وقال العوفي عن ابن عباس - ا - في قوله: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا [سورة الأنعام:159]، وذلك أن اليهود والنصارى اختلفوا قبل مبعث محمد ﷺ، فتفرقوا فلما بعث محمد ﷺ أنزل الله عليه: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ الآية [سورة الأنعام:159]".
يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا هذه قراءة الجمهور، وفي قراءة حمزة والكسائي: إن الذين فارقوا دينهم يعني تركوه، وأما قراءة: فَرَّقُواْ دِينَهُمْ فإنه يوضحه ما بعده من قوله: وَكَانُواْ شِيَعًا والمقصود بالشيَع: جمع شيعة، وهي الطائفة التي ينصر بعضها بعضاً، ويقوي بعضها بعضاً، ويتشيَّع بعضها لبعض، فقوله: فَرَّقُواْ دِينَهُمْ يعني أنهم صاروا متفرقين في دينهم، مختلفين على طوائف، ونحل؛ لم يجتمعوا في أمر الدين، وإنما أحدثوا ما أحدثوا، وبدلوا ما بدلوا، فصاروا منقسمين إلى طوائف متناحرة.
ومن أهل العلم من يقول: إن قوله: فَرَّقُواْ دِينَهُمْ يعني أنهم آمنوا ببعض وكفروا ببعض، وهذا الصنيع - إذا كان يؤمن ببعض ويكفر ببعض - فلا شك أن هذا يؤدي إلى الانقسام، والتفرق، وقد قيل: "من وافق عقده عقدك وافق قلبه قلبك، ومن خالف عقده عقدك خالف قلبه قلبك"، فالناس أسرى لمعتقداتهم، فلا بد أن يحصل بنيهم الافتراق، والانقسام؛ بناء على هذا الاختلاف، فهذا أمرٌ لا بد من وقوعه، وعلى كل حال فإن قوله: فَرَّقُواْ دِينَهُمْ يدخل فيه ما أحدثوا فيه حيث كفروا ببعض، وآمنوا ببعض، فصاروا بهذا الاعتبار على طوائف، ويدخل فيه أيضاً، ما اختلفوا فيه من الدين الاختلاف المذموم الذي حولهم إلى نحل، وطوائف، ومذاهب شتى يضلل بعضها بعضاً.
وإذا كانت هذه الآية في أهل الكتاب إلا أنه يدخل في هذا الذم كل من وقع في هذه الصفة؛ لأن هذا الذم متوجه إلى وصف مذموم، فمن تلبس به من أهل البدع، والأهواء من هذه الأمة؛ فإن ذلك يشمله، وذلك أن الانقسام، والافتراق، والاختلاف؛ على نوعين كما هو معلوم، فالصحابة اختلفوا في أمور من مسائل الدين، والأحكام، واختلفوا في بعض المسائل العلمية، ولم يؤدِّ ذلك إلى التقاطع، والتدابر، ولم يتحولوا إلى فرق، وإن كان اختلافهم في بعض القضايا أدى بهم إلى الاقتتال؛ إلا أنهم مع ذلك لم يتحولوا إلى فرق كالعلوية، والمعاوية، أو الشامية، والعراقية، أو البيتية أو غير هذا، لم يحصل هذا إطلاقاًَ، بل كانوا يترضون عن بعضهم، ويدعو بعضهم لبعض، وقلوبهم بقيت سليمة لإخوانهم، حتى إن عائشة - ا - لما جاءت في جيش أهل الشام قال عنها عمار وعلي - ا -: "والله إنها لزوجة نبيكم في الدنيا، وفي الآخرة؛ ولكن ابتليتم بها" فما أدى ذلك بهم إلى تكفيرهم، وتضليلهم لبعض، ولهذا فإن ضابط الاختلاف المذموم الذي ذكره كثير من أهل العلم هو أن يصاحبه هوى يؤدي إلى التدابر، والتقاطع، وهكذا يُذم خلاف الجهلة الذين يجعلون من الخلاف في بعض المسائل خلافاً يؤدي إلى التفرق.
ومنه أيضاً ما يعرف بخلاف التنوع الذي لا يذم أصلاً لكنه إن خالفه الهوى، وحصل بسببه التدابر، والتقاطع؛ فإنه يدخل في هذا، ومعنى اختلاف التنوع أن يكون هذا له اهتمام بالعلم، وهذا له اهتمام بالفقراء والمحتاجين، وهذا له اهتمام بالدعوة، وهذا له اهتمام بالجهاد ونحو ذلك، فإذا أدى هذا الاختلاف إلى تقاطع، وتدابر؛ بحيث يقرب كل فريق من وافقه على عمله أو عمل بعمله، ويجفو على من لم يشتغل بهذا العمل، فهذا من الاختلاف المذموم، وهو داخل في عموم هذه الآية إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا [سورة الأنعام:159] فهي وإن كانت في أهل الكتاب إلا أن ذلك يشمل كل من تلبس بهذا الوصف القبيح، والله المستعان.
حمل الآية على العموم، وأن أهل البدع يدخلون فيها، هذا هو الذي مشى عليه ابن كثير - رحمه الله - وهو الذي اختاره ابن جرير أيضاً، وبه قال طائفة من السلف، بل صرح بعض السلف أنها في أهل البدع أي أنها وإن كانت في أهل الكتاب لكن أهل البدع يدخلون في هذا المعنى - والله أعلم -.
في قوله: لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [سورة الأنعام:159] يقول ابن كثير: "فإن الله برأ رسوله ﷺ مما هم فيه" وبعضهم يقول: معناها لست من تفرقهم في شيء، وبعضهم يقول: يعني لست من السؤال عنهم في شيء بل الله هو الذي يتولى حسابهم، أما أنت فعليك البيان، والبلاغ، وليس لك من شأن هؤلاء شيء، ولا يلزمك من ذلك شيء، فلا تسأل عنهم، وعن سبب تفرقهم، وبعضهم يقول: أي لست من عقابهم في شيء، فعقابهم على الله ، لكن الأقرب - والله تعالى أعلم - أن ذلك من تبرئته ﷺ منهم حيث جرت عادة العرب أنهم يتبرؤون ممن أساء بالقول: لست مني في شيء، أو أنا بريء من عملك، أو أنا لست من عملك هذا في شيء، والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [سورة الأنعام:159] كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الآية [سورة الحج:17]".
قوله: إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [سورة الأنعام:159] يعني ليس عليك من حسابهم من شيء، فالله هو الذي يتولى عقابهم.
وبعض العلماء يقولون: هذه الآية منسوخة بآية السيف، وقد عرفنا مراراً أن آية السيف لم تنسخ هذا القدر من الآيات التي تدل على الإعراض، والعفو، والصفح؛ عن هؤلاء المسيئين وما أشبه ذلك، فقوله - تبارك وتعالى -: إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ برأ نبيه ﷺ، ثم أخبر أن أمرهم إليه، وأنه هو الذي يتولى حسابهم، وهذا لا ينفي أن الله أمر نبيه ﷺ بالجهاد، فلا منافاة بين هذا وهذا، فالنبي ﷺ مأمور بالجهاد لمن لم يؤمن بالله ورسوله ﷺ كما قال الله : قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [سورة التوبة:29] فإذا دفع هؤلاء الذين تتحدث الآية الجزية تُركوا، ويبقى أن الله هو الذي يتولى حسابهم بعد ذلك.
- أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء - باب قوله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا [سورة مريم:16] (3259) (ج 3 / ص 1270) ومسلم في كتاب الفضائل - باب فضائل عيسى (2365) (ج 4 / ص 1837).