الأحد 06 / ذو القعدة / 1446 - 04 / مايو 2025
وَهُوَ ٱلَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَٰٓئِفَ ٱلْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَٰتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِى مَآ ءَاتَىٰكُمْ ۗ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ ٱلْعِقَابِ وَإِنَّهُۥ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌۢ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة الأنعام:165].
يقول تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ أي: جعلكم تعمرونها جيلاً بعد جيل، وقرناً بعد قرن، وخلفاً بعد سلف - قاله ابن زيد وغيره - كقوله تعالى: وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ [سورة الزخرف:60]، وكقوله تعالى: وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ [سورة النمل:62]، وقوله: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [سورة البقرة:30]، وقوله: عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [سورة الأعراف:129].
وقوله: وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ [سورة الأنعام:165] أي: فاوت بينكم في الأرزاق، والأخلاق، والمحاسن، والمساوئ، والمناظر، والأشكال، والألوان، وله الحكمة في ذلك".


قوله: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ يقول ابن كثير: جعلكم تعمرونها جيلاً بعد جيل، وقرناً بعد قرن، وخلفاً بعد سلف" وخلائف الأرض أي يخلف بعضكم بعضاً.
وابن جرير - رحمه الله - قال: أي أن الله جعلكم خالفين للأمم التي أهلكها قبلكم، يعني استخلفكم بعدهم، وهذا المعنى لا يخرج عن المعنى الذي ذكره ابن كثير - رحم الله الجميع -.
وفي قوله - تبارك وتعالى -: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [سورة البقرة:30] يقول بعضهم: خليفة من الجن الذين كانوا في الأرض قبل بني آدم، وأنهم أفسدوا فيها، ثم قاتلتهم الملائكة فجعل الآدميين خلائف من الجن - وهذا كله مبني على الإسرائيليات -، وبعضهم يقول: يعني أنه يخلف بعضهم بعضاً، وعلى كل حال ليس المراد بأي آية من هذه الآيات أن الإنسان خليفة الله في الأرض - كما قال بعضهم -، فالله أعظم وأجل من ذلك، فهذا المعنى - وإن قال به بعض أهل العلم - إلا أنه خلاف التحقيق، فلا يصح أن يقال إطلاقاً.

"كقوله تعالى: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا [سورة الزخرف:32]، وقوله: انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً [سورة الإسراء:21]".


قوله: وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ [سورة الأنعام:165] يعني في العقول، والقوة، والعلم، والغنى، والشرف، والمرتبة.
وقوله: لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ [سورة الأنعام:165] هذه هي الحكمة من هذا التفاوت، فحساب الذكي ليس كحساب الغبي، وحساب الغني ليس كحساب الفقير، وحساب القوي ليس كحساب الضعيف، فالناس يتفاوتون بحسب ما أعطاهم الله من القُدر، والإمكانات.
وفي بعض المواضع بيّن الله أن هذا التفاوت من أجل أن يتخذ بعضهم بعضاً سخرياً، ليُسخَّر بعضهم لبعض؛ لأنهم لو كانوا صبة واحدة لا تفاوت بينهم في العقول، والإمكانات، والغنى وما أشبه ذلك لما وجدت أحداً يعمل لأحد، ولاستغنى الناس بعضهم عن بعض، بمعنى أنك لن تجد من يقُمُّ الطريق، وما وجدت من يبني، ولا من يحمل المتاع، ولا من يصلح السيارة، ولا من يزاول المهن، أو الخدمة ولا غير ذلك، لكن لما كان هذا يحتاج إلى المال، وهذا عنده مهنة يكتسب بها، وهذا فقير، وهذا غني؛ صار بعضهم يحتاج إلى بعض، فهذا ميزه الله بالعلم في هذا الجانب، فيحتاج الناس إليه، وهو يحتاج إليهم في علم آخر، أو احتاج إلى من لهم مهن يزاولونها، وهكذا يكمل الناس بعضهم بعضاً، وتقوم الحياة بهذه الطريقة.

