هذا هو المعنى المتعيّن في قوله: وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [سورة الأنعام:163] أي هو مسبوق إلى الإسلام، لكن لا بد هنا من تقدير وأنا أول المسلمين من هذه الأمة، وهكذا يقدر في جميع المواضع في القرآن، حتى قول الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - مما ورد على لسانهم مما حكاه الله عنهم، فالمراد أول المسلمين من أمته، وإلا فهم مسبوقون بآدم ﷺ وكان على الإسلام، ولذلك لا حاجة لقول من قال: إن المراد بقوله: وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [سورة الأنعام:163] أي أن هذه الأمة وإن كانت متأخرة إلا أنها تكون متقدمة على سائر الأمم، حيث إنها تحاسب قبلها، وتدخل الجنة قبلها، فليس هذا هو المراد، وإنما المراد وأنا أول الداخلين في الإسلام من هذه الأمة - والله أعلم -.
وقد أخبرنا تعالى عن نوح أنه قال لقومه: فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [سورة يونس:72]، وقال تعالى: وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [سورة البقرة:130-132]، وقال يوسف : رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [سورة يوسف:101]، وقال موسى : يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ فَقَالُواْ عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [سورة يونس:84-86]، وقال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ الآية [سورة المائدة:44]، وقال تعالى: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ [سورة المائدة:111] فأخبر تعالى أنه بعث رسله بالإسلام، ولكنهم متفاوتون فيه بحسب شرائعهم الخاصة التي ينسخ بعضها بعضاً؛ إلى أن نسخت بشريعة محمد ﷺ التي لا تنسخ أبد الآبدين، ولا تزال قائمة منصورة، وأعلامها منشورة إلى قيام الساعة، ولهذا قال : نحن معاشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد[1] فإن أولاد العلات هم الأخوة من أب واحد وأمهات شتى، فالدين واحد وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وإن تنوعت الشرائع التي هي بمنزلة الأمهات، كما أن أخوة الأخياف عكس هذا بنو الأم الواحدة من آباء شتى، والأخوة الأعيان الأشقاء من أب واحد، وأم واحدة - والله أعلم -.
وقد روى الإمام أحمد عن علي أن رسول الله ﷺ كان إذا كبر استفتح ثم قال: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، إن صلاتي، ونسكي، ومحياي، ومماتي لله رب العالمين، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي، وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعاً، لا يغفر الذنوب إلى أنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت، تبارك، وتعاليت، أستغفرك، وأتوب إليك، ثم ذكر تمام الحديث فيما يقوله في الركوع، والسجود، والتشهد، وقد رواه مسلم في صحيحه[2]".
هذا الاستفتاح كان يقوله ﷺ في صلاة الليل، وذكرنا في شرح العمدة أن ما ورد مقيداً من الأذكار في صلاة الليل من أدعية الاستفتاح، وأدعية الركوع، والسجود؛ فإنه يقال في صلاة الليل، ومن ذلك قوله ﷺ في دعاء استفتاح الصلاة: الله أكبر - ثلاثاً - ذو الملكوت، والجبروت، والكبرياء، والعظمة[3] فإنه يقال في صلاة الليل.
- أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء - باب قوله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا [سورة مريم:16] (3259) (ج 3 / ص 1270) ومسلم في كتاب الفضائل - باب فضائل عيسى (2365) (ج 4 / ص 1837).
- هو في مسلم مختصر - كما سبق -، وأخرجه بتمامه أبو داود في كتاب الصلاة - باب ما يستفتح به الصلاة من الدعاء (760) (ج 1 / ص 277).
- أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة - باب ما يقول الرجل في ركوعه، وسجوده (874) (ج 1 / ص 325) والنسائي في كتاب صفة الصلاة - باب الدعاء بين السجدتين (1145) (ج 2 / ص 231) وصححه الألباني في المشكاة برقم (1200).