الأربعاء 09 / ذو القعدة / 1446 - 07 / مايو 2025
وَلَا تَأْكُلُوا۟ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُۥ لَفِسْقٌ ۗ وَإِنَّ ٱلشَّيَٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰٓ أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَٰدِلُوكُمْ ۖ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [سورة الأنعام:121] استُدل بهذه الآية الكريمة على أن الذبيحة لا تحل إذا لم يذكر اسم الله عليها، وإن كان الذابح مسلماً، وبقوله في آية الصيد: فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ [سورة المائدة:4]".

قوله تعالى: وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ [سورة الأنعام:121] جاء في سبب نزول هذه الآية روايات كثيرة جداً، وكثير منها من المراسيل، فعامة هذه الروايات لا تخلو من ضعف، ومنها ما ورد عن ابن عباس - ا - من بعض الطرق التي لا بأس بها، ويمكن من مجموع تلك المرويات - من المراسيل وغيرها - أن يتقوى الأثر الوارد في ذلك، وذلك أن المشركين احتجوا على المسلمين فقالوا: ما ذبحتم بأيديكم تقولون إنه حلال، وما ذبحه الله أو ما قتله الله بيده الشريفة تقولون: إنه حرام؟ أأنتم أحسن من الله حتى يكون فعلكم أفضل من فعل الله، بحيث صار فعلكم يحلها، وفعل الله حرمها؟
هذه شبهة ألقاها عليهم الشياطين من أجل مجادلتهم، فالله - تبارك وتعالى - رد عليهم فقال: وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [سورة الأنعام:121] فالرد جاء بهذه الطريقة كما في قوله: وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [سورة البقرة:275] لما قالوا: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا [سورة البقرة:275]، وهذه الردود لم يذكر الله فيها طرقاً في الاحتجاج والإقناع العقلي؛ لأن هؤلاء لا يؤمنون بالوحي أصلاً، وإلا كان بالإمكان أن يرد على هؤلاء في بيان قبائح الميتة، ومضارها الصحية، وما يحصل في داخلها من التحولات، وأمور كثيرة قد يقتنع السامع بأن هذه الميتة لا تصلح للأكل، لكن في مثل هذا اكتفى الله - تبارك وتعالى - بمثل هذا اللون من الرد، وطرق الرد متعددة، فيمكن أن يرد على المبطل ويقال: هذا حكم الله وانتهى الأمر، ويمكن أن يرد عليه بطريقة فيها تفصيل وذلك بمراعاة الجانب الذي يقر به، بمعنى أنه إن كان ينكر الوحي فيمكن أن يقتنع بأدلة العقول مثلاً، ولا مانع من ذكر الأدلة العقلية بإثبات أمر أو نفيه، وفي القرآن يوجد من هذا، ولذلك ذكر الشاطبي - رحمه الله - في أنواع الاستدلال أن هناك من الأدلة ما يستدل به على الموالف والمخالف، وهي الأدلة العقلية مثل قوله تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [سورة الأنبياء:22] وقوله: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ [سورة المؤمنون:91]، وهناك أدلة يستدل بها على الموافق الذي يقر أن هذا نص أوحاه الله ، وأنه معصوم، فهذا يقال له: هذا حرام لا يجوز؛ لأن الله - تعالى - قال كذا وكذا، والله أعلم.
قال الله تعالى هنا: وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ [سورة الأنعام:121] وقال في الآية الأخرى: فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ [سورة الأنعام:118] فمفهوم قوله: فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ [سورة الأنعام:118] أي: ولا تأكلوا غيره مما لم يذكر اسم الله عليه، وقد استدل بهذه الآية الكريمة على أن الذبيحة لا تحل إذا لم يذكر اسم الله عليها وإن كان الذابح مسلماً سواء ترك ذلك عمداً، أو نسياناً؛ أخذاًَ بالظاهر، فالظاهر من قوله: وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ [سورة الأنعام:121] أنه إذا لم يذكر اسمه فإنه لا يحل للأكل، وبهذا المنع المطلق في كل الحالات قال جماعة من الصحابة، ومن بعدهم كابن عمر، ومولاه نافع، والشعبي، وابن سيرين، وهو رواية عن الإمام مالك، وأحمد وبه قال داود الظاهري.
وقال بعض أهل العلم: إن التسمية تسقط في حال النسيان؛ لأن الله تعالى قال: رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [سورة البقرة:286] وقال ﷺ: وإن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان[1].
ومن أهل العلم كابن جرير - رحمه الله - من يقول: المراد بذلك اعتبار حال الذابح، يعني إن كان الذي ذبح من أهل الأوثان فهو المراد بمنع أكل ذبيحته، وأن ما ذكر اسم الله عليه معناه أن يكون الذابح ممن تحل ذبيحته ممن لم يذبح لغير الله.
"ثم قد أكد في هذه الآية بقوله: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ [سورة الأنعام:121] والضمير قيل: عائد على الأكل، وقيل: عائد على الذبح لغير الله".

