يقول تعالى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين بالله في إخلاص العبادة له، والتوكل عليه أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبًّا [سورة الأنعام:164] أي: أطلب رباً سواه وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ [سورة الأنعام:164] يربيني، ويحفظني، ويكلؤني، ويدبر أمري، أي: لا أتوكل إلا عليه، ولا أنيب إلا إليه؛ لأنه رب كل شيء، ومليكه، وله الخلق والأمر، ففي هذه الآية الأمر بإخلاص التوكل كما تضمنت التي قبلها إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، وهذا المعنى يقرن بالآخر كثيراً في القرآن كقوله - تعالى - مرشداً لعباده أن يقولوا له: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5]، وقوله: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [سورة هود:123]، وقوله: قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا [سورة الملك:29]، وقوله: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [سورة المزمل:9]، وأشباه ذلك من الآيات.
وقوله تعالى: وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ [سورة الأنعام:164] إخبار عن الواقع يوم القيامة في جزاء الله - تعالى -، وحكمه، وعدله؛ أن النفوس إنما تجازى بأعمالها إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، وأنه لا يحمل من خطيئة أحد على أحد وهذا من عدله - تعالى - كما قال: وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [سورة فاطر:18]، وقوله تعالى: فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا [سورة طه:112] قال علماء التفسير: أي: فلا يظلم بأن يحمل عليه سيئات غيره، ولا يهضم بأن ينقص من حسناته، وقال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ [سورة المدثر:38-39] معناه كل نفس مرتهنة بعلمها السيئ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ [سورة المدثر:39] فإنه قد يعود بركة أعمالهم الصالحة على ذرياتهم، وقرابتهم كما قال في سورة الطور: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ [سورة الطور:21] أي: ألحقنا بهم ذريتهم في المنزلة الرفيعة في الجنة، وإن لم يكونوا قد شاركوهم في الأعمال بل في أصل الإيمان.
وَمَا أَلَتْنَاهُم أي: أنقصنا أولئك السادة الرفعاء من أعمالهم شيئاً حتى ساويناهم وهؤلاء الذين هم أنقص منهم منزلة، بل رفعهم - تعالى - إلى منزلة الآباء ببركة أعمالهم بفضلة، ومنته، ثم قال: كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [سورة الطور:21] أي: من شر".
قوله - تبارك وتعالى -: وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [سورة الأنعام:164] لا ينافي قوله - تبارك وتعالى -: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ [سورة العنكبوت:13] وما ورد من مضاعفة العذاب للأئمة المضلين، فإن ذلك مما تسبب عن عملهم، ونتج عنه، فإنهم يحملون أوزار من أضلوهم، والنبي ﷺ أخبر أن من سن سنة سيئة فعليه وزرها، ووزر من عمل بها[1] ولذلك فإن قوله: وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى أي: أن الإنسان لا يحمل جريرة عمل غيره وإنما يتحمل عمله فقط، فإن تسبب في إضلال أحد من الناس فإن ذلك من عمله، ويجازى عليه، ويضاعف له بذلك الأوزار، والعذاب، فمن ابتدع بدعة اتبع عليها فإنه يحمل أوزار من عمل بذلك العمل، ولا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً، فالآيات متوافقة، فهذه الآية تدل فقط على أن الإنسان لا يظلم، ولا يؤخذ وزر إنسان آخر، ويوضع عليه كما قال تعالى: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ [سورة الإسراء:13] يعني عمله في عنقه، فيجازى على أعماله فقط، ولا يجازى على أعمال الآخرين، إلا إن كان متسبباً.
- أخرجه مسلم في كتاب الزكاة - باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة وأنها حجاب من النار (1017) (ج 2 / ص 704).