الأحد 13 / ذو القعدة / 1446 - 11 / مايو 2025
وَذَرُوا۟ ظَٰهِرَ ٱلْإِثْمِ وَبَاطِنَهُۥٓ ۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْسِبُونَ ٱلْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا۟ يَقْتَرِفُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ [سورة الأنعام:120].
قال مجاهد: وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ المعصية في السر، والعلانية، وقال قتادة: وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ أي: سرّه، وعلانيته، قليله، وكثيره؛ كقوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ الآية [سورة الأعراف:33]".

فقوله - تبارك وتعالى -: وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ [سورة الأنعام:120] نقل هنا قول قتادة - رحمه الله - بأنه قال: أي سره، وعلانيته، وكذا قول مجاهد: ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ [سورة الأنعام:120] بأنه المعصية في السر، والعلانية.
وبعضهم فسر الظاهر بأفعال الجوارح، والباطن بما خفي مما لا يطلع عليه إلا الله - تبارك وتعالى - وهو ما في القلب من أعمال القلوب، وبعضهم فسر ظاهره بنكاح المحارم، وباطنه بالزنا، وبعضهم فسر ظاهره بالزنا مع البغايا المعلنات، وباطنه بالزنا سراً مع الخليلات، وبعضهم يقول غير ذلك، والأحسن - والله تعالى أعلم - أن يقال: إن هذه المعاني المذكورة داخلة تحت عموم هذه الآية، وأن ظاهر الإثم يدخل فيه كل ما يصدق عليه ذلك مما ظهر على الجوارح من زنىً معلن، أو من كلام بذي فاحش يسمعه غيره أو من نكاح المحارم؛ لأن النكاح لا يخفى، أو غير ذلك مما يظهر به الإثم، ويعلمه الناس، ويشاهدونه أو يتسامعون به، ويدخل في الباطن ما ينطوي عليه القلب مما لا يحبه الله ولا يرضاه، وأعظم ذلك الشرك بالقلب، وكذلك يدخل فيه الزنا سراً، والخوف من غير الله - تبارك وتعالى - خوفاً لا يصلح إلا من الله، وكذلك سائر الأمور التي تكون خفية، وهذا الذي مشى عليه كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله - حيث حمل الآية على العموم، وهذا يرجع إلى المعنى الذي ذكره مجاهد، وقتادة: أي سره، وعلانيته، فظاهر الإثم هو العلانية، والباطن هو السر، ومعنى ذلك أن يترك الإنسان جميع الآثام - يعني جميع الذنوب -، فالإثم يطلق على الذنب لأنه متسبب عنه فتقول: الكذب إثم، ويطلق على جريرة الذنب وهي التبعة، والعقوبة التي تكون على الذنب كما تقول: من أكل المال الحرام يأثم، من سمع المعازف يأثم، بمعنى أنه يلحقه تبعة، وهي أنه يستحق العقوبة، وبعضهم يطلق الإثم على نوع من المعاصي وذلك راجع إلى عرف الاستعمال، يعني في بعض الأعراف قد يطلقون الإثم على نوع خاص من المعصية، إما لكثرة ضرره وشره، وما ينبني عليه من كثرة المعاصي كما تسمى الخمر التي هي أم الخبائث إثماً، كما قال الشاعر:
شربت الإثم حتى ضل عقلي كذاك الإثم تفعل بالعقول
"ولهذا قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ [سورة الأنعام:120] أي: سواء كان ظاهراً أو خفياً، فإن الله سيجزيهم عليه.
روى ابن أبي حاتم عن النواس بن سمعان قال: سألت رسول الله ﷺ عن الإثم فقال: الإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع الناس عليه[1]".

كأن هذا معيار يرجع فيه الإنسان إلى نفسه عند التردد، بمعنى أن هناك أمور واضحة مثل: شرب الخمر، والزنا؛ فهذه لا يقال فيها مثل هذا؛ لأنه قد جاء النص الواضح الصريح في تحريمها، ولكن من الأمور ما قد يتردد فيه الإنسان فربما يجد من يسوغ له ذلك فيفتيه بالجواز، وربما وجد لنفسه المخارج أن هذا لا بأس به ونحو ذلك، فكيف يعرف في مثل هذه الحالات؟ عندنا هذا الحديث، وعندنا الحديث الآخر: استفت قلبك[2] وليس معنى استفت قلبك ترك العلم، والحكم بما أنزل الله ، وترك سؤال أهل العلم، وإنما المراد أن الإنسان أحياناً يسأل، ومع ذلك لا يطمئن؛ لأنه لم يجد الدليل الكاشف الذي يدل على جواز هذا الشيء، فلا تطيب نفسه لفعله، وقد يفعله متتبعاً للرخص، فعندئذ يقال: استفت قلبك، يعني أن الإنسان يجد في قلبه أحياناً إنكاراً لهذا الشيء إذا كان القلب حياً نابضاً بالإيمان، أما القلب الميت فمثل هذا لا يستفتى؛ لأنه لا يشعر كما قال الشاعر:
من يهن يسهلِ الهوانُ عليه ما لجرحٍ بميتٍ إيلامُ
لكن القلب الحي يكون فيه نفور عن العمل السيئ، وانقباض، فقد يحصل له مال بطريقة معينة قد يجد من يسوغ له أخذه ولكنه يجد في نفسه شيئاً، فهنا يقال له: استفت قلبك، ويقال له: الإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس[3].
ولذلك بعض الناس يتردد في بعض المسائل، ويجد أن هذا الأمر غير سائغ؛ فمثل هذا يقال له: دعها طالما أنك تجد في نفسك مثل هذا الحرج؛ لأنه ليس فيها نص واضح بيّن، والأمثلة على هذا كثيرة جداً في المكاسب، وفي الخلطة، والمعاشرة، والنكاح وغير ذلك مما يفعله الإنسان، فإذا قال: أجد في نفسي شيئاً من هذا، نقول: دعه، وأعرض عنه؛ فالإثم ما حاك في الصدر.
  1. أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب - باب تفسير البر والإثم (2553) (ج 4 / ص 1980).
  2. أخرجه الدارمي في كتاب البيوع - باب دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (2533) (ج 2 / ص 320) وأحمد (18035) (ج 4 / ص 228) وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (1734).
  3. أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب - باب تفسير البر والإثم (2553) (ج 4 / ص 1980).

مرات الإستماع: 0

"وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ [الأنعام: 120] لفظ يعم أنواع المعاصي؛ لأن جميعها إما باطن، وإما ظاهر، وقيل: الظاهر الأعمال، والباطن الاعتقاد".

قوله - تبارك، وتعالى -: وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ [الأنعام: 120] وقال الله - تبارك، وتعالى -: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَن [الأعراف: 33] فذكر هنا في آية الأنعام الإثم، وفي الآية الأخرى: الفواحش، وهي أخص من الإثم، كما هو معلوم، لكن اشتركا في هذا الوصف مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَن وقوله هنا "بأن ذلك يعم أنواع المعاصي؛ لأن جميعها إما ظاهر، وإما باطن" هذا هو الأقرب، فالإثم عام لكل ذنب يُعصى الله - تبارك، وتعالى - به، وهذه الذنوب منها ما يتصل بأعمال القلوب، ومنها ما يتصل بأعمال الجوارح، وأعمال القلوب من شأنها أن تخفى، وكذلك أيضًا منها ما يعمل في الخفاء، ومنها ما يعمل في العلانية، فهذا كله مما يدخل في هذا الوصف مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَن لأن الإثم يشمل ذلك جميعًا.

وممن قال بأن الإثم هنا عام مجاهد - رحمه الله - من التابعين، حيث ذهب إلى أن الإثم المراد به: المعصية في السر، والعلانية[1] وقال قتادة أيضًا: سره، وعلانيته، قليله، وكثيره[2] وحمله على العموم هو اختيار أبي جعفر ابن جرير - رحمه الله -[3].

وقال بعضهم: بأن الظاهر هو الزنا، والباطن هو الزنا خفية، يعني مع الخليلات، ونحو ذلك، وبعضهم فسر الظاهر بنكاح المحارم، والباطن بالزنا، باعتبار أنه يُفعل خفية بخلاف النكاح، فإنه يكون معلنًا، وهذه الأقوال هي أشبه ما تكون بالتفسير بالمثال، يعني كأنهم أرادوا أن يفسروا بالمثال، لا أن يحصر المعنى بما ذُكر، ومن، ثم فلا إشكال أن هذه المعاني المذكورة داخلة تحت معنى الآية.

لكن قوله - تبارك، وتعالى - في الآية الأخرى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ [الأعراف: 33] فالفواحش هنا نوع من الآثام، إما أنها تختص بالزنا، ونحوه، أو أنها تختص بالعظائم من الذنوب، والجرائم، ولا شك أن الآية الثانية أخص من الأولى - والله أعلم -.

"وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ الضمير لمصدر لَا تَأْكُلُوا"

قوله: وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ [الأنعام: 121] بعضهم يقول: إن الضمير في وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ يعود على الذبح لغير الله - تبارك، وتعالى - بذكر اسم غير الله، أو الذبح للأصنام، والمعبودات من دون الله - تبارك، وتعالى - فما لم يذكر اسم الله عليه هو متروك التسمية على تفصيل.

  1. تفسير ابن كثير ت سلامة (3/323).
  2. المصدر السابق
  3. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (12/75).