الإثنين 29 / شوّال / 1446 - 28 / أبريل 2025
ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلَّآ أَن قَالُوا۟ وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وقوله تعالى: ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ [سورة الأنعام:23] أي: حجتهم، وقال عطاء الخرساني: ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ [سورة الأنعام:23] بليَّتهم حين ابتلوا".

هذه المعاني متقاربة؛ وذلك أن أصل الفتنة هي الاختبار، وأصل ذلك يكون بعرض الذهب أو المعدن على النار ليتميز خالصه من شائبه، ومثل هذا قوله تعالى عن أصحاب الأخدود: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [سورة البروج:10] فالفتنة هنا تحتمل المعنيين كما يمكن أن تحمل على المعنيين، أعني أنهم أحرقوهم بالنار، أو فتنوهم عن دينهم، فالفتن هو الاختبار.
يقول تعالى: ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ [سورة الأنعام:23] قال بعض السلف: بليتهم أي: اختبارهم، ففسروه باعتبار أصل المعنى.
وقال بعضهم: ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ [سورة الأنعام:23] أي: نتيجة هذه الفتنة، وهذا يشبه قول من قال: لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ أي: جوابهم حينما سُئلوا هذا السؤال، وهو يشبه أيضاً قول من قال - كالحافظ ابن القيم وهو ظاهر كلام ابن جرير -: أي: عاقبة كفرهم، وهكذا هو تفسير من فسر فتنتهم بالكفر، فإنه قصد بالكفر عاقبته، وعاقبة كفرهم هي أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [سورة الأنعام:23] فهذا هو الجواب، أي: أنهم حينما سئلوا عن إشراكهم هذا قالوا: وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [سورة الأنعام:23].
وابن جرير - رحمه الله - يذكر وجه التعبير عن العاقبة أو الجواب بالفتنة فيقول: حينما سئلوا عند الاختبار أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [سورة الأنعام:22] تبيّن لهم عندئذ أنهم لم يكونوا على شيء، فجحدوا هذا الإشراك، ولم يقولوا: هؤلاء شركاؤنا بل كان الجواب: وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [سورة الأنعام:23] فلما كان الجواب واقعاً بسبب الامتحان، والفتن، والاختبار؛ أطلق على هذا الجواب بأنه فتنة فقال تعالى: لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ [سورة الأنعام:23] - والله تعالى أعلم -.
وعلى كل حال فإن هذه العبارات التي قالها السلف هي عبارات متقاربة يمكن الجمع بينها، وإن كانت تختلف في معناها من حيث هي، ولذلك فإن حملها على اختلاف التنوع أقرب من حملها على اختلاف التضاد، وعليه فلا حاجة إلى الترجيح بينها - والله أعلم -.
"إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [سورة الأنعام:23]".

مرات الإستماع: 0

"أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ [الأنعام: 22] يقال لهم ذلك على، وجه التوبيخ تَزْعُمُونَ [الأنعام: 22] أي: تزعمون أنهم آلهة فحذفه لدلالة المعنى عليه، والعامل في يوم نحشرهم محذوف."

والعامل في يوم نحشرهم محذوف؛ ابن جرير - رحمه الله - اعتبره متعلقًا بما قبله، يعني إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام: 21] اليوم وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا [الأنعام: 22] يعني: في الآخرة، يعني لا يفلحون لا في الدنيا، ولا في الآخرة وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ [الأنعام: 22] وهذا له نظائر، يعني بعضهم في مواضع من القرآن، يربطونه بما قبله.

وبعضهم يقول: العامل فيه مقدر محذوف، تقديره: واذكر، واذكر يوم، وهذا اختاره الواحدي[1].

وبعضهم يقول: بأن عامله نقول، وابن جرير - رحمه الله - ذكر ما سبق إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام: 21] في الدنيا، ولا يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ [الأنعام: 22] ويمكن أن تكون جملة استئنافية، يعني إذا قيل بأنه عامل مقدر، واذكر يوم تكون جملة استئنافية، جديدة.

"ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ [الأنعام: 23] الفتنة هنا تحتمل أن تكون بمعنى الكفر، أي لم تكن عاقبة كفرهم إلا جحوده، والتبرؤ منه، وقيل: فتنتهم معذرتهم، وقيل: كلامهم."

هنا الفتنة ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ ابن كثير يقول: "يعني لم تكن حجتهم، إلا أن قالوا"[2].

وبعضهم يقول: ثم لم تكن بليتهم، كما قال عطاء الخرساني[3] يعني حينما ابتلوا قالوا ذلك، وهذا ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ يعني: فسره بأصل المعنى الذي هو الابتلاء، فأعاده إليه ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ.

ويمكن أن يفسر بمجموع ذلك، ثم لم تكن مقالتهم، وحجتهم؛ أو بليتهم التي ألزمتهم هذه الحجة، واضطرتهم إليها.

وبعضهم يقول: هو كفرهم، ثم ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ ابن القيم - رحمه الله - يفسره يقول: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ يعني عاقبة كفرهم ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ فالفتنة تقال: للاختبار، والابتلاء[4] وتقال: لنتيجته، فابن القيم فسرها بالنتيجة، ثم لم تكن عاقبة كفرهم، وما فسرها ببليتهم، فسرها بالمعنى الآخر أنه الامتحان، والاختبار، وابن جرير - رحمه الله - قال: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ أي: قولهم[5] لكن لما كان هذا الجواب واقعًا عند الاختبار، قيل له ذلك، فعبر بعضهم كابن جرير قال: قولهم، باعتبار أن هذا الجواب، وقع في حال الاختبار، فأُطلق عليه فتنة، وإلا فالأصل الفتنة هي الاختبار، أو نتيجة الاختبار سواء كانت حسنة، أو سيئة، فمنهم من فسر بالنتيجة، ومنهم من فسر بنفس الاختبار قال: بليتهم، ومنهم من فسره بقولهم باعتبار أن هذا القول وقع في حال الاختبار من هذا الوجه، وهذه متقاربة، ويمكن أن يعبر بها - والله أعلم - .

"وقرئ (فِتْنَتَهَمْ) بالنصب على خبر كان، واسمها أن قالوا، وقرئ بالرفع على اسم كان، وخبرها أن قالوا."

هذه كلها قراءات متواترة، ويقول: قرئ، بصيغة التمريض، لكن هنا لا يقصد صيغة التمريض، فتنتُهم، وفتنتَهم، فقراءة النصب هي قراءة الجمهور، وبالرفع هي قراءة ابن كثير، وابن عامر، وحفص، يقول: فتنتَهم بالنصب على خبر كان (لَمْ تَكُنْ فِتْنَتَهُمْ)؛ واسمها أن قالوا، وهذا مؤول بمصدر، في التأويل مصدر معنى قولهم.

فقرئ بالرفع على اسم كان، وخبرها أن قالوا، أيضًا كذلك يعني هي في تأويل المصدر يعني قولهم ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إلا قولهم. 

"وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] جحود لشركهم، فإن قيل: كيف يجحدونه، وقد قال الله وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء: 42]؟."

يعني هو جحود لشركهم كما قال الله : وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [القصص: 62] وكما قال: ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ ۝ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئًا [غافر: 73 - 74].

"فإن قيل: كيف يجحدونه، وقد قال الله: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء: 42]؟

فالجواب: أن ذلك يختلف باختلاف طوائف الناس، واختلاف المواطن، فيكتم قوم، ويقر آخرون، ويكتمون في موطن، ويقرون في موطن آخر؛ لأن يوم القيامة طويل، وقد قال ابن عباس - ا - لما سُئل عن هذا السؤال: إنهم جحدوا طمعا في النجاة، فختم الله على أفواههم، وتكلمت جوارحهم فلا يكتمون الله حديثا."

وهذا الجواب واضح، أنهم يكتمون في بعض الأوقات، ولا يكتمون في وقت آخر، رواية عن ابن عباس - ا - جاءه رجل، فقال: إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي، وذكر: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء: 42] وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] فقد كتموا في هذه الآية، فقال ابن عباس - ا: "وأما قوله: مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء: 42] فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم، وقال المشركون: تعالوا نقول: لم نكن مشركين، فختم على أفواههم، فتنطق أيديهم، فعند ذلك عرف أن الله لا يكتم حديثًا، وعنده يود الذين كفروا الآية"[6] يعني لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء: 42] هذا جواب أنهم لا يكتمون في بعض الأوقات، ويكتمون في بعضها، يجحدون فيختم على الأفواه، فتنطق الجوارح، فعندئذ يقرون.

  1.  الوجيز للواحدي (ص: 348).
  2.  تفسير ابن كثير (3/246).
  3.  انظر: تفسير ابن كثير (3/246).
  4.  انظر: زاد المعاد في هدي خير العباد (3/151).
  5.  تفسير الطبري (9/189).
  6. صحيح البخاري (6/128) كتاب تفسير القرآن، باب قوله: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير، برقم (10594).