يقول - تعالى -: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ [سورة الأنعام:121] يعني الأكل أو المأكول، أي إن أكلكم منه لفسق، أو إن المأكول لفسق، والمعنيان بينهما ملازمة؛ فإذا كان ذلك الطعام من الفسق فإن تعاطيه، وأكله من الفسق، إلا لعذر كما دل على ذلك قوله - تبارك تعالى -: إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [سورة الأنعام:119] وإذا كان تعاطيه من الفسق فإن هذا يقتضي أنه فسق يعني أنه محرم.
والفسق هو الخروج عن طاعة الله - تبارك وتعالى -، وأصل مادة الفسق يرجع إلى معنى الخروج، سواء كان هذا الخروج من طاعة الله مطلقاً - الفسق الأكبر -، أو كان جزئياً بالمعصية.
"وبالأحاديث الواردة في الأمر بالتسمية عند الذبيحة، والصيد؛ كحديث عدي بن حاتم وأبي ثعلبة - ا -: إذا أرسلت كلبك المعلَّم، وذكرت اسم الله عليه؛ فكل ما أمسك عليك وهما في الصحيحين[2]".

في الحديث ذكر شرطين يحل بها الأكل:
الأول: إذا أرسلت كلبك المعلم أي لا بد أن يكون معلماً لا يصيد لنفسه.
والثاني: وذكرت اسم الله عليه.
فإذا انتفت هذه الشروط، أو انتفى بعضها؛ انتفى المشروط أي لا يحل الأكل من الصيد.
"وحديث رافع بن خديج : ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه؛ فكلوه وهو في الصحيحين أيضاً[3]".

عدي بن حاتم من الصحابة ولا يرد عليه إطلاقاً ما ذُكر من أن الاعتبار بحال الذابح أو الصائد؛ فعدي بن عدي بن حاتم لا يتقرب بشيء إلى غير الله - تبارك وتعالى - ومع ذلك قال: وذكرت اسم الله عليه، فالمقصود هو ذكر التسمية باللسان، ومثله الأمر بالتسمية عند ذبح الهدايا حيث قال تعالى: فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ [سورة الحج:36] يعني عند نحرها، والأصل أن الأمر للوجوب.
"وحديث ابن مسعود أن رسول الله ﷺ قال للجن: لكم كل عظم ذُكر اسم الله عليه رواه مسلم[4].
وحديث جندب بن سفيان البجلي قال: قال رسول الله ﷺ: من ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى، ومن لم يكن ذبح حتى صلينا فليذبح باسم الله أخرجاه[5]".

