يقول تعالى: وَرَبُّكَ يا محمد الْغَنِيُّ أي: عن جميع خلقه من جميع الوجوه وهم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، ذُو الرَّحْمَةِ أي: وهو مع ذلك رحيم بهم كما قال تعالى: إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [سورة البقرة:143].
إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أي: إذا خالفتم أمره وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء أي: قوماً آخرين أي يعملون بطاعته، كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ أي: هو قادر على ذلك، سهل عليه يسير لديه، كما أذهب القرون الأول، وأتى بالذي بعدها، كذلك هو قادر على إذهاب هؤلاء، والإتيان بآخرين كما قال - تعالى -: إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا [سورة النساء:133] وقال - تعالى -: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [سورة فاطر:15-17]".
ففي قوله - تبارك وتعالى -: كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ [سورة الأنعام:133] يقول الحافظ - رحمه الله -: "أي: هو قادر على ذلك، سهل عليه، يسير لديه، كما أذهب القرون الأول وأتى بالذي بعدها، كذلك هو قادر على إذهاب هؤلاء، والإتيان بآخرين" يعني جاء بكم فأحدثكم، وابتدعكم، وأنشأكم، وأوجدكم من نسل خلق آخرين كانوا قبلكم هلكوا أو أهلكهم الله - تبارك وتعالى -، فهو قادر على إذهابكم كما أذهبهم.
وقوله تعالى: ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ [سورة الأنعام:133] أي من نسلهم، فالذرية تطلق على النسل، وقد تأتي بمعنى الآباء، والأجداد، ولذلك فإن بعضهم ربما يفسر هذه الآية بهذا ويظهر هذا المعنى في أحد الأوجه المشهورة في تفسير قوله - تبارك وتعالى -: وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [سورة يس:41].
ومعلوم أن الذين حملوا في الفلك هم آباء المخاطبين الذين خاطبهم القرآن بهذا من قريش، أو العرب، أو كل من يتوجه إليه الخطاب باعتبار أن المقصود بالفلك المشحون سفينة نوح - عليه الصلاة والسلام -، وعلى هذا المعنى يكون المراد بالذرية الآباء، والأجداد، وهذا جواب للإشكال الذي قد يرد في هذه الآية، وإن كان بعض أهل العلم قالوا: إن الفلك المشحون في الآية ليس المقصود به سفينة نوح؛ وإنما المقصود به السفن التي يحملون عليها، وينتقلون فيها من محل إلى آخر.
والخلاصة أن الذرية في كلام العرب تطلق على ما تناسل من الإنسان، وتطلق على ما تناسل منه الإنسان من الآباء، والأجداد فقوله تعالى: كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ [سورة الأنعام:133] أي: من نسلهم.
يقول: "الذرية الأصل، والذرية النسل" هذا عن أبان بن عثمان في زمن الاحتجاج، فهي بهذا الاعتبار تطلق على المعنيين المتقابلين الذي يسمونه "الأضداد"، فالأضداد هي الكلمات التي تطلق على معان وعلى ما يقابل تلك المعان مثل: "عسعس" بمعنى أقبل وأدبر، والقرء بمعنى الطهر والحيض، وهكذا.