الأحد 06 / ذو القعدة / 1446 - 04 / مايو 2025
قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَٰتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ تَدْعُونَهُۥ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَىٰنَا مِنْ هَٰذِهِۦ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّٰكِرِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ۝ قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ ۝ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ [سورة الأنعام:65-67]".

يقول تعالى: قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ الظلمة معروفة وهي ضد النور، وفسرها بعض أهل العلم هنا بخفاء الطريق، وانطماس معالمها، والمعنى إذا تاهوا في البر أو في البحر، وعلى كل حال فالعرب تعبر بالظلمات عن الشدائد فيقولون: يوم مظلم، وربما قالوا في اليوم الشديد: يوم ذو كواكب، بمعنى أن ذلك اليوم لشدة ظلمته يُحتاج فيه إلى الكواكب، يعني إذا لم يوجد القمر فإنهم يضطرون إلى الكواكب لشدة الظلمة، ويعبرون بذلك أو يكنون به عن اليوم الذي فيه كرب شديد.
وعلى كل حال فإن الله تعالى قال: مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [سورة الأنعام:63] ثم قال بعده: قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ [سورة الأنعام:64] وهذا يكون كالتفسير لما قبله باعتبار أن ظلمات البر والبحر هي كروب البر والبحر، أي ما يحصل للإنسان فيه من الكرب سواء كان ذلك إذا ضل فيها فهذا يعني أنه قد وقع في شدة؛ لأن الهلاك ينتظره، ويمكن أن يكون المراد بذلك أيضاً هي الكروب كما فسره بعضهم، وليس بين هذه المعاني منافاة بمعنى أنه إن غابت عنه العلامات التي يعرف بها الطريق فلم يهتدِ إليها، وضل في طريقه، أو كان ذلك بشدةٍ تقع له بأي لون كان سواء أوشك على الغرق، أو وقع في مسبعة في البر، أو غير ذلك من الأمور؛ فكل هذا من كروب البر، والبحر.
"يقول تعالى ممتناً على عباده في إنجائه المضطرين منهم من ظلمات البر والبحر أي الحائرين الواقعين في المهامه البرية، وفي اللجج البحرية إذا هاجت الرياح العاصفة، فحينئذ يفردون الدعاء له وحده لا شريك له كقوله: وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ الآية [سورة الإسراء:67]، وقوله: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ الآية [سورة يونس:22] وقوله: أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [سورة النمل:63]، وقال في هذه الآية الكريمة: قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً [سورة الأنعام:63] أي: جهراً وسراً لَّئِنْ أَنجَانَا [سورة الأنعام:63] أي: من هذه الضائقة لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ [سورة الأنعام:63] أي: بعدها".

قوله: لَّئِنْ أَنجَانَا [سورة الأنعام:63] هذه قراءة الكوفيين، وعلى قراءة أهل المدينة وأهل الشام لَئِنْ أَنجَيْتَنَا [سورة الأنعام:63] والمعنى يرجع إلى شيء واحد، فإن قالوا: لَّئِنْ أَنجَانَا [سورة الأنعام:63] أي: الله، وإن قالوا: لَئِنْ أَنجَيْتَنَا [سورة الأنعام:63] فباعتبار الخطاب.
وعلى قراءة لَئِنْ أَنجَيْتَنَا [سورة الأنعام:63] يكون هذا من قبيل الالتفات من الغائب إلى المخاطب كما في سورة الفاتحة: الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الفاتحة:2-3] يعني هو الرحمن الرحيم، ثم قال: مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ [سورة الفاتحة:4] يعني هو مالك يوم الدين، ثم قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] فهنا توجه الخطاب إليه، وفي قوله: مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ [سورة الأنعام:63] جاء الكلام بضمير الغيبة، ثم قال: لَئِنْ أَنجَيْتَنَا [سورة يونس:22] توجه بالخطاب إليه أيضاً، وهذا أسلوب معروف في القرآن، وهو كثير، وهذا الالتفات سواء كان من الغائب إلى المخاطب، أو العكس، أو بغير هذا من أنواع الالتفات كله؛ معروف عند العرب، والله أعلم.

مرات الإستماع: 0

"قوله تعالى: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ [الأنعام: 63] الآية: إقامة حجة، وظلمات البر، والبحر: عبارة عن شدائدهما، وأهوالهما كما يقال لليوم الشديد: مظلم."

ظلمات البر: المفاوز البعيدة التي تكون متاهة يضل فيها الناس، وقد يكون هلاك الكثيرين دون قطعها، واجتيازها، لذا قيل لها: مفازة من باب التفاؤل بالظفر، والفوز بقطعها، واجتيازها، والسلامة فيها، وكما يقولون مثلاً في القافلة تفاؤلاً: إنها ترجع، ونحو هذا، وذلك إذا ضلوا في البر، وكذلك ظلمات البحر، والعرب تقول: يوم مظلم، يوم ذو كواكب لليوم الشديد ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الأنعام: 63].