الأربعاء 09 / ذو القعدة / 1446 - 07 / مايو 2025
أَلَمْ يَرَوْا۟ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّٰهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا ٱلسَّمَآءَ عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا ٱلْأَنْهَٰرَ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَٰهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنۢ بَعْدِهِمْ قَرْنًا ءَاخَرِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"ثم قال - تعالى - واعظاً ومحذرًا لهم أن يصيبهم من العذاب والنكال الدنيوي ما حلَّ بأشباههم ونظرائهم من القرون السالفة الذين كانوا أشدَّ منهم قوة، وأكثر جمعاً، وأكثر أموالاً، وأولاداً، واستغلالاً للأرض، وعمارة لها فقال: أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ [سورة الأنعام:6] أي: من الأموال، والأولاد، والأعمار، والجاه العريض، والسعة، والجنود".

فالقرن: هم أهل الزمان الواحد - أعني المتعاصرين -، وسمُّوا بذلك لاقتران بعضهم ببعض، وإن كان أهل العلم يختلفون في تحديد ذلك في المدة الزمانية، هل القرن يكون مائة سنة، أو ثمانين، أو ستين، أو خمسين، أو سبعين؛ أو غير ذلك، فالحاصل أن أهل العلم اختلفوا في تحديده، وتكلموا على هذه المسألة عند قول النبي ﷺ: خير الناس قرني[1].
يقول - تبارك وتعالى -: أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ [سورة الأنعام:6] هذه الآية وأمثالها يردُّ بها على الخرَّاصين الذين يقولون: إن الإنسان حينما جاء إلى هذه الدنيا جاء بصورة بدائية تماماً، ولا زالت الأجيال والقرون تتطور كما هو زعم أصحاب نظرية التطور الذين منهم من يقول: أصل الإنسان قرد ثم تطور، وهذه النظرية وإن اغتر بها من اغتر في القرن الماضي إلا أن الكفار الذين جاءوا بها - وقلدهم بعض المنتسبين إلى الإسلام - أسقطوها، ولهذه النظرية فروع، ومن فروعها القول بأن الأجيال المتعاقبة تطورت، ومن فروعها تسمية بعض العصور المتقدمة بأسماء يزعمون أنها كانت موجودة كالعصر الحجري، والعصر البرونزي وغير ذلك، وهذا كله كذب لا صحة له؛ فالله تعالى خلق آدم على أكمل صورة، وعلمه الأسماء كلها، وأسجد له ملائكته، وكان في أحسن حال، وهكذا جاءت الأمم من نسله، ومن تلك الأمم وجدت أمم ممكّنة لا زال الناس يتحيرون فيما وجد من آثارها مما لا يعرفه أهل هذا الزمان، وآثارهم شاهدة، ومنها آبار عجيبة جداً قد لا يجدون تفسيراً للإمكانات التي حفرتها حتى قالوا: إن هذا من عمل الجن الذين سخرهم الله لسليمان.
ومن آثار الأمم السابقة تلك الجبال التي نُحتت وحوّلت إلى بيوت مما لم يصل إليه أهل هذا العصر، وعليها نقوش دقيقة من طيور وغيرها.
ومن الآثار كذلك هذه الأهرام العجيبة التي لا يمكن نقل صخورها، واستجلابها من أماكن بعيدة عن طريق الحيوانات، والأشياء البسيطة، ولا يمكن أن يرفعها الإنسان حتى توضع في مواضعها إلا بطرق لم يتوصل إليها أهل هذا العصر!
فهذه أمم ممكَّنة أخبر الله عنها فقال: مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ [سورة الأنعام:6] وهذا كله يدل على بطلان قول المتخرصين الذين يعيشون في وهم كبير، ويقولون: إن الناس قد تطوروا، ووصلت بهم الحال إلى هذا العصر.
ومن فروع نظرية التطور الزعم بأن الناس تطوروا في العبادة، وذلك أن مبدأ الإنسان كان من ملايين السنين - وهذا كله كذب -، وأول ما بدأ لم يكن يعرف شيئاً، وهكذا شيئاً فشيئاً حتى صار يخاف من الطبيعة، ثم صار يعبد الطبيعة، ثم بدأ يتعلم الشعوذة، والسحر، فجاءت عصور السحر، ثم صارت عبادة الجن، ثم عبادة الملائكة، وهكذا شيئاً فشيئاً حتى عبد الله، ثم يقولون: أصبح الإنسان الآن هو الله؛ لأنه استطاع أن يسيطر على الطبيعة، وأن يقهرها؛ فلم يعد الإنسان بعد ذلك بحاجة إلى معبود يلجأ إليه، ويلوذ به؛ لأنه كان يجهل هذه الطبيعة، ولا يعرف تفسيراً لكثير من الظواهر؛ فكان يلجأ إلى اختراع عبادة، أو معبود، أو إله؛ يطلب منه الحماية، أما الآن فلا حاجة إلى ذلك!!
والحق أن الله خلق آدم، وجعله نبياً يعبد الله؛ حيث أنزله من الجنة إلى الأرض، وبقي الناس عشرة قرون على التوحيد، ثم جاءت الرسل بهذا الأمر، وتتابعوا عليه.
"ولهذا قال: وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَارًا [سورة الأنعام:6] أي: شيئًا بعد شيء وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ [سورة الأنعام:6] أي: أكثرنا عليهم أمطار السماء، وينابيع الأرض، أي استدراجًا، وإملاء لهم.
فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ [سورة الأنعام:6] أي: بخطاياهم، وسيئاتهم التي اجترحوها وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ [سورة الأنعام:6] أي: فذهب الأولون كأمس الذاهب، وجعلناهم أحاديث.
وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ [سورة الأنعام:6] أي: جيلاً آخر لنختبرهم، فعملوا مثل أعمالهم؛ فأُهلكوا كإهلاكهم.
فاحذروا أيها المخاطبون أن يصيبكم مثل ما أصابهم، فما أنتم بأعز على الله منهم، والرسول الذي كذبتموه أكرم على الله من رسولهم، فأنتم أولى بالعذاب، ومعاجلة العقوبة منهم؛ لولا لطفه، وإحسانه".
  1. أخرجه البخاري في كتاب الشهادات - باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد (2509) (ج 2 / ص 938) ومسلم في كتاب فضائل الصحابة  باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم (2533) (ج 4 / ص 1962).