من أهل العلم من حمل هذا الأمر بالتسمية على الاستحباب، واعتبروا الصارف هو حديث عائشة - ا - لما سألت النبي ﷺ عن ذبائح تأتي من أناس لا يدرون هل ذُكر اسم الله عليها أو لا فقال: سموا أنتم، وكلوا[6] فقالوا: وهذا يدل على أنه لا يجب، وإلى هذا ذهب جماعة من أهل العلم، كالشافعي، وهو رواية عن مالك وأحمد، وبه قال جماعة من الصحابة ومن بعدهم كابن عباس، وأبي هريرة ،وعطاء بن أبي رباح، إضافة إلى قول من قال منهم: إن المقصود بهذه النصوص هو ما ذبح لغير الله - تبارك وتعالى -.
وذهب بعضهم - وهو المشهور - عن مالك وأحمد، وبه قال أبو حنيفة وإسحاق بن راهويه إلى أنه تجب التسمية لكن يعفى عن النسيان؛ لقوله تعالى: رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [سورة البقرة:286] وهذا مروي أيضاً عن جماعة من الصحابة والتابعين كعلي ، وسعيد بن المسيب وعطاء، وطاووس والحسن وغيرهم - رحمهم الله -، والقول بأنها تسقط مع النسيان لا يبعد؛ نظراً للأدلة الأخرى، لكن القول بأنها مستحبة لا تخلو من إشكال؛ لأن هذه نصوص صريحة تأمر بالتسمية، وتنهى عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه، والأصل أن الأمر للوجوب، والنهي للتحريم.
"وقوله تعالى: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ [سورة الأنعام:121]".

الشياطين صنفان: شياطين الإنس، وشياطين الجن؛ كما قال الله : شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [سورة الأنعام:112] فيحتمل أن يكون المراد بقوله: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ [سورة الأنعام:121] يعني شياطين الإنس يوحون إلى شياطين الجن، وشياطين الجن يوحون إلى شياطين الإنس، أي أن الوحي يكون متبادلاً بين الطرفين.
ويحتمل أن يكون المراد أن شياطين الجن يوحون إلى شياطين الإنس، ويحتمل أن يكون المراد أن شياطين الإنس يوحون إلى إخوانهم ونظرائهم من شياطين الإنس بحيث كل واحد يلقن الثاني الحجج والشبهات من أجل إضلال الناس، فهذه المعاني تحتملها الآية إلا أن إيحاء شياطين الإنس لشيطان الجن قد لا يكون له وقوع؛ لأن العادة أن الإنس يتلقون من الجن، وشياطين الجن هم الذين يقذفون الشبهات في قلوبهم، والوساوس، وما أشبه ذلك، والله قال: يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [سورة الأنعام:112] أي شياطين الإنس يوحون إلى شياطين الإنس، وشياطين الجن يوحون إلى شياطين الإنس، وهكذا، لكن الذي مال إليه كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله - أنها من الطرفين - من الجنسين -؛ لقوله - تعالى -: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [سورة الأنعام:112].
"روى ابن أبي حاتم عن أبي إسحاق قال: قال رجل لابن عمر - ا -: إن المختار يزعم أنه يوحى إليه؟! قال: صدق، وتلا هذه الآية: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ [سورة الأنعام:121]".

ابن عمر متزوج بأخت المختار، والمختار معروف أنه من كبار قادة ابن الزبير، وجرى على يده قتل عامة الذين شاركوا في قتل الحسين ، وكانت جيوشه تشرِّق وتغرب، ثم بعد ذلك فتن وزعم أنه يوحى إليه، وصار يخبر الناس بأشياء فيقول لهم: سيحصل كذا، وسيحصل كذا، فإذا لم يحصل ما أخبر به قال - قبحه الله -: بدا لله في هذا الأمر كذا وكذا، يعني كما تقول: فلان غيَّر رأيه، ولذلك فإن مسألة البداء يقول بها الرافضة، ويوغلون فيها، وقال بها هذا المتنبئ المختار الثقفي الكذاب، وقد أخبر النبي ﷺ أنه يخرج من ثقيف مُبير، يكثر القتل؛ وهو الحجاج، ويخرج كذاب وهو المختار الثقفي وهو قائد من قادة ابن الزبير - نسأل الله العافية -، وإذا كان قد حدث هذا في ذلك الزمان الشريف - زمان الصحابة -، بل وحدث ذلك من قائد لابن الزبير، حيث أتى بمثل هذه العجائب والغرائب دون حياء من الله، ولا من الناس، فلا غرابة أن يخرج في زماننا من يأتي بأعجب من هذا؛ وقد وُجد من يقول: إنه يوحى إليه، وأنه المهدي، أو أنه رسول، ويأتي بالمضحكات المبكيات، ثم تجد بعض البهائم الذين يصدقونه، ويقبلون قوله، بل ويستميتون في الدفاع عنه - نسأل الله العافية -.
"وعن أبي زميل قال: كنت قاعداً عند ابن عباس - ا -، وحجَّ المختار بن أبي عبيد فجاءه رجل فقال: يا ابن عباس! زعم أبو إسحاق أنه أوحي إليه الليلة، فقال ابن عباس: صدق، فنفرت وقلت: يقول ابن عباس: صدق، فقال ابن عباسٍ: هما وحيان: وحي الله، ووحي الشيطان، فوحي الله إلى محمد ﷺ، ووحي الشيطان إلى أوليائه، ثم قرأ: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ [سورة الأنعام:121]، وقد تقدم عن عكرمة في قوله: يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [سورة الأنعام:112] نحو هذا".

وحي شياطين الإنس لشياطين الإنس واضح، وذلك أنهم يلقنونهم الشبهات، ويزينون لهم الباطل، ويغرونهم به، ويشجعونهم، ويثبتونهم، ويقوون قلوبهم، ويتعاضدون على هذا، ويتواصون عليه، وأما وحي شياطين الجن لشياطين الإنس فيكون بإلقاء الشبهات، وإلقاء الوساوس في قلوبهم؛ وما أشبه ذلك، وقد يجرونه على ألسنتهم بطرق شتى، ومن ذلك أن الإنسان قد يكون فيه شيء من المسّ أو السحر أحياناً فتجري على لسانه أمور عجيبة جداً، وربما كانت في غاية التلبيس، والتدليس، ويستخرج عليها شبهات أو أدلة إذا سمعها الجاهل اغتر بها، ولا يعرف الجواب عنها، أعني أنها تُجرى على ألسن هؤلاء فيغتر بهم كثير من الناس، فيضللونهم.
وقد يأتونهم عن طريق الرؤى فيرى مثلاً مائة إنسان أن فلاناً هو المهدي المنتظر، فإذا رأوه قالوا: أنت الذي رأيناك على أنك المهدي، وقد يكون هذا الإنسان ليس من نسل النبي ﷺ، وقد لا يكون اسمه محمد بن عبد الله، ومع ذلك يأتون لهم بألوان التلبيسات مما يقنعون به أن هذا هو المهدي، ويجيبون بتلبيساتهم عن كون اسمه ليس محمداً، وعن كونه ليس من نسل النبي ﷺ، فالجاهل يظن أن هذه الإجابات حق، وخاصة أن مائة إنسان قد رأى هذه الرؤى فيقول: لا يعقل أن يرى هؤلاء كلهم هذا الأمر ثم لا يكون حقيقة.
ومن المعلوم أن الناس الذين عندهم مس أو سحر يلقي الشيطان على ألسنتهم أشياء عجيبة جداً قد لا تُتصور، وقد يكون ذلك عن طريق الرؤى، وقد يكون في اليقظة، ومن صور ذلك أنه بكل بساطة يقول: الآن سيتصل بي فلان، فيدق الهاتف؛ وإذا هو فلان اتصل من بلدة أخرى، وقد لا يقصد التلبيس لكن لو أراد أن يلبس لاستطاع.
وقد يقول: الحمل الذي وقع لفلانة هو ولد، وقد يقول: ستحمل امرأتك، وستأتي بولد، ويكون هذا مما استرقوه من السمع!
وقد يكون هذا الإنسان من الرقاة، فيضلل الناس، ويلبس عليهم بقراءة القرآن، ويأتيهم بأشياء من هذا القبيل، ويخبرهم عن أشياء غيبية يتلقاها عن طريق الشياطين شعر بذلك أم لم يشعر، لكن الغالب أنه يشعر، ويعرف، ويضلل، ويلبس عن طريق قراءة القرآن، ليظهر لهم أنه يرقي بالقرآن وهو دجال، وقد يكون ساحراً، ولو علم الناس بحقيقة الأمر لوضعوا أيديهم فوق رؤوسهم مستغربين أن يكون فلان ساحراً، وللعلم فإن هناك أموراً لا يمكن أن تفسر إلا بالسحر.
ومن أنواع التضليل أن بعضهم يستدل على بعض الأمور بنصوص أهل العلم كشيخ الإسلام، وابن القيم، فيقرأ كلاماً من كتبهم وهو من أجهل الناس لا يفهم كلام العلماء، بل قد يكون قسيساً ومع ذلك يأتي لك بنصوص من كلام شيخ الإسلام، ومن كلام ابن القيم وغيرهما مع ذكر الصفحة، والجزء، فمن أين عرف هذا القسيس كلام شيخ الإسلام، وأمثاله من أهل العلم إلا أن يكون ساحراً، أو ممسوساً؟ مع أنه قد يأتي في البداية بكلام ممتاز، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، لكن إلى حين، ثم يبدأ بالإفساد بصور وأساليب كثيرة، وذلك إذا ظهر، وصار متمكناً من قلوب الناس، وعقولهم، فالله المستعان.
"وقوله: لِيُجَادِلُوكُمْ [سورة الأنعام:121] روى ابن جرير عن ابن عباس - ا -: وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ [سورة الأنعام:121] إلى قوله: لِيُجَادِلُوكُمْ [سورة الأنعام:121] قال: يوحي الشياطين إلى أوليائهم تأكلون مما قتلتم، ولا تأكلون مما قتل الله؟ وفي بعض ألفاظه عن ابن عباس - ا -: أن الذي قتلتم ذكر اسم الله عليه، وأن الذي قد مات لم يذكر اسم الله عليه.
وقال السدي في تفسير هذه الآية: إن المشركين قالوا للمسلمين: كيف تزعمون أنكم تتبعون مرضاة الله، فما قتل الله فلا تأكلونه، وما ذبحتم أنتم تأكلونه؟ فقال الله تعالى: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ [سورة الأنعام:121] فأكلتم الميتة إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [سورة الأنعام:121] وهكذا قاله مجاهد والضحاك وغير واحد من علماء السلف".

