قوله: ولا يهلك على الله إلا هالك كما قيل: ويل لمن غلبت آحاده عشراته، فالحسنة بعشر أمثالها، وفي الآية الأخرى قال عن الإنفاق: مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء [سورة البقرة:261]، وأخبر عن الصبر فقال: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ [سورة الزمر:10] وفي الصيام يقول النبي ﷺ فيما يرويه عن ربه - جل وعلا -: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به[2] وهو من الصبر، ولذلك يقول هنا: ولا يهلك على الله إلا هالك لأن السيئة بواحدة، والحسنة بعشر إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، فكيف به، وما معنى أن يأتي وسيئاته أكثر من حسناته في الميزان لا سيما وأن الحسنة تعظم، والصدقة يربيها الله ؟!
واعلم أن تارك السيئة الذي لا يعملها على ثلاثة أقسام: تارة يتركها لله، فهذا تكتب له حسنة على كفِّه عنها لله - تعالى -، وهذا عمل ونية، ولهذا جاء أنه يكتب له حسنة كما جاء في بعض ألفاظ الصحيح: فإنما تركها من جرائي[4] أي: من أجلي، وتارة يتركها نسياناً وذهولاً عنها، فهذا لا له، ولا عليه؛ لأنه لم ينوِ خيراً، ولا فعل شراً، وتارة يتركها عجزاً وكسلاً عنها بعد السعي في أسبابها، والتلبس بما يقرب منها، فهذا بمنزلة فاعلها كما جاء في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قالوا: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه[5]".
هذا التقسيم الذي ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في مسألة ترك السيئات تقسيم جيد، ويمكن أن يزاد عليه، فالإنسان في تركه للسيئة من حيث الأجر، والثواب، أو العقاب، أو أن لا تكون له، ولا عليه؛ على أنواع:
النوع الأول: هو النوع الذي يثاب عليه، وذلك أن يكون همَّ بسيئة، والهم قد يكون بمعنى ما يخطر في البال - حديث النفس كما قال الله في هم يوسف ﷺ: وَهَمَّ بِهَا [سورة يوسف:24] فهو من باب الخطرات، لكن الأكثر في الاستعمال لمادة "همَّ" هو انبعاث النفس إلى الفعل دون أن يصل ذلك إلى حد العزم المصمم، أما الخطرات فإن الغالب أن الهم لا يطلق عليها في عرف الاستعمال، فالحاصل أن الخطرات لا يحاسب عليها.
يقول - عليه الصلاة والسلام -: ومن هم بسيئة فلم يعملها خوفاً من الله فإنه يثاب تكتب له حسنة، لأنه كما قال: فإنه تركها من جرائي أي خوفاً من الله.
أما إذا همَّ بالسيئة، ولكنه تركها ذهولاً أو نسياناً، أو تركها حياء، أو حياء من الناس، أو لعدم تمكنه منها، أو لم يجد الطريق إليها؛ ففي هذه الحالة لا يكتب له حسنة، ولكن لا تكتب عليه أيضاً سيئة؛ لأنها مجرد همّ، أما العزم المصمم فهو بمنزلة الفعل كما قال - عليه الصلاة والسلام -: القاتل والمقتول في النار فلو أنه ذهب إلى المعصية وفي الطريق إليها وقع فانكسر، أو صدم، ومن صور ذلك أن يواعد امرأة في مكان فذهب ولم يجدها؛ فهذا تكتب عليه سيئة؛ لأنه عزم مصمم، ومثله من عزم على أن يسرق مالاً فلما ذهب لم يجده، فهذا تكتب عليه سيئة.
وأما من ترك السيئات من غير همٍّ، ولا خطرٍ في البال، وإنما هو ذاهل عنها، مشتغل بما هو بصدده؛ فمثل هذا لا تكتب له حسنات على تركه ذلك، ولذا لا يقال: إن الناس المشغولين بأعمالهم من البيع، والشراء وغيره، والنائمين وغيرهم تكتب لهم الحسنات؛ لأنهم لم يذهبوا إلى المراقص، والخمارات، ونحوها من أماكن الفساد؛ لأن ترك الذنوب والسيئات على أنواع كم سبق.
وعن أبي ذر قال: قال رسول الله ﷺ: من صام ثلاثة أيام من كل شهر فقد صام الدهر كله رواه الإمام أحمد وهذا لفظه، والنسائي، وابن ماجه، والترمذي، وزاد: فأنزل الله تصديق ذلك في كتابه: مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [سورة الأنعام:160] اليوم بعشرة أيام، ثم قال: هذا حديث حسن[6].
والأحاديث والآثار في هذا كثيرة جداً، وفيما ذكر كفاية - إن شاء الله -، وبه الثقة".
- أخرجه الدارمي في كتاب الرقاق - باب من همَّ بحسنة (2786) (ج 2 / ص 413) والنسائي في السسن الكبرى (7670) (ج 4 / ص 396) وهذا لفظهما ورواه البخاري في كتاب الرقاق - باب من همَّ بحسنة أو بسيئة (6126) (ج 5 / ص 2380) ومسلم في كتاب الإيمان - باب إذا همَّ العبد بحسنة كتبت وإذا همَّ بسيئة لم تكتب (131) (ج 1 / ص 118) و أحمد (2519) (ج 1 / ص 279).
- أخرجه البخاري في كتاب اللباس - باب ما يذكر في المسك (5583) (ج 5 / ص 2215) ومسلم في كتاب الصيام - باب فضل الصيام (1151) (ج 2 / ص 806).
- أخرجه مسلم كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار - باب فضل الذكر والدعاء والتقرب إلى الله - تعالى - (2687) (ج 4 / ص 2068) وأحمد (21398) (ج 5 / ص 153) واللفظ له.
- أخرجه البخاري في كتاب التوحيد - باب قول الله - تعالى -: يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ [سورة الفتح:15] (7062) (ج 6 / ص 2724) ومسلم في كتاب الإيمان - باب إذا هم العبد بحسنة كتبت وإذا هم بسيئة لم تكتب (129) (ج 1 / ص 117) واللفظ لمسلم.
- أخرجه البخاري في كتاب الديات - باب قول الله - تعالى -: وَمَنْ أَحْيَاهَا [سورة المائدة:32] (6481) (ج 6 / ص 2520) ومسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة - باب إذا تواجه المسلمان بسيفيهما (2888) (ج 4 / ص2213).
- أخرجه الترمذي في كتاب الصوم - باب ما جاء في صوم ثلاثة أيام من كل شهر (761) (ج 3 / ص 134) والنسائي في كتاب - باب ذكر الاختلاف على أبي عثمان في حديث أبي هريرة في صيام ثلاثة أيام من كل شهر (2409) (ج 4 / ص 219) وأحمد (21339) (ج 5 / ص145) وأبو يعلى (6650) (ج 12 / ص 5) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (6324).