مرات الإستماع: 0

"أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا حضٌ للكفار على الاعتبار بغيرهم، والقرن مائة سنة، وقيل: سبعون، وقيل: أربعون."

وقيل غير هذا، وبعضهم قيل: ستون، وقيل: ثمانون، والقرن يقال للقوم، والأمة من الناس، الذين اقترنوا في زمن متحد، اجتمعوا في وقت، أو زمن واحد، ولهذا يطلق على الزمان، وأهله.

بعضهم يقول: المدة، أو الزمن، أو الأمة التي كان فيها نبي يقال لها، وهو من بعض إطلاقاته، يعني أهل مدة كان فيها نبي، وكذلك يقال للطبقة من أهل العلم، قلت السنوات، أو كثرت، ولا يقل عن ثلاثين سنة، لكن هو ليس موعد اتفاق من ناحية تحديد المدة، لكنه لا يُقال: قرن لسنة، أو لسنتين، أو لخمس سنوات إنما لجيل، الجيل، والأمة سواء كان فيها نبي، أو لم يكن فيها نبي، طبقة من الناس، جيل من الناس، أمة من الناس، كل هذا يقال له قرن من اقترنوا في زمن واحد، ولهذا من حدده بالأربعين، قالوا: يذهب الجيل في هذه المدة، يعني: الذين كانوا في مدة البلوغ، ونحو هذا، يعني بلغوا مبلغ الرجال في أربعين سنة يذهب جيل، ويأتي جيل آخر، وقد مضى شيء من هذا في الكلام على قوله: قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً [المائدة: 26] قالوا: ليذهب هذا الجيل، ويأتي جيل جديد، هو الذي يكون على يده النصر، والفتح، وقد يطلق على مدة أطول من هذا.

" قوله: مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ الضمير عائد على القرن، لأنه في معنى الجماعة."

مكناهم يعني، وطأنا لهم، وهيأنا لهم الأسباب، للتمكين، وملكناهم مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ.

"قوله: ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ [الأنعام: 6] الخطاب لجميع أهل ذلك العصر من المؤمنين، والكافرين وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْرارًا [الأنعام: 6] السماء هنا المطر، والسحاب، أو السماء حقيقة، ومدرارا: بناء مبالغة، وتكثير."

يعني السماء يقال للعلو، فهنا يدل على أن المراد السحاب - والله أعلم - من خلال السياق، يعني المدرار الكثير المتتابع.

"ومدرارًا: بناء مبالغة، وتكثير، من قولك: درّ المطر إذا غزر فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِم [الأنعام: 6] التقدير: فكفروا، وعصوا فأهلكناهم، وهذا تهديد للكفار أن يصيبهم مثل ما أصاب هؤلاء على حال قوتهم، وتمكينهم."