قوله: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ [سورة الأنعام:65] الخطاب عَلَيْكُمْ هل يرجع إلى المسلمين أو يرجع إلى غيرهم؟
ابن جرير - رحمه الله - يقول: إن هذا الخطاب متوجه إلى المشركين المكذبين، واحتج لذلك بما سبق من قوله - تبارك وتعالى -: ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ [سورة الأنعام:64] فيقول: هؤلاء الذين إذا ركبوا في البحر، أو وقع لهم شدة في البر؛ دعوا الله ، وأفردوه بالعبادة؛ فإذا حصلت لهم النجاة، والخلاص؛ رجعوا إلى تكذيبهم، وشركهم، وعلى هذا فقوله: أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ [سورة الأنعام:65] يعني يا أهل الإشراك، ومن سلك سبيلهم في التكذيب، ومعارضة الرسل - عليهم الصلاة والسلام -.
بمعنى أن الله يجعلهم على أهواء مختلفة مختلطة، حيث تختلف آراؤهم الاختلاف المذموم الذي يحصل به التدابر، والتقاطع، ثم القتال، فيكون العذاب واقع عليهم بهذا الاعتبار، أي أن قوله: وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ يعني يتسلط بعضهم على بعض، وتقع بينهم العداوة، والبغضاء؛ فيكون الاقتتال والشر الذي يذوقون فيه هذا العذاب - نسأل الله العافية - كما هو الحاصل في حال هذه الأمة حيث صارت فرقاً وأهواء مختلفة، وحصل بينهم من العداوة والقتال ما لا يخفى، حيث كان ذلك قد وقع منذ أزمان متطاولة منذ عهد الخلفاء الراشدين بظهور رؤوس الفرق، ثم لا زال هذا الأمر يتسع في الأمة، وربما لقوا من هؤلاء المنتسبين إلى الإسلام أشد مما يلقون من اليهود، والنصارى، وسائر طوائف الكفر والإشراك كما هو مشاهد في هذه الأيام، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
عن جابر بن عبد الله - ا - قال: لما نزلت هذه الآية: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ [سورة الأنعام:65] قال رسول الله ﷺ: أعوذ بوجهك أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ [سورة الأنعام:65] قال: أعوذ بوجهك أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ قال رسول الله ﷺ: هذه أهون أو أيسر، وهكذا رواه أيضاً في كتاب التوحيد ورواه النسائي أيضاً في التفسير[3].
حديث آخر:
روى الإمام أحمد عن سعد بن أبي وقاص قال: أقبلنا مع رسول الله ﷺ حتى مررنا على مسجد بني معاوية، فدخل فصلى ركعتين، فصلينا معه، فناجى ربه طويلاً ثم قال: سألت ربي ثلاثاً: سألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها انفرد بإخراجه مسلم فرواه في كتاب الفتن[4].
حديث آخر:
روى الإمام أحمد عن خباب بن الأرت مولى بني زهرة، وكان قد شهد بدراً مع رسول الله ﷺ أنه قال: وافيت رسول الله ﷺ في ليلة صلاها كلها حتى كان مع الفجر، فسلم رسول الله ﷺ من صلاته، فقلت: يا رسول الله لقد صليت الليلة صلاة ما رأيتك صليت مثلها؟! فقال رسول الله ﷺ: أجل إنها صلاة رغب ورهب، سألت ربي فيها ثلاث خصال، فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة، سألت ربي أن لا يهلكنا بما أهلك به الأمم قبلنا فأعطانيها، وسألت ربي أن لا يظهر علينا عدواً من غيرنا فأعطانيها، وسألت ربي أن لا يلبسنا شيعاً؛ فمنعنيها ورواه النسائي وابن حبان في صحيحه والترمذي في الفتن وقال: حسن صحيح[5].
وقوله: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً [سورة الأنعام:65] يعني يجعلكم ملتبسين شيعاً فرقاً متخالفين.
وقال الوالبي عن ابن عباس - ا -: يعني الأهواء، وكذا قال مجاهد وغير واحد.
وقد ورد في الحديث المروي من طرق عنه ﷺ أنه قال: وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة[6].
وقوله تعالى: وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ [سورة الأنعام:65] قال ابن عباس - ا - وغير واحد: يعني يسلط بعضكم على بعض بالعذاب والقتل.
وقوله تعالى: انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ [سورة الأنعام:65] أي نبينها ونوضحها مرة، ونفسرها.
لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ أي: يفهمون، ويتدبرون عن الله آياته، وحججه، وبراهينه".
- صحيح البخاري (ج 4 / ص 1693).
- صحيح البخاري (ج 4 / ص 1693).
- أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة الأنعام (4352) (ج 4 / ص 1694) وفي كتاب التوحيد - باب قول الله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [سورة القصص:88] (6971) (ج 6 / ص 2694) وأخرجه النسائي في السنن الكبرى - كتاب التفسير - باب تفسير سورة الأنعام (11164) (ج 6 / ص 340).
- أخرجه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة - باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض (2890) (ج 4 / ص 2216).
- أخرجه النسائي في كتاب قيام الليل وتطوع النهار - باب إحياء الليل (1638) (ج 3 / ص 216) وأحمد (21091) (ج 5 / ص 108) وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح.
- أخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن - باب افتراق الأمم (3993) (ج 2 / ص 1322) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2042).