الثلاثاء 08 / ذو القعدة / 1446 - 06 / مايو 2025
وَذَرِ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُوا۟ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا ۚ وَذَكِّرْ بِهِۦٓ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌۢ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِىٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَّا يُؤْخَذْ مِنْهَآ ۗ أُو۟لَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ أُبْسِلُوا۟ بِمَا كَسَبُوا۟ ۖ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌۢ بِمَا كَانُوا۟ يَكْفُرُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ [سورة الأنعام:70].
يقول تعالى: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا أي: دعهم، وأعرض عنهم، وأمهلهم قليلاً؛ فإنهم صائرون إلى عذاب عظيم".

وبعض أهل العلم يقول: إن قوله: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا [سورة الأنعام:70] منسوخة بآية السيف التي تقول: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ [سورة التوبة:5] يعني لا تتركهم، لكن الأقرب أنها غير منسوخة، وذلك أن قوله: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا [سورة الأنعام:70] فيها معنى الوعيد كالذي في قوله تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا [سورة المدثر:11] وقوله تعالى: فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [سورة فاطر:8] وقوله تعالى: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [سورة الكهف:6] وما أشبه ذلك من الآيات، والمعنى أي: فلا تغتم بسبب كفرهم.
وابن جرير - رحمه الله - لا يقول - فيما أعلم - بأن آية السيف نسخت مائة وأربعة وعشرين آية - كما قال بعض أهل العلم - لكنه يقول: إنها نسخت بعض المواضع ومنها هذه الآية: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا [سورة الأنعام:70]، ويقول: إن هذه الآية معناها اتركهم، وذكرهم، وآية السيف أمر بمجاهدتهم.
"ولهذا قال: وَذَكِّرْ بِهِ [سورة الأنعام:70] أي: ذكر الناس بهذا القرآن، حذِّرهم نقمة الله، وعذابه الأليم يوم القيامة".

الضمير في قوله: وَذَكِّرْ بِهِ يرجع إلى القرآن؛ وهذا هو المتبادر، وهو الذي تدل عليه الآيات الأخرى، إلا أن من أهل العلم من يقول: إن الضمير يرجع إلى الحساب.
"وقوله تعالى: أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ [سورة الأنعام:70] أي: لئلا تبسل".

يقول: أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ [سورة الأنعام:70] أي: لئلا تبسل" أي: كراهة أن تبسل، فهذا فيه نفي معلوم من السياق.
"قال الضحاك عن ابن عباس - ا - ومجاهد، وعكرمة والحسن، والسدي: تُبْسَلَ تسلم، وقال الوالبي عن ابن عباس - ا -: تُفتَضح، وقال قتادة: تحبس، وقال مرة وابن زيد: تؤاخذ، وقال الكلبي: تجزى، وكل هذه الأقوال والعبارات متقاربة في المعنى، وحاصلها الإسلام للهلكة".

قوله: "وحاصلها الإسلام للهلكة" أي يسلمه للهلكة، يعني وذكِّر به لئلا تسلم تلك النفوس للهلكة بتفريطها وإضاعة حظها من الله ، وترك العمل الصالح؛ لأن الآخرة لا تصلح للمفاليس، ولهذا يقال فيمن سُلِّم أو رهن في دم: إنه أبسل بمعنى أنه قدِّم لهلكة، بمعنى أنه إذا لم يؤتى بالجاني فإن هؤلاء سيقتلون الذي في أيديهم، وهكذا كانت العرب تقول: أبسل يعني سلِّم للهلاك.
"وحاصلها الإسلام للهلكة، والحبس عن الخير، والارتهان عن درك المطلوب".

يرتهن يعني يحبس، فالرهن بمعنى الحبس، وكل هذه المعاني ترجع إلى شيء واحد، ولذلك من مزايا هذا التفسير - تفسير الحافظ ابن كثير رحمه الله - أنه يجمع بين المعاني، بخلاف بعض التفاسير التي تشقق المعاني، وتذكر خمسة معان، أو ستة، أو أكثر؛ من غير طائل سوى تكثير للأقوال، فالقارئ الذي لا يميز يتحير، بينما هذا الاختلاف الذي أورده ابن كثير هو من اختلاف التنوع، فتبسل، وترتهن، وتحبس، وتسلم؛ كل ذلك يرجع إلى شيء واحد فهي ألفاظ متقاربة، ولذلك يقال: أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ [سورة الأنعام:70] أي: أن تسلم لهلكتها، وترتهن بجريرتها، وتحبس بذنوبها وأعمالها السيئة.
"والحبس عن الخير، والارتهان عن درك المطلوب كقوله: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ* إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ [سورة المدثر:38-39]، وقوله: لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ [سورة الأنعام:70] وقوله: وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا [سورة الأنعام:70] أي: ولو بذلت كل مبذول ما قبل منها".

قوله: وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا [سورة الأنعام:70] يعني وإن تقدم كل فدية لا يقبل منها.
"أي ولو بذلت كل مبذول ما قبل منها كقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا الآية [سورة آل عمران:91]، وكذا قال هاهنا: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ [سورة الأنعام:70]".

قوله: أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ أي: سلموا للهلاك، وقوله: لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ [سورة الأنعام:70] الحميم هو الحار الشديد الحرارة كقوله: وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ [سورة محمد:15]، وكقوله: شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ [سورة الأنعام:70].

مرات الإستماع: 0

"وَذَرِ الَّذِينَ [الأنعام: 70] قيل: إنها متاركة منسوخة بالسيف، وقيل: بل هي تهديد فلا متاركة، فلا نسخ فيها."

قوله: (إنها متاركة منسوخة بالسيف) هذا ذهب إليه في نظائرها كثير من المفسرين من السلف فمن بعدهم، كما هو معلوم، وقد مضى الكلام على نحو هذا، وهم يقولون: إن كل آية فيها الإعراض عن المشركين، والصفح، وما إلى ذلك، فهي منسوخة بآية السيف، وهي الآية الخامسة من سورة براءة، ولكن هذا القول فيه نظر - والله أعلم - والأقرب أن هذه الآيات لم تنسخ، فهي محكمة، وإنما يكون إعمالها في أوقات الضعف، ضعف الأمة، وممن ذهب إلى أنها منسوخة: أبو جعفر بن جرير - رحمه الله -[1].

وعلى كل حال فالنسخ لا يثبت بالاحتمال.

"قوله تعالى: اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا [الأنعام: 70] أي: اتخذوا الدين الذي كان ينبغي لهم لعبًا، ولهوًا؛ لأنهم سخروا منه، أو اتخذوا الدين الذي يعتقدونه لعبًا، ولهوًا؛ لأنهم لا يؤمنون بالبعث، فهم يلعبون، ويلهون.

إذًا هي أو، وليست الواو، أو اتخذوا الدين، احتمال آخر في المعنى، لأنهم لا يؤمنون بالبعث؛ فهم يلعبون، ويلهون، يعني يتصرفون بحسب أهوائهم، ونزواتهم، تصرف اللاعب، وهذا الثاني كأنه أقرب، والأول حاصل، وواقع بلا شك، فهم يسخرون، ومن اللهو أيضًا الذي كانوا يفعلونه كما قال الله - تبارك، وتعالى -: وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً [الأنفال: 35] باعتبار أن المكاء هو التصفير، والتصدية: التصفيق.

"قوله تعالى: وَذَكِّرْ بِهِ [الأنعام: 70] الضمير عائد على الدين، أو على القرآن."

ويحتمل أن يكون أيضًا، أن يعود على الحساب وَذَكِّرْ بِهِ وهذه الأقوال بينها ملازمة فالقرآن يذكر به، وهو متضمن للحساب، وهو أيضًا مصدر الدين.

"قوله تعالى: أَنْ تُبْسَلَ [الأنعام: 70] قيل: معناه أن تحبس، وقيل: تفضح، وقيل: تهلك، وهو في موضع مفعول من أجله."

تبسل تحبس، هذا قال به قتادة[2] قيل: تفضح، وهو مروي عن ابن عباس  - ا -[3] وجاء عنه أيضًا في رواية، وكذا قال مجاهد، وعكرمة، والحسن، والسدي، تسلم للهلكة[4] فأصل المادة يدل على الحبس، والمنع وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ [الأنعام: 70] يعني: كي لا تبسل نفس بجرائرها، وجناياتها، وكفرها عما فيه نجاتها، وتسلم للهلاك، والعذاب.

ذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله - أن العبارات هذه متقاربة، التي قالها السلف، وأن حاصلها الإسلام للهلكة، والحبس عن الخير، والارتهان عن درك المطلوب[5] أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ - والله أعلم -.

"وهو في وضع مفعول من أجله؛ أي ذكر به كراهة أن تبسل نفس." 

ذكر به كراهة أن تبسل نفس، كراهة أن تبسل نفس، يقول: (هو في موضