الإثنين 07 / ذو القعدة / 1446 - 05 / مايو 2025
قُلْ هُوَ ٱلْقَادِرُ عَلَىٰٓ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ ۗ ٱنظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ ٱلْءَايَٰتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وقوله: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ [سورة الأنعام:65] لما قال: ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ [سورة الأنعام:64] عقبه بقوله: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا [سورة الأنعام:65] أي: بعد إنجائه إياكم كقوله في سورة سبحان: رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ۝ وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا ۝ أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً ۝ أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا [سورة الإسراء:66-69]".

قوله: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ [سورة الأنعام:65] الخطاب عَلَيْكُمْ هل يرجع إلى المسلمين أو يرجع إلى غيرهم؟
ابن جرير - رحمه الله - يقول: إن هذا الخطاب متوجه إلى المشركين المكذبين، واحتج لذلك بما سبق من قوله - تبارك وتعالى -: ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ [سورة الأنعام:64] فيقول: هؤلاء الذين إذا ركبوا في البحر، أو وقع لهم شدة في البر؛ دعوا الله ، وأفردوه بالعبادة؛ فإذا حصلت لهم النجاة، والخلاص؛ رجعوا إلى تكذيبهم، وشركهم، وعلى هذا فقوله: أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ [سورة الأنعام:65] يعني يا أهل الإشراك، ومن سلك سبيلهم في التكذيب، ومعارضة الرسل - عليهم الصلاة والسلام -.
"روى البخاري - رحمه الله تعالى - في قوله تعالى: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ [سورة الأنعام:65] يَلْبِسَكُمْ يخلطكم من الالتباس، يلبسوا يخلطوا شيعاً فرقاً[1]".

بمعنى أن الله يجعلهم على أهواء مختلفة مختلطة، حيث تختلف آراؤهم الاختلاف المذموم الذي يحصل به التدابر، والتقاطع، ثم القتال، فيكون العذاب واقع عليهم بهذا الاعتبار، أي أن قوله: وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ يعني يتسلط بعضهم على بعض، وتقع بينهم العداوة، والبغضاء؛ فيكون الاقتتال والشر الذي يذوقون فيه هذا العذاب - نسأل الله العافية - كما هو الحاصل في حال هذه الأمة حيث صارت فرقاً وأهواء مختلفة، وحصل بينهم من العداوة والقتال ما لا يخفى، حيث كان ذلك قد وقع منذ أزمان متطاولة منذ عهد الخلفاء الراشدين بظهور رؤوس الفرق، ثم لا زال هذا الأمر يتسع في الأمة، وربما لقوا من هؤلاء المنتسبين إلى الإسلام أشد مما يلقون من اليهود، والنصارى، وسائر طوائف الكفر والإشراك كما هو مشاهد في هذه الأيام، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
"روى البخاري - رحمه الله تعالى - في قوله تعالى: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ [سورة الأنعام:65] يَلْبِسَكُمْ يخلطكم من الالتباس، يُلْبَسوا: يُخلَطوا شيعاً فرقاً[2].
عن جابر بن عبد الله - ا - قال: لما نزلت هذه الآية: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ [سورة الأنعام:65] قال رسول الله ﷺ: أعوذ بوجهك أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ [سورة الأنعام:65] قال: أعوذ بوجهك أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ قال رسول الله ﷺ: هذه أهون أو أيسر، وهكذا رواه أيضاً في كتاب التوحيد ورواه النسائي أيضاً في التفسير[3].
حديث آخر:
روى الإمام أحمد عن سعد بن أبي وقاص قال: أقبلنا مع رسول الله ﷺ حتى مررنا على مسجد بني معاوية، فدخل فصلى ركعتين، فصلينا معه، فناجى ربه طويلاً ثم قال: سألت ربي ثلاثاً: سألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها انفرد بإخراجه مسلم فرواه في كتاب الفتن[4].
حديث آخر:
روى الإمام أحمد عن خباب بن الأرت مولى بني زهرة، وكان قد شهد بدراً مع رسول الله ﷺ أنه قال: وافيت رسول الله ﷺ في ليلة صلاها كلها حتى كان مع الفجر، فسلم رسول الله ﷺ من صلاته، فقلت: يا رسول الله لقد صليت الليلة صلاة ما رأيتك صليت مثلها؟! فقال رسول الله ﷺ: أجل إنها صلاة رغب ورهب، سألت ربي فيها ثلاث خصال، فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة، سألت ربي أن لا يهلكنا بما أهلك به الأمم قبلنا فأعطانيها، وسألت ربي أن لا يظهر علينا عدواً من غيرنا فأعطانيها، وسألت ربي أن لا يلبسنا شيعاً؛ فمنعنيها ورواه النسائي وابن حبان في صحيحه والترمذي في الفتن وقال: حسن صحيح[5].
وقوله: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً [سورة الأنعام:65] يعني يجعلكم ملتبسين شيعاً فرقاً متخالفين.
وقال الوالبي عن ابن عباس - ا -: يعني الأهواء، وكذا قال مجاهد وغير واحد.
وقد ورد في الحديث المروي من طرق عنه ﷺ أنه قال: وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة[6].
وقوله تعالى: وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ [سورة الأنعام:65] قال ابن عباس - ا - وغير واحد: يعني يسلط بعضكم على بعض بالعذاب والقتل.
وقوله تعالى: انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ [سورة الأنعام:65] أي نبينها ونوضحها مرة، ونفسرها.
لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ أي: يفهمون، ويتدبرون عن الله آياته، وحججه، وبراهينه".
تصريف الشيء يعني أن يؤتى به في صور شتى، وقال في قوله - تبارك وتعالى -: انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ [سورة الأنعام:65] "أي نبينها، ونوضحها" أي أن الله - تبارك وتعالى - يبيّن لهم ما يحتاجون إليه تارة بذكر العبر والعظات بالقصص، وتارة بذكر أحوال الآخرة، وتارة بإبطال شبهات الكافرين، وتارة بضرب الأمثال وما إلى ذلك مما صرفه الله في هذا القرآن، وذلك كله من أجل حصول الفقه الذي هو بمعنى الفهم، وهو معرفة ما دق من العلم مما يحتاج إلى لطافة ذهن، واستنباط.
  1. صحيح البخاري (ج 4 / ص 1693).
  2. صحيح البخاري (ج 4 / ص 1693).
  3. أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة الأنعام (4352) (ج 4 / ص 1694) وفي كتاب التوحيد - باب قول الله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [سورة القصص:88] (6971) (ج 6 / ص 2694) وأخرجه النسائي في السنن الكبرى - كتاب التفسير - باب تفسير سورة الأنعام (11164) (ج 6 / ص 340).
  4. أخرجه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة - باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض (2890) (ج 4 / ص 2216).
  5. أخرجه النسائي في كتاب قيام الليل وتطوع النهار - باب إحياء الليل (1638) (ج 3 / ص 216) وأحمد (21091) (ج 5 / ص 108) وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح.
  6. أخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن - باب افتراق الأمم (3993) (ج 2 / ص 1322) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2042).

مرات الإستماع: 0

"قوله تعالى: عَذابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ [الأنعام: 65] قيل: الذي من فوق إمطار الحجارة، ومن تحت الخسف، وقيل: من فوقكم: تسليط أكابركم، ومن تحت أرجلكم: تسليط سافلتكم، وهذا بعيد."

السافلة هم الأراذل من الناس، وبناءً على القول بالمجاز؛ يكون المعنى الأول كأنه على الحقيقة عَذابًا مِنْ فَوْقِكُمْ بالحجارة، ومن تحتكم بالخسف؛ والثاني يكون معنوي بتسليط الأكابر، يعني ليس عذابًا ينزل عليهم من السماء، وإنما مِنْ فَوْقِكُمْ هنا الرفعة المعنوية باعتبار الأكابر، لكن الأول أولى فهو ظاهر اللفظ، لكن مِنْ فَوْقِكُمْ لا يشترط أن يكون بإمطار الحجارة، وإنما بما شاء الله أن ينزل عليهم من السماء، من نار محرقة، أو بأمطار تغرق، وتهدم، وما أشبه ذلك، أو غير هذا بما شاء الله  مما يكون من فوقهم يصيح بهم الملك، أو نحو هذا، أو من تحت الأرجل، يكون هذا بالخسف، وغيره، كل ما يكون من تحت الأرجل من أسفلهم، يكون بالخسف، يكون بالزلزلة - والله أعلم -.

 "قوله تعالى: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا [الأنعام: 65] أي: يخلطكم فرقا مختلفين وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ بالقتال، واختلف هل الخطاب بهذه الآية للكفار، أو المؤمنين؟ وروي أنه لما نزلت: أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ قال رسول الله ﷺ: أعوذ بوجهك فلما نزلت: مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ قال: أعوذ بوجهك فلما نزلت: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا قال النبي ﷺ: هذه أهون[1] فقضى الله على هذه الأمة بالفتن، والقتال إلى يوم القيامة."

هذا المخرج في الصحيح، والمؤلف - رحمه الله - يورد جملة المعنى، ولا يتقيد بالألفاظ، ويختصر في الروايات.

وقوله هنا: وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ [الأنعام: 65]: بالقتال، واختلف هل الخطاب بهذه الآية للكفار، أو للمؤمنين؟ المعنى - والله أعلم - أعم من القتال، ما يكون بينهم من التفرق، والاختلاف الذي يؤدي إلى التلاسن، والوقيعة في بعضهم، وما إلى ذلك مما ينالهم به الأذى، وأعظم ذلك القتال، لكن هذا التفرق في ذاته المذموم هو لون من العذاب - نسأل الله العافية -.

قال: وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ: بالقتال، واختلف هل الخطاب بهذه الآية للكفار، وهذا الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله -[2] أو للمؤمنين، وهذا مروي عن ابن عباس، وأبي ابن كعب، وجماعة أيضًا من التابعين، كقتادة، وأبي العالية، ومجاهد[3].

  1. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ [الأنعام: 65] الآية، برقم (4628) وبرقم (7313) في كتاب الاعتصام بالكتاب، والسنة، باب في قول الله تعالى: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا [الأنعام: 65].
  2. تفسير الطبري (9/300).
  3. تفسير ابن كثير (3/275 - 276).