ما عند الإنسان من العلم يكون عنده من الانشراح، والبصيرة، وهذه هي الحياة الحقيقية.
"كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ [سورة الأنعام:122] أي: الجهالات، والأهواء، والضلالات المتفرقة، لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا [سورة الأنعام:122] أي: لا يهتدي إلى منفذ، ولا مخلص مما هو فيه.
وفي مسند الإمام أحمد عن رسول الله ﷺ أنه قال: إن الله خلق خلقه في ظلمة، ثم رشَّ عليهم من نوره، فمن أصابه ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل[1] كما قال تعالى: اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة البقرة:257]، وقال تعالى: أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [سورة الملك:22]، وقال تعالى: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ [سورة هود:42]، وقال تعالى: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ۝ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ ۝ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ ۝ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاء وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ ۝ إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ [سورة فاطر:19-23].
والآيات في هذا كثيرة، ووجه المناسبة في ضرب المثلين هاهنا بالنور والظلمات ما تقدم في أول السورة وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [سورة الأنعام:1] وقوله تعالى: كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [سورة الأنعام:122].
وقوله تعالى: كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [سورة الأنعام:122] أي: حسَّنَّا لهم ما كانوا فيه من الجهالة، والضلالة؛ قدراً من الله، وحكمة بالغة لا إله إلا هو وحده لا شريك له".

قوله تعالى: كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [سورة الأنعام:122] هو كقوله تعالى: كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ [سورة الأنعام:108] وقد سبق أن المعنى أنه - تبارك وتعالى - زينه لهم قدراً، وخلقاً، وأن ذلك جرى على أيدي الشياطين فنُسب إليهم كما في قوله تعالى: زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ [سورة الأنفال:48]، وهذا التزيين حصل لحكمة الله - تبارك وتعالى - علمها، وقدرها، لينقسم الناس إلى فريقين، ويتمايزون في الدنيا والآخرة، ويحصل بسبب ذلك ألوان المجاهدات، وتظهر معاني الأسماء الحسنى وما إلى ذلك.
والعجيب أنها ظلمات، ومع ذلك زُيِّنت لهم، ولذلك نجد الكفار مهما كان كفرهم، وضلالهم؛ إلا أنهم يتوالدون، ويربون أبناءهم على ذلك الكفر، وينشئونهم عليه، وهكذا تعيش أمم تقتات على هذا الضلال والظلمات، وليس عندهم غضاضة بهذا إطلاقاً؛ لأنهم قد زُيِّن لهم هذا العمل - نسأل الله العافية -.
وهكذا تجد الرجل مع أنه في غاية الفقر طيلة حياته إلا أنك تراه يجمع بقرات، أو عسلاً، وأموالاً طائلة، ويشرك بالله شركاً أكبر حيث يعطيها لحجر، أو شجر، أو صاحب قبر كالسيد البدوي، أو السيد الحسين، أو السيدة نفيسة، يصنع ذلك وهو منبسط لا مشكلة عنده، بل ويرى أنه قدم قرباه، وأنه قد أراح ضميره، وهو في الواقع يتخبط في الظلمات إلى النخاع، والمقصود أنه زُيِّن له سوء عمله ذلك - نسأل الله العافية -.
وإذا جادلتهم رأيت العجب العجاب، حتى إن أحدهم لما نوقش وذكرت له آية من كتاب الله حيث قيل له: إن الله يقول: وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ [سورة العنكبوت:61] قال: يا أخي هذه آية وهابية!! وذلك أنه يسمي من يستدل بهذه الآية وهابيين، نسأل الله العافية، وهكذا يصنع التزيين، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
  1. أخرجه الترمذي في كتاب الإيمان - باب ما جاء في افتراق الأمة (2642) (ج 5 / ص 26) وأحمد (6644) (ج 2 / ص 176) وصححه الألباني في المشكاة برقم (101).

مرات الإستماع: 0

يقول: "وفي قوله: مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ [الأنعام: 122] مطابقة، وهي من أدوات البيان" المطابقة أن تجمع بين ضدين مختلفين مثل: السواد، والبياض، والليل، والنهار، والهدى، والضلال، والحياة، والموت وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ [الكهف: 18] فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا [التوبة: 82] فهذا يسمونه طباقا، يقول: "ونزلت الآية في عمار بن ياسر"[1] نزولها في عمار بن ياسر لا يصح، والآية عامة، ظاهرها العموم، وهذه الرواية: أنها نزلت في عمار جاءت عن عكرمة، وهي مرسلة[2] والمرسل من أنواع الضعيف، وكذلك أيضًا الراوي عن عكرمة هنا غير معروف "عن رجل عن عكرمة" فرجل هنا مبهم.

وابن الجوزي - رحمه الله - علقه عن أبي صالح عن ابن عباس، وأبي صالح لم يسمع من ابن عباس - ا -[3] وهكذا أيضًا القول بأنها نزلت في عمر بن الخطاب  كذلك هو أيضًا لا يصح.

وقد جاء عن زيد بن أسلم أن النبي ﷺ دعا: اللهم أعز الإسلام بأبي جهل بن هشام، أو بعمر بن الخطاب[4] قال: "وكانا ميتين في ضلالتهما، فأحيا الله عمر بالإسلام، وأعزه، وأبقى أبا جهل في ضلالته، وموته، قال: ففيهما أنزلت هذه الآية"[5] وهذه رواية مرسلة عن زيد بن أسلم، وهو من التابعين، كما هو معروف، وهي كذلك ليست صريحة في سبب النزول؛ لأنه قال: "ففيهما أنزلت هذه الآية" وقد عرفنا أن الروايات في أسباب النزول منها ما هو صريح، ومنها ما هو غير صريح، فيكون ذلك من قبيل التفسير، يعني مما يدخل في المعنى، هذا لو صحت، مع أنها لم تصح.