يلاحظ في قوله تعالى: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [سورة الأنعام:121] أن هذا شرك الطاعة، والاتباع، وهو أحد أنواع الشرك، ولا يقال هنا: شرك دون شرك، بل هو شرك أكبر، فإذا كانوا أطاعوهم في قضية واحدة هي تحليل الميتة؛ فحكم الله عليهم بالشرك، فكيف لو بدلوا لهم كل شرائع الإسلام من أولها إلى آخرها، وجاؤوا لهم بشرع آخر؟ ذلك شرك من باب أولى، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - قد أطال الكلام في هذه القضية في عدد من المواضع في دروسه التي سجِّلت في المسجد النبوي - رحمه الله - في هذا الموضع وفي غيره من المواضع، وبيَّن أن طاعتهم في تحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحل الله من الشرك الأكبر المخرج من الملة.
"وقوله تعالى: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [سورة الأنعام:121] أي: حيث عدلتم عن أمر الله لكم، وشرعه؛ إلى قول غيره، فقدمتم عليه غيره فهذا هو الشرك كقوله تعالى: اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ الآية [سورة التوبة:31].
وقد روى الترمذي في تفسيرها عن عدي بن حاتم أنه قال: يا رسول الله! ما عبدوهم، فقال: بلى، إنهم أحلوا لهم الحرام، وحرموا عليهم الحلال؛ فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم[7]".
  1. أخرجه ابن ماجه في كتاب الطلاق - باب طلاق المكره والناسي (2043) (ج 1 / ص 659) وصححه الألباني.
  2. أخرجه البخاري في كتاب الوضوء - باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان (173) (ج 1 / ص 76) وفي كتاب الذبائح والصيد - باب صيد القوس (5161) (ج 5 / ص 2087) ومسلم في كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان - باب الصيد بالكلاب المعلمة (1929) (ج 3 / ص 1529) وفيه أيضاً برقم (1930) (ج 3 / ص 1532).
  3. أخرجه البخاري في كتاب الشركة - باب قسمة الغنم (2356) (ج 2 / ص 881) ومسلم في كتاب الأضاحي - باب جواز الذبح بكل ما أنهر الدم إلا السن والظفر وسائر العظام (1968) (ج 3 / ص 1558).
  4. أخرجه مسلم في كتاب الصلاة - باب الجهر بالقراءة في الصبح والقراءة على الجن (450) (ج 1 / ص 332).
  5. أخرجه البخاري في كتاب الذبائح والصيد - باب قول النبي ﷺ: فليذبح على اسم الله (5181) (ج 5 / ص 2095) ومسلم في كتاب الأضاحي - باب وقتها (1960) (ج 3 / ص 1551).
  6. أخرجه ابن ماجه في كتاب الذبائح - باب التسمية عند الذبح (3174) (ج 2 / ص 1059) والدارمي في كتاب الأضاحي - باب اللحم يوجد فلا يدري أذكر اسم الله عليه أم لا (1976) (ج 2 / ص 114) وصححه الألباني.
  7. أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ  باب تفسير سورة التوبة (3095) (ج 5 / ص 278) وحسنه الألباني.

