الثلاثاء 08 / ذو القعدة / 1446 - 06 / مايو 2025
قُلْ أَنَدْعُوا۟ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَنفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَىٰٓ أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَىٰنَا ٱللَّهُ كَٱلَّذِى ٱسْتَهْوَتْهُ ٱلشَّيَٰطِينُ فِى ٱلْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُۥٓ أَصْحَٰبٌ يَدْعُونَهُۥٓ إِلَى ٱلْهُدَى ٱئْتِنَا ۗ قُلْ إِنَّ هُدَى ٱللَّهِ هُوَ ٱلْهُدَىٰ ۖ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ۝ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [سورة الأنعام:71-73].
قال السدي: "قال المشركون للمسلمين: اتبعوا سبيلنا، واتركوا دين محمد، فأنزل الله : قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا أي: في الكفر بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ فيكون مثلنا مثل الذي استهوته الشياطين في الأرض، يقول: مثلكم إن كفرتم بعد إيمانكم كمثل رجل خرج مع قوم على الطريق، فضلَّ الطريق، فحيرته الشياطين، واستهوته في الأرض، وأصحابه على الطريق، فجعلوا يدعونه إليهم يقولون: ائتنا فإنا على الطريق، فأبى أن يأتيهم، فذلك مثل من يتبعهم بعد المعرفة بمحمد ﷺ، ومحمد هو الذي يدعو إلى الطريق، والطريق هو الإسلام" [رواه ابن جرير]".

قوله: قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ يعني أنرجع القهقرى، وننكص إلى الكفر، والشرك بالله بعدما عرفنا الإيمان، والتوحيد، وبطلان هذه المعبودات من دون الله - تبارك وتعالى -؟ هذا لا يكون، وإنما هذا هو حال الإنسان المتذبذب الذي سمع داعي الله ، ودعته الشياطين إلى الكفر، والإشراك؛ فهذا حاله كحال ذلك الإنسان الذي صور الله حاله لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا [سورة الأنعام:71] والشياطين تدعوه إلى الكفر، والشرك، فهو في حيرة لا يعرف كيف يتصرف.
وبالنسبة للكلام الذي نقله عن السدي أعني قوله: "فيكون مثلنا مثل الذي استهوته الشياطين في الأرض" هذا أيضاً هو كلام ابن عباس من رواية علي بن أبي طلحة، ورواية علي بن أبي طلحة من جهة الثبوت والإسناد هي جيدة - إن شاء الله -، فهي من أحسن الطرق المروية عن ابن عباس.
"وقوله: كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ هم الغيلان يدعونه باسمه، واسم أبيه، وجدِّه".

في قوله: كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ [سورة الأنعام:71] الكاف يمكن أن تكون نعتاً لمصدر محذوف تقديره: أي نرد على أعقابنا رداً كالذي استهوته الشياطين؛ يمكن أن تكون أيضاً في محل نصب على الحال من فاعل نرد، أي: نرد حال كوننا مشبهين للذي استهوته الشياطين.
وقوله: اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ [سورة الأنعام:71] السين والتاء للطلب، وهوى: تأتي بمعنى أسرع إلى الشيء، وبعضهم يقول: هذا يرجع إلى كلمة الهوى التي هي هوى النفس بمعنى زين له الشيطان هواه.
وفي هذه الآية قراءة لحمزة: (كالذي استهواه) وفي قراءات غير متواترة من قراءات الصحابة كقراءة ابن مسعود، وأبي بن كعب، وهي قراءة الحسن البصري أيضاً: (كالذي استهواه الشيطان).
"وقوله: كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ هم الغيلان يدعونه باسمه، واسم أبيه، وجدِّه؛ فيتبعها وهو يرى أنه في شيء، فيصبح وقد ألقته في هلكة، وربما أكلته، أو تلقيه في مضلة من الأرض يهلك فيها عطشاً، فهذا مثل من أجاب الآلهة التي تعبد من دون الله [رواه ابن جرير].
ولهذا قال: قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ [سورة الأنعام:71] كما قال: وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ [سورة الزمر:37] وقال: إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ [سورة النحل:37]".