كذلك أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي سنان الشيباني[6]: أنها نزلت في عمر، وهو أيضًا مرسل، فالآية عامة، ولا تختص بعمار، وعمر - ا - وهكذا قوله: "والذي في الظلمات أبو جهل" وهذا كما سبق في رواية زيد بن أسلم، لكنها لا تصح، فالآية تشمل هؤلاء، وغيرهم.

"كَمَنْ مَثَلُهُ (مثل) هنا بمعنى صفة، وقيل: زائدة، والمعنى: كمن هو".

يقول: "مثل هنا بمعنى الصفة" كمن صفته، وأكثر أهل العلم من أهل اللغة، والمفسرين، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: أن المثل في جميع المواضع بلا استثناء يرجع إلى معنى الشبه[7] لكنه يشكل على هذا بعض المواضع، كقوله - تبارك، وتعالى -: مَثَلُ الْجَنَّة [الرعد: 35] فهذا بمعنى صفة الجنة، وبهذا فسره بعضهم، لكن الأكثرين يحملون هذا على معنى الشبه، وفي مثل هذا الموضع - أعني قوله: مَثَلُ الْجَنَّة [الرعد: 35] - لا يخلو حمله على معنى الشبه من تكلف، ويمكن أن يقال - والله تعالى أعلم -: إن المثل يرجع إلى معنى الشبه في عامة استعمالاته، يعني من حيث الأصل اللغوي؛ ولكنه في مواضع قليلة يأتي بمعنى آخر، كالصفة، فهنا في قوله: كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ [الأنعام: 122] فهنا الجمهور يفسرونه بالشبه، يعني أنه مشابه لمن كان في ظلمات، كما قال الله - تعالى -: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ [البقرة: 257].

وهنا قال: "هو بمعنى الصفة" يقول: "وقيل: زائدة" يعني إعرابًا، والمعنى: كمن هو في الظلمات، وكأنهم استشكلوا اجتماع (مثل) مع كاف التشبيه، فهي تدل على الشبه، والكاف تدل على التشبيه أيضًا، فاستشكلوا مثل هذا، وهذا معلوم حينما تشق الشعرة، والشعيرة في التفسير، فتولد، وتوجد مثل هذه الإشكالات، كما لا يخفى، وإلا فأنت حينما تقرأ هذه الآية: كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ [الأنعام: 122] لا تشكل عليك، لكن إذا شققت الحروف، والألفاظ وجدت مثل هذه الإشكالات، وهذا كثير.

وسبق الكلام على دعوى الزيادة، وهل يقال في القرآن: زائد، أو لا؟ وهم يقصدون زائد إعرابًا، وإلا فلا شك أن زيادة المبنى لزيادة المعنى، فيقولون: للتوكيد، وبعضهم - كما ذكرنا سابقًا - يتحاشى التعبير بلفظ الزيادة فيقول: اللفظة الفلانية، أو الحرف الفلاني صلة، ويقصد أنها زيدت للتوكيد.

"وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ أي: كما جعلنا في مكة أكابرها ليمكروا فيها، جعلنا في كل قرية، وإنما ذكر الأكابر لأن غيرهم تبع لهم، والمقصود تسلية النبي ﷺ ".

قوله: وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ فـ(جعل) فسره بعض أهل العلم بصيّر، أي: صيرنا؛ لأن (جعل) تأتي لمعانٍ، منها: بمعنى خلق وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام: 1] وتأتي بمعنى (صيّر).

والشنقيطي - رحمه الله - فسّر (الجعل) في قوله: جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ [الأنعام: 112] بالتصيير[8] يعني كبراء، وعظماء يمكرون فيها، يقول: "كما جعلنا في مكة أكابرها ليمكروا فيها جعلنا في كل قرية كذلك" والقرية - كما هو معلوم - في الاستعمال القرآني تطلق على مجمع البنيان، والسكان، سواء كان كبيرًا، أو صغيرًا، والتفريق بينهما فالصغير نسميه قرية، والكبير نسميه مدينة اصطلاح متأخر، ليس على الاستعمال القرآني، وإنما هو اصطلاح حادث.

وهذا المعنى الذي ذكره ابن جزي: "كما جعلنا في مكة أكابرها؛ ليمكروا فيها جعلنا في كل قرية" بنحو هذا قال ابن كثير[9].

لكن ابن جرير - رحمه الله - حمله على معنى آخر، حيث قال: وكما زينا للكافرين ما كانوا يعملون، كذلك جعلنا في كل قرية عظماءها مجرميها[10] كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: 122] والمعنى: كما فعلنا ذلك جعلنا أيضًا هؤلاء الأكابر بهذه المثابة، كما قال الله - تبارك، وتعالى -: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [سبأ: 34] وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف: 23] فذكر هؤلاء المترفين، وهم الأكابر.

  1.  تفسير السمعاني (2/141)
  2.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (12/90).
  3.  زاد المسير في علم التفسير (2/73).
  4.  أخرجه بنحوه الترمذي ت شاكر في أبواب المناقب، باب في مناقب أبي حفص عمر بن الخطاب برقم: (3681) وصححه الألباني.
  5.  تفسير ابن أبي حاتم، الأصيل - مخرجا (4/1381).
  6.  تفسير ابن أبي حاتم - محققا (4/1382).
  7.  الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (3/444).
  8.  العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (2/139).
  9.  تفسير ابن كثير ت سلامة (3/331).
  10. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (12/93).