"قوله تعالى: لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ [سورة الأنعام:165] أي: ليختبركم في الذي أنعم به عليكم، وامتحنكم به؛ ليختبر الغني في غناه، ويسأله عن شكره، والفقير في فقره، ويسأله عن صبره.
وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ: إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها؛ فناظر ماذا تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء[1].
وقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة الأنعام:165] ترهيب، وترغيب؛ أن حسابه، وعقابه؛ سريع في من عصاه، وخالف رسله، وإنه لغفور رحيم لمن والاه، واتبع رسله فيما جاؤوا به من خبر، وطلب، وكثيراً ما يقرن الله - تعالى - في القرآن بين هاتين الصفتين كقوله: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ [سورة الرعد:6]، وقوله: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ* وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ [سورة الحجر:49-50] إلى غير ذلك من الآيات المشتملة على الترغيب، والترهيب، فتارة يدعو عباده إليه بالرغبة، وصفة الجنة، والترغيب فيما لديه، وتارة يدعوهم إليه بالرهبة، وذكر النار، وأنكالها، وعذابها، والقيامة وأهوالها، وتارة بهما لينجع في كلٍ بحسبه.
جعلنا الله ممن أطاعوا فيما أمر، وترك ما عنه نهى وزجر، وصدقه فيما أخبر، إنه قريب مجيب، سميع الدعاء، جواد كريم وهاب.
وقد روى الإمام أحمد عن أبي هريرة مرفوعاً أن رسول الله ﷺ قال: لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط أحد من الجنة، خلق الله مائة رحمة فوضع واحدة بين خلقه يتراحمون بها، وعند الله تسعة وتسعون ورواه الترمذي وقال: حديث حسن، ورواه مسلم[2].
وعنه أيضاً قال: قال رسول الله ﷺ: لما خلق الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي[3].
آخر تفسير سورة الأنعام، ولله الحمد والمنة".
  1. أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار - باب أكثر أهل الجنة الفقراء وأكثر أهل النار النساء وبيان الفتنة بالنساء (2742) (ج 4 / ص 2098).
  2. أخرجه مسلم في كتاب التوبة - باب في سعة رحمة الله - تعالى - وأنها سبقت غضبه (2755) (ج 4 / ص 2109).
  3. أخرجه البخاري في كتاب التوحيد -  باب قول الله - تعالى -: وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ [سورة آل عمران:28] (6969) (ج 6 / ص 2694).

مرات الإستماع: 0

"قوله تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ [الأنعام: 165] ليختبر شكركم على ما أعطاكم، وأعمالكم فيما مكنكم فيه."

كما قال ابن كثير: "ليختبر الغني في غناه، ويسأله عن شكره، والفقير في فقره، ويسأله عن صبره لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ"[1] بهذا التفاضل جعل هذا غنيا، والآخر فقيرا، وهذا صحيحا، وهذا عليلا، وهذا عالما، وهذا جاهلا، وهكذا ليبلوهم في هذا ماذا عمل بهذا المال، وماذا أعطى لهؤلاء المحتاجين، وماذا كان حال هذا الفقير، فيبتلي الغني بالفقير، والفقير بالغني، ويبتلي الغني بالمال، ويبتلي الفقير بالفقر، وهكذا يبتلي الصحيح بالعافية، ويبتلي العليل بالمرض، ونحو ذلك - والله أعلم -.

"قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ جمع بين التخويف، والترجية، وسرعة عقابه تعالى إما في الدنيا بمن عجل أخذه، أو في الآخرة؛ لأن كل آت قريب، ونسأل الله أن يغفر لنا، ويرحمنا بفضله، ورحمته.

في زيادة تمت سورة الأنعام بعون الله، وفضله، فله الحمد، وبتمامها تم الكلام على الربع الأول من القرآن العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد الأمين، المبلغ الهادي، وعلى آله، وصحبه، وسلم تسليما كثيرًا."

  1. تفسير ابن كثير (3/385).