مرات الإستماع: 0

"وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ سببها أن قومًا من الكفار قالوا: إنا نأكل ما قتلناه، ولا نأكل ما قتل الله، يعنون الميتة". 

جاء عند أبي داود[1] وابن ماجه[2] عن ابن عباس - ا - قال: كانوا يقولون: ما ذكر عليه اسم الله فلا تأكلوا، وما لم يذكر اسم الله عليه فكلوه، فقال الله : وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام: 121] وهذا صححه الحافظ ابن كثير[3] والحافظ ابن حجر[4] والألباني[5] فالشاهد أنهم كانوا يحتجون على النبي ﷺ وعلى المسلمين، وحاصل ذلك أنهم يقولون ما قتله الله بيده الشريفة بسكين من ذهب تقولون: حرام، وما قتلتموه بأيديكم تقولون: حلال، إذًا أنتم أحسن من الله، ونحو هذا من الجدال، والشبهات التي يوحيها الشياطين إلى أوليائهم.

"أَوَ مَنْ كانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْناهُ الموت هنا عبارة عن الكفر، والإحياء عبارة عن الإيمان، والنور: نور الإيمان، والظلمات الكفر، فهي استعارات، وفي قوله: مَيْتًا فَأَحْيَيْناهُ مطابقة، وهي من أدوات البيان، ونزلت الآية في عمار بن ياسر[6] وقيل: في عمر بن الخطاب[7] والذي في الظلمات: أبو جهل[8] ولفظها أعم من ذلك".

تفسير الموت بالكفر، والإحياء بالإيمان في قوله: أَوَ مَنْ كانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْناهُ هذا عند أرباب المجاز من قبيل المجاز، أو الاستعارة.

وبعضهم يدخل الاستعارة في المجاز، فيكون تفسيرًا للفظ على غير ظاهره كما يقولون، والاستعارة عرفنا أنها تشبيه حذف أداته، مع أحد طرفيه، ومثل هذا التفسير على كل حال بصرف النظر عن تسميته دلّ عليه القرآن في مواضع، ولا إشكال فيه، فالله - تبارك، وتعالى - يسمي المؤمن حيًا، والكافر ميتًا، والسياق يدل على هذا بلا شك، فليس المقصود هنا في هذه الآية أنه كان فاقدًا للحياة، بمعنى فارقت روحه جسده، فأحياه الله وشيخ الإسلام - رحمه الله - كما هو معلوم يقول: بأن مثل هذه القرائن السياق، والسباق، واللحاق كل ذلك من شأنه أن يتبادر معه معنى يكون هو الحقيقة، فالحقيقة هي المعنى المتبادر إلى الذهن، فإنه لا يتبادر مع هذه القرائن إلا معنى الإيمان، والكفر، فهذه هي الحقيقة. 

  1.  أخرجه أبو داود في كتاب الضحايا، باب في ذبائح أهل الكتاب برقم: (2818) وصححه الألباني.
  2.  أخرجه ابن ماجه في كتاب الذبائح، باب التسمية، عند الذبح برقم: (3173) وصححه الألباني.
  3.  تفسير ابن كثير ت سلامة (3/329).
  4.  فتح الباري لابن حجر (9/624).
  5.  في صحيح ابن ماجه برقم: (3173) وفي غيره.
  6. تفسير السمعاني (2/141)
  7.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (12/89).
  8. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (12/89) والدر المنثور في التفسير بالمأثور (3/352).