السبت 05 / ذو القعدة / 1446 - 03 / مايو 2025
قُلْ إِنِّى عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّى وَكَذَّبْتُم بِهِۦ ۚ مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِۦٓ ۚ إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۖ يَقُصُّ ٱلْحَقَّ ۖ وَهُوَ خَيْرُ ٱلْفَٰصِلِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وقوله: قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي [سورة الأنعام:57] أي: على بصيرة من شريعة الله التي أوحاها الله إليَّ وَكَذَّبْتُم بِهِ [سورة الأنعام:57] أي: بالحق الذي جاءني من الله".

قوله: إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ [سورة الأنعام:57] قال ابن كثير: "أي: بالحق الذي جاءني من الله" والحق الذي جاء به هو القرآن، وبعضهم يقول: وَكَذَّبْتُم بِهِ أي: بربي الله، وبعضهم يقول: بالقرآن، وبعضهم يقول: بالبينة المذكورة في قوله: إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ [سورة الأنعام:57] أي: بالبينة، وإن كانت البينة مؤنثة فإن الضمير رجع إليها مذكراً باعتبار المعنى أي أن البينة بمعنى البرهان، وهو مذكر، ومعلوم أنه قد يعود الضمير مذكراً باعتبار المعنى، وبعضهم يقول: قوله: وَكَذَّبْتُم بِهِ أي: بالعذاب.
"مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ [سورة الأنعام:57] أي: من العذاب إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ [سورة الأنعام:57] أي: إنما يرجع أمر ذلك إلى الله إن شاء عجَّل لكم ما سألتموه من ذلك، وإن شاء أنظركم، وأجَّلكم لما في ذلك من الحكمة العظيمة، ولهذا قال: يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ [سورة الأنعام:57] أي: وهو خير من فصل القضايا، وخير الفاتحين في الحكم بين عباده".

يقول: يَقُصُّ الْحَقَّ على قراءة نافع وابن كثير وعاصم بالصاد، ويمكن أن يكون المعنى يَقُصُّ الْحَقَّ من القصص كما قال تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ [سورة يوسف:3]، ويمكن أن يكون من قص الأثر بمعنى تبعه، أي: يتبع الحق فيما يحكم به بينكم.
وفي القراءة الأخرى المتواترة (يقضِ) بالضاد من القضاء بمعنى يحكم ويفصل، وهذا معروف.

مرات الإستماع: 0

"عَلى بَيِّنَةٍ [الأنعام: 57] أي: على أمر بيّن من معرفة ربي، والهاء في بينة للمبالغة."

البينة، يعني على بصيرة، وحجة ظاهرة، قاطعة من معرفة ربي، وعلى بينة من ربي، معرفة ربي، ومعرفة توحيد الله  ومعرفة الشرع الذي بعث به نبيه ﷺ.

"والهاء في بينة للمبالغة، أو للتأنيث."

للمبالغة، أو للتأنيث.

"وقوله تعالى: وَكَذَّبْتُمْ بِهِ [الأنعام: 57] الضمير عائد على الرب، أو على البينة."

على كل حال، إيه نعم، يعني الحافظ ابن كثير - رحمه الله - ذكر بأن المعنى: قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي [الأنعام: 57] "أي: على بصيرة من شريعة الله التي أوحاها إلي"[1] فيدخل في ذلك على كل حال بينة، في أمر التوحيد الذي وقع فيه النزاع، وما يتصل أيضًا به، من الإيمان باليوم الآخر، وما إلى ذلك مما أوحاه الله إليه من الشرع، والهدى الكامل.

"قوله تعالى: وَكَذَّبْتُمْ بِهِ [الأنعام: 57] الضمير عائد على الرب، أو على البينة."

ويحتمل أيضًا وَكَذَّبْتُمْ بِهِ أنه يعود على العذاب، أو يعود على القرآن، وحمله ابن جرير - رحمه الله -[2] على الأول، الذي ذكره ابن جزي - رحمه الله - أنه عائد على الله قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ [الأنعام: 57] وهذا باعتبار أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، ومن نظر إلى معنى البينة، فأعاده إلى القرآن، ومن نظر إلى ما وقع فيه التكذيب، والنزاع في الغالب فهو اليوم الآخر الذي كانوا ينكرونه، ويجادلون فيه، فأعاده إلى اليوم الآخر وَكَذَّبْتُمْ بِهِ [الأنعام: 57].

يقول: أو على البينة، أو عمومًا كما يقول ابن كثير: وَكَذَّبْتُمْ بِهِ: "أي: بالحق الذي جاءني من عند الله - عز، وجل - "[3] فيشمل التوحيد، توحيد الله ويشمل الإيمان باليوم الآخر، ويشمل البينة المذكورة قبله؛ فيكون ذلك أعم في المعنى وَكَذَّبْتُمْ بِهِ فمقتضى الصناعة أن الضمير يرجع إلى الرب، وعليه حمله ابن جرير[4] وقد يفهم من سياقه أن المقصود أعم من ذلك، ففسره ابن كثير بالحق الذي جاءه من عند الله .

"قوله تعالى: ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ [الأنعام: 57] أي: العذاب الذي طلبوه في قولهم: فأمطر علينا حجارة من السماء، وقيل: الآيات التي اقترحوها، والأول أظهر."

وهذا الأول الذي اختاره ابن كثير - رحمه الله -[5] لأنهم كانوا يستعجلون بالعذاب ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ [الحج: 47].

"قوله تعالى: يَقُصُّ الْحَقَّ​​​​​​​ [الأنعام: 57] من القصص، وقرئ يقضي بالضاد المعجمة من القضاء، وهو أرجح لقوله: وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ [الأنعام: 57] أي: الحاكمين."

قوله: يَقُصُّ الْحَقَّ يعني: أن جميع ما أخبر به، أو أمر به، فهو من أقاصيص الحق يَقُصُّ الْحَقَّ قال: من القصص، يعني يقص القصص الحق.

وبعضهم يقول: إنه من قص أثره؛ يعني: هذا في معنى الاتباع؛ يعني: يتبع الحق فيما يحكم به، وبين هذين المعنيين - والله أعلم - ملازمة.

يقول: وقرئ يقضي بالضاد المعجمة من القضاء، وهو أرجح؛ هذه قراءة الصاد يقص الحق، هي القراءة التي نقرأ بها قراءة عاصم، وكذلك قراءة نافع، وابن كثير، وقراءة الجمهور بالضاد، لكن لا يقال في مثل هذا بأنه أرجح، وهو أرجح، في قوله: وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ [الأنعام: 57] أي الحاكمين؛ لأن القراءة إذا ثبتت فإنه لا يصح التفضيل بين القراءتين، بما يشعر بدفع الأخرى، أو الغض منها؛ لأن ذلك كلام الله وإنما يقال: القراءتان إذا اختلف معناهما؛ فهما بمنزلة الآيتين، فيكون هذه لها معنى، وهذه لها معنى، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، وهذا يدخل في وجوه إعجازه؛ كما هو معلوم، فدل ذلك على أنه يقص الحق فكل ما جاء فيه من الأخبار، والأوامر، والنواهي فهو من قصص الحق، وهو يتبعه أيضًا، وهنا يقول: وقرئ يقضي.. الخ، يقضي الحق يعني يفصل، ورجح هذا باعتبار أنه قال: وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ [الأنعام: 57] أي الحاكمين؛ يعني: خير من يبين، ويميز بين المحق، والمبطل، ويفصل بينهما، يقص الحق، يقضي الحق؛ يعني: يقضي القضاء الحق بيني، وبينكم، فيكون هذا معنى، وذاك معنى؛ يعني: على قراءة يقص الحقَ، تكون هذه جملة أفادت أنه يقص القصص الحق، وأيضًا معنى جملة أخرى وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ [الأنعام: 57] فذكر صفتين مستقلتين مختلفتين.

وعلى يقضي الحق تكون الجملة الثانية وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ [الأنعام: 57] تتعلق بالأولى، فهي مما يؤكدها، ويوضحها وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (يَقضِي الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ)؛ - والله أعلم -.

في بعض كتب التفسير، يوجد مثل هذا، يعني المؤلف - رحمه الله - ينقل كثيرًا، أو يستفيد من مثل: الزمخشري، وابن عطية، وأبي حيان، وقد تجد في مثل كتاب "الكشاف" للزمخشري، و"المحرر الوجيز" لابن عطية، عبارات مثل هذه، يعني في ترجيح قراءة على قراءة بطريقة تُشعر بهضم القراءة الأخرى، وهي متواترة، فمثل هذا لا يحسن، يمكن أن يرجح بين القراءات باعتبار أن إحدى القراءات أعم في المعنى، أو أنها مثلاً أبلغ في الدلالة على مراد معين في السياق، أو نحو ذلك لا إشكال، لكن بطريقة تشعر بدفع الأخرى، وتوهينها، أو الحط منها، أو شيء من هذا، فهذا لا يصح، يعني ممكن ترجح قراءة (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ)؛ على قراءة مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: 4] باعتبار أن إثبات الملك أبلغ مثلاً، وهي قراءة الجمهور، هذا لا إشكال أن تختار ذلك لنفسك مثلاً، لكن يكون بطريقة تدفع القراءة الأخرى، أو تضعفها، أو توهنها، أو تحط من شأنها فلا.

  1.  تفسير ابن كثير (3/264).
  2.  تفسير الطبري (9/279).
  3.  تفسير ابن كثير (3/264).
  4.  تفسير الطبري (9/279).
  5. تفسير ابن كثير (3/264).