قوله: "هم الغيلان يدعونه باسمه، واسم أبيه، وجدِّه؛ فيتبعها وهو يرى أنه في شيء" هذا من كلام ابن عباس من رواية علي بن أبي طلحة، والمعنى أن هذا تمثيل وتصوير لحال الإنسان الذي وصف الله حاله بأنه لما لم يستقر على الإيمان، ويقبل على طاعة الله ، وتوحيده، وعبادته؛ فهو كإنسان يمشي في البرية، فتغولت الغيلان له لتضله عن الطريق كما قال ابن عباس، وقد كانت العرب تعتقد أن الغيلان تضل الناس في أسفارهم.
والمقصود بالغيلان جمع غول وهم: الجن، والشياطين؛ حيث يتشكلون، ويتصورون بصور شتى، ويضلون المسافرين، وذلك بأن يدعون الشخص باسمه، أو يظهرون له بصورة إنسان يرشده إلى طريق آخر أو نحو ذلك.
وجاء في الغيلان آثار وأحاديث منها ما هو ضعيف، ومنها ما هو صحيح، وفي حديث العدوى يقول - عليه الصلاة والسلام -: ولا غول[1] فبعض أهل العلم يقولون: هذا نفي للغول، وبيان أنه لا أصل، ولا حقيقة له، وإنما هو من خيال الناس، ومن دعاواهم، وهي من مختلقات العرب كاختلاقهم العنقاء كما في المراقي:
وما سواه مثل عنقا مُغرب في كل قطر من نواحي المغرب
يعني أن العنقاء تذكر ولا وجود لها، وكذلك غير مذهب الإمام مالك في أقطار المغرب يُذكر ولا وجود له.
وبعضهم يقول: إن قول النبي ﷺ: ولا غول ليس نفياً لها، وإنما هي كقوله في نفس الحديث: لا عدوى[2] فهذا ليس نفياً لأصل العدوى، وإنما هو نفي لما كانوا يعتقدونه من تشكلها، وتصورها بصور مختلفة.
وصح عن النبي ﷺ أنه قال: إذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذان[3] والمقصود أنه توجد بعض الآثار الصحيحة، وتوجد فيها أشياء لا تصح، وهنا يقول ابن عباس - ا -: إن هذا المثل الذي في قوله تعالى: كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ [سورة الأنعام:71] مثل الله تعالى حال هذا الشخص بحال إنسان مسافر، فتغولت الغيلان، وجعلت تضله عن الطريق؛ ليصل إلى مكان لا يستطيع الخروج منه، فيتلف، ويهلك، وينقطع في سفره، وربما قتلته، أو أكلته أو غير ذلك؛ هكذا قال ابن عباس.
ويمكن أن يقال كما قال كثير من المفسرين: إن قوله: كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ [سورة الأنعام:71] أي: في باب الضلال، بمعنى أنرجع بعد هدانا الله ، فنكون في حال نشبه فيها حال أولئك الذين هذه صفتهم في الحيرة حيث وجد من يدعوهم إلى الهدى، ووجد من يدعوهم إلى الضلال من الشياطين، فبقوا متحيرين، لا يدرون؛ كيف يتصرفون؟
هذه حال بائسة لا نكون عليها، وإنما نبقى على الحق الذي عرفناه، ونلزمه، ولا نبقى متحيرين بسبب هذه الشبهات، والضلالات، ودعاء الكافرين لنا بموافقتهم، والرجوع إلى ديننا الذي كنا عليه من الإشراك بالله ، وعبادة الأوثان، والله المستعان.
"وقوله: وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الأنعام:71] أي: نخلص له العبادة وحده لا شريك له".
  1. أخرجه البخاري في كتاب الطب - باب الجذام (5380) (ج 5 / ص 2158) ومسلم في كتاب السلام - باب لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر، ولا نوء، ولا غول، ولا يورد ممرض على مصح (2220) (ج 4 / ص 1742).
  2. الحديث السابق نفه الذي أخرجه البخاري في كتاب الطب - باب الجذام (5380) (ج 5 / ص 2158) ومسلم في كتاب السلام - باب لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر، ولا نوء، ولا غول، ولا يورد ممرض على مصح (2220) (ج 4 / ص 1742).
  3. أخرجه النسائي في السنن الكبرى - كتاب عمل اليوم والليلة - الأمر بالأذان إذا تغولت الغيلان (10791) (ج 6 / ص 236) وأحمد (14316) (ج 3 / ص 305) وقال حسين سليم أسد: رجاله رجال الصحيح.