الجمعة 04 / ذو القعدة / 1446 - 02 / مايو 2025
قُلْ إِنَّ صَلَاتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وقوله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الأنعام:162] يأمره تعالى أن يخبر المشركين الذين يعبدون غير الله، ويذبحون لغير اسمه؛ أنه مخالف لهم في ذلك، فإن صلاته لله، ونسكه على اسمه وحده لا شريك له، وهذا كقوله تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [سورة الكوثر:2] أي: أخلص له صلاتك، وذبحك؛ فإن المشركين كانوا يعبدون الأصنام، ويذبحون لها؛ فأمره الله - تعالى - بمخالفتهم، والانحراف عما هم فيه، والإقبال بالقصد، والنية، والعزم ؛على الإخلاص لله - تعالى -.
قال مجاهد في قوله: إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي [سورة الأنعام:162] النسك: الذبح في الحج، والعمرة".


الحافظ ابن كثير - رحمه الله - مشى هنا على أساس أن النسك بمعنى الذبح، والنسك يطلق على الذبح، وهو عبادة من أجلِّ العبادات، فيقال للهدي، والأضحية: هذه نسيكة، ولهذا عبر بعض السلف عن هذا بالأضحية، وبعضهم قال: ما يذبح في الحج من الهدايا، وبعضهم فسره بما هو أعم من هذا قال: هو الحج، فالحج يقال له نسك، ولهذا يقال: أحكام المناسك، وبعضهم فسره بأعم من ذلك كله فقالوا: المراد بالنسك العبادة، يقال: فلان ناسك، وفلان يتنسك يعني يتعبد، فكل ذلك يقال له: نسك، فإذا فسر قوله: قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي [سورة الأنعام:162] بهذا المعنى العام يكون هذا من باب عطف العام على الخاص يعني صلاتي، وعبادتي، وإذا فسر ببعض معناه كأن يقال: إن صلاتي، وحجي، أو إن صلاتي وذبحي لله - سواء كانت أضحية، أو الهدي الذي في الحج - فهذا يكون من عطف المتغايرات أي عطف الأنواع بعضها على بعض، ومن قال: إن النسك يعني الأضحية أو أنه الهدي فهذا من باب المثال، والذبيحة تشمل ذلك جميعاً، والله - تعالى - أعلم.

"وروى ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله - ا - قال: ضحى رسول الله ﷺ في يوم عيد النحر بكبشين، وقال حين ذبحهما: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً، وما أنا من المشركين، إن صلاتي، ونسكي، ومحياي، ومماتي؛ لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت، وأنا أول المسلمين[1]".


وقوله: وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي [سورة الأنعام:162] قال بعضهم: ومحياي أي: ما أعمله في حال الحياة من ألوان البر، والعمل الصالح، ومماتي أي: ما أتسبب في وقوعه بعد الموت كالوصية التي تنفذ بعد موته من صدقة ونحو ذلك.
وبعضهم قال: ومحياي، ومماتي؛ أن المراد بذلك الحياة والموت، أي أنه قد وجه وجهه لله رب العالمين وحده أفرده بالعبادة، فهو لا يتوجه إلى أحد سواه في صلاته، وفي ذبحه، وعبادته، وحياتُه كلها لله، ومماتُه كله لله لا يتوجه إلى أحد سواه، وهذا الذي فسرها به كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله -، والقول بأن المراد بذلك ما يعمله في الحياة، وبعد الموت؛ لا يبعد عن هذا؛ لأنه إذا كانت حياة الإنسان لله أصلاً، فمعنى ذلك أنه مشتغل بطاعته، وتوحيده، والتقرب إليه؛ والتوجه إليه، لا يشغله عن ذلك انصراف إلى معبود سواه، ولا يشغله عن ذلك اشتغال بهوى؛ فالهوى أيضاً سماه الله إلهاً قال تعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [سورة الفرقان:43] فتكون حياته لغير الله ، فهو يحيا لشهواته، ونزوات نفسه، ويكون مضيعاً لأمر الله - تبارك وتعالى -؛ تاركاً له.

  1. أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها -  باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه (771) (ج 1 / ص 534).

مرات الإستماع: 0

"قوله تعالى: وَنُسُكِي [الأنعام: 162] أي: عبادتي، وقيل: ذبحي للبهائم."

هذا اختيار ابن جرير[1] وابن كثير[2] من المعاصرين السعدي[3] وهو قول الجمهور وَنُسُكِي أي: عبادتي، وقيل: ذبحي للبهائم هو يطلق على العبادة، ويطلق على الذبح تقربا إلى الله ويطلق أيضا على الحج، فله إطلاقات أخص إطلاقاته الذبح، ثم بعد ذلك يأتي الحج، ومن أعمال الحج الذبح، ثم يأتي إطلاق أوسع، وهو العبادة، ومنها الحج، ومنها الذبح، فهي إطلاقات صحيحة، فأصل المادة نسك يدل على عبادة، وتقرب إلى الله؛ لهذا يقال للعابد: ناسك.

"وقيل: حجي، والأول أعم، وأرجح، قوله تعالى: وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي [الأنعام: 162] أي: أعمالي في حين حياتي، وعند موتي."

في حين حياتي، وعند موتي كلها لله وبعضهم حمل على ما يكون في الممات، ومماتي يعني ما أوصي به بعد موتي، وهذا وإن اختاره القرطبي - رحمه الله -[4] إلا أن ما ذكر ابن جزي كأنه أقرب - والله أعلم - من هذا.

وبعضهم يقول: المعنى أن الذي يحييني، ويميتني هو الله، فهو الذي يدبر أمري حيا، وميتا وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي تدبير أمور حياتي، ومماتي كل ذلك لله، وهذا الذي رجحه الواحدي[5] والسعدي[6] وابن جرير فسره بنفس الحياة، والموت[7] لكن تفسير ابن جزي هنا أعمالي في حين حياتي، وعند موتي باعتبار أن الحياة ظرف، والإنسان لا عمل له بعد الموت، ففسره بعند الموت. 

  1.  تفسير الطبري (10/47).
  2.  تفسير ابن كثير (3/382).
  3.  تفسير السعدي (ص: 282).
  4.  تفسير القرطبي (7/152).
  5.  التفسير الوسيط للواحدي (2/344).
  6.  تفسير السعدي (ص: 282).
  7.  تفسير الطبري (10/46).