فالقرن: هم أهل الزمان الواحد - أعني المتعاصرين -، وسمُّوا بذلك لاقتران بعضهم ببعض، وإن كان أهل العلم يختلفون في تحديد ذلك في المدة الزمانية، هل القرن يكون مائة سنة، أو ثمانين، أو ستين، أو خمسين، أو سبعين؛ أو غير ذلك، فالحاصل أن أهل العلم اختلفوا في تحديده، وتكلموا على هذه المسألة عند قول النبي ﷺ: خير الناس قرني[1].
يقول - تبارك وتعالى -: أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ [سورة الأنعام:6] هذه الآية وأمثالها يردُّ بها على الخرَّاصين الذين يقولون: إن الإنسان حينما جاء إلى هذه الدنيا جاء بصورة بدائية تماماً، ولا زالت الأجيال والقرون تتطور كما هو زعم أصحاب نظرية التطور الذين منهم من يقول: أصل الإنسان قرد ثم تطور، وهذه النظرية وإن اغتر بها من اغتر في القرن الماضي إلا أن الكفار الذين جاءوا بها - وقلدهم بعض المنتسبين إلى الإسلام - أسقطوها، ولهذه النظرية فروع، ومن فروعها القول بأن الأجيال المتعاقبة تطورت، ومن فروعها تسمية بعض العصور المتقدمة بأسماء يزعمون أنها كانت موجودة كالعصر الحجري، والعصر البرونزي وغير ذلك، وهذا كله كذب لا صحة له؛ فالله تعالى خلق آدم على أكمل صورة، وعلمه الأسماء كلها، وأسجد له ملائكته، وكان في أحسن حال، وهكذا جاءت الأمم من نسله، ومن تلك الأمم وجدت أمم ممكّنة لا زال الناس يتحيرون فيما وجد من آثارها مما لا يعرفه أهل هذا الزمان، وآثارهم شاهدة، ومنها آبار عجيبة جداً قد لا يجدون تفسيراً للإمكانات التي حفرتها حتى قالوا: إن هذا من عمل الجن الذين سخرهم الله لسليمان.
ومن آثار الأمم السابقة تلك الجبال التي نُحتت وحوّلت إلى بيوت مما لم يصل إليه أهل هذا العصر، وعليها نقوش دقيقة من طيور وغيرها.
ومن الآثار كذلك هذه الأهرام العجيبة التي لا يمكن نقل صخورها، واستجلابها من أماكن بعيدة عن طريق الحيوانات، والأشياء البسيطة، ولا يمكن أن يرفعها الإنسان حتى توضع في مواضعها إلا بطرق لم يتوصل إليها أهل هذا العصر!
فهذه أمم ممكَّنة أخبر الله عنها فقال: مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ [سورة الأنعام:6] وهذا كله يدل على بطلان قول المتخرصين الذين يعيشون في وهم كبير، ويقولون: إن الناس قد تطوروا، ووصلت بهم الحال إلى هذا العصر.
ومن فروع نظرية التطور الزعم بأن الناس تطوروا في العبادة، وذلك أن مبدأ الإنسان كان من ملايين السنين - وهذا كله كذب -، وأول ما بدأ لم يكن يعرف شيئاً، وهكذا شيئاً فشيئاً حتى صار يخاف من الطبيعة، ثم صار يعبد الطبيعة، ثم بدأ يتعلم الشعوذة، والسحر، فجاءت عصور السحر، ثم صارت عبادة الجن، ثم عبادة الملائكة، وهكذا شيئاً فشيئاً حتى عبد الله، ثم يقولون: أصبح الإنسان الآن هو الله؛ لأنه استطاع أن يسيطر على الطبيعة، وأن يقهرها؛ فلم يعد الإنسان بعد ذلك بحاجة إلى معبود يلجأ إليه، ويلوذ به؛ لأنه كان يجهل هذه الطبيعة، ولا يعرف تفسيراً لكثير من الظواهر؛ فكان يلجأ إلى اختراع عبادة، أو معبود، أو إله؛ يطلب منه الحماية، أما الآن فلا حاجة إلى ذلك!!
والحق أن الله خلق آدم، وجعله نبياً يعبد الله؛ حيث أنزله من الجنة إلى الأرض، وبقي الناس عشرة قرون على التوحيد، ثم جاءت الرسل بهذا الأمر، وتتابعوا عليه.
فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ [سورة الأنعام:6] أي: بخطاياهم، وسيئاتهم التي اجترحوها وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ [سورة الأنعام:6] أي: فذهب الأولون كأمس الذاهب، وجعلناهم أحاديث.
وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ [سورة الأنعام:6] أي: جيلاً آخر لنختبرهم، فعملوا مثل أعمالهم؛ فأُهلكوا كإهلاكهم.
فاحذروا أيها المخاطبون أن يصيبكم مثل ما أصابهم، فما أنتم بأعز على الله منهم، والرسول الذي كذبتموه أكرم على الله من رسولهم، فأنتم أولى بالعذاب، ومعاجلة العقوبة منهم؛ لولا لطفه، وإحسانه".
- أخرجه البخاري في كتاب الشهادات - باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد (2509) (ج 2 / ص 938) ومسلم في كتاب فضائل الصحابة باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم (2533) (ج 4 / ص 1962).