بعض السلف كعطاء حمل قوله تعالى: فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ [سورة الأنعام:118] على العموم يعني في سائر المطعومات، والذي عليه عامة أهل العلم، وهو الذي يدل عليه السياق، ومقتضى الحال أن المقصود بذلك الذبائح، وهكذا في قوله - تبارك وتعالى -: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ [سورة المائدة:5] المقصود به الذبائح على قول عامة أهل العلم، وأما غير الذبائح فلا يختص ذلك بأهل الكتاب مما يصنعونه من خبز ونحوه، فهنا في قوله: فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ [سورة الأنعام:118] أي في الذبائح، وهذا أمر مستلزم لمعنى النهي، ودلالة الالتزام هذه مصرح بها فيما سيأتي بعده من قوله: وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ [سورة الأنعام:121]، فقوله: فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ [سورة الأنعام:118] يعني ولا تأكلوا ما لم يذكر اسم الله عليه.
وإذا كانت هذه الآية في الذبائح فإن ابن جرير - رحمه الله - حمل ذلك على اعتبار حال الذابح يعني من يقوم بالتذكية ممن تحل ذبيحته، وهو المسلم الذي لا يذبح لغير الله ، أو الكتابي الذي لا يذبح لغير الله أيضاً، بخلاف طوائف المشركين الذين يذبحون لأوثانهم، وأصنامهم وما أشبه ذلك، ولهذا لا يرى - رحمه الله - وجوب التسمية عند الذبح، وغير ابن جرير حمل ذلك على أن المراد وجوب التسمية عند الذبح، وسيأتي الكلام على هذا عند قوله - تبارك وتعالى -: وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ [سورة الأنعام:121].
يقول تعالى: وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ [سورة الأنعام:119] فأين فصل هذا؟ فصله عند قوله تعالى: قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة الأنعام:145] وبعض العلماء قال: فصله في سورة المائدة، لكن هذا في غاية البعد؛ لأن سورة المائدة هي آخر ما نزل في الأحكام، وهذه السورة مكية.
ثم بيّن - تعالى - جهالة المشركين في آرائهم الفاسدة من استحلال الميتات، وما ذكر عليه غير اسم الله - تعالى - فقال: وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ [سورة الأنعام:119] أي: هو أعلم باعتدائهم، وكذبهم، وافترائهم".
سيأتي أن من إضلالهم في هذا الباب ما ذكر الله - تبارك وتعالى - في قوله: وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاء عَلَيْهِ [سورة الأنعام:138] إلى غير ذلك من الفِرى التي يفتريها هؤلاء الجهلة الذين يقولون على الله بغير علم، والله المستعان.