الجمعة 04 / ذو القعدة / 1446 - 02 / مايو 2025
قُلْ إِنَّنِى هَدَىٰنِى رَبِّىٓ إِلَىٰ صِرَٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ حَنِيفًا ۚ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ۝ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [سورة الأنعام:161-163].
يقول تعالى آمراً نبيه ﷺ سيد المرسلين أن يخبر بما أنعم به عليه من الهداية إلى صراطه المستقيم الذي لا اعوجاج فيه، ولا انحراف.
دِينًا قِيَمًا أي: قائماً ثابتاً".


قوله تعالى: دِينًا قِيَمًا - بالتخفيف - هذه قراءة الكوفيين وابن عامر، وعلى قراءة بقية السبعة بالتشديد (ديناً قيّماً)، والمعنى في القراءتين واحد بمعنى أنه دين مستقيم لا اعوجاج فيه كما قال: هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ، وكقوله تعالى: ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [سورة الروم:30] يعني الدين المستقيم، وكقوله تعالى: وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [سورة البينة:5] فقِيَماً وقيِّماً بمعنى الدين المستقيم، ثم بيّنه، ووضحه بقوله بعد: مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يعني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً مستقيماً ملة أبي إبراهيم - عليه الصلاة والسلام -.

"مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كقوله: وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ [سورة البقرة:130] وقوله: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ [سورة الحج:78] وقوله: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ۝ شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ۝ وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ۝ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [سورة النحل:120-123] وليس يلزم من كونه ﷺ أُمر باتِّباع ملة إبراهيم الحنيفية أن يكون إبراهيم أكمل منه فيها؛ لأنه قام بها قياماً عظيماً، وأكملت له إكمالاً تاماً لم يسبقه أحد إلى هذا الكمال".


هذا جواب على سؤال مقدر هو أن النبي ﷺ إذا كان له في إبراهيم أسوة وقدوة، وهو مأمور باتباع ملة إبراهيم ﷺ؛ فإن المتبوع أكمل من التابع، فهو يقتدي به، ويتأسى به؛ ليحصل الكمال، فهل هذا يعني أن إبراهيم ﷺ أكمل وأفضل من نبينا محمد - عليه الصلاة والسلام -؟

فالجواب: لا، وقد ذكر أهل العلم هذا الإشكال والجواب عنه، وخلاصة ذلك أشار إليه الحافظ ابن كثير، ويمكن أن يوضح بعبارة أبين من هذا وهو أن يقال: إن اقتداء النبي ﷺ بإبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ليكون بذلك محصلاً للكمال الذي حصله؛ فيزيد عليه النبي ﷺ بما حباه الله به من الفضائل، والكمالات فوق ذلك.
وهذه المسألة ذُكرت عند الكلام على الصلاة على النبي ﷺ في التشهد: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، حيث إن بعض أهل العلم ذكر الكلام على هذه المسألة هناك.
 

"ولهذا كان خاتم الأنبياء وسيد ولد آدم على الإطلاق، وصاحب المقام المحمود الذي يرغب إليه الخلق حتى الخليل .
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس - ا - أنه قال: قيل لرسول الله ﷺ: أي الأديان أحب إلى الله - تعالى -؟ قال: الحنيفية السمحة[1]".
  1. أخرجه البخاري في الأدب المفرد (287) (ج 1 / ص 108) وأحمد (2107) (ج 1 / ص 236) والطبراني في الكبير (11597) (ج 11 / ص 227) وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (160).

مرات الإستماع: 0

"قوله تعالى: دِينًا قِيَمًا بدل من موضع إلى صراط مستقيم، لأن أصله هداني صراطا بدليل اهْدِنَا الصِّرَاطَ [الفاتحة: 6] والقيم فيعل من القيام، وهو أبلغ من قائم، وقرئ قيما بكسر القاف، وتخفيف الياء، وفتحها، وهو على هذا مصدر وصف به."

هنا هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا [الأنعام: 161] فهو بدل من الصراط المستقيم، القيم يقول: فيعل من القيام، وبعضهم يقول: من قام لكن باعتبار الإرجاع إلى المصدر، وهو أحسن، يقال: من القيم، وهو أبلغ من قائم يعني يفيد قوة الاتصاف بمصدره، فهذا الوزن يدل على قوة ما يصاغ منه، قيمًا أبلغ من قائم، يقول: وقرئ قيما بكسر القاف، وتخفيف الياء، وفتحها قراءة الكسر هذه هي التي نقرأ بها، قراءة حفص، وكذلك قرأ بها ابن عامر.

وهنا أيضا قال: وفتحها يعني فتح الياء، وهو على هذا مصدر، وصف به يعني على سبيل المبالغة، كقولهم مثلا: رجل عدل، دين قيم يعني قائم، أو مستقيم، دين قائم ثابت كما يقول ابن كثير - رحمه الله -[1] ومعتدل دين قائم، وابن جرير يقول: "مستقيم"[2] ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة: 5] دين الاستقامة الدين المستقيم.

"قوله تعالى: مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ [الأنعام: 161] بدلا من دينا، أو عطف بيان."

الملة هي الدين كما سبق في الغريب، يقولون: ومشتقة من أمللت، يعني أمليت يقولون: لأنها تبنى على مسموع، ومتلو، فإذا أريد الدين باعتبار الدعوة إليه قيل: الملة، وإذا أريد باعتبار الطاعة، والانقياد له قيل: دين، دان يدين. 

  1. تفسير ابن كثير (6/316).
  2. تفسير الطبري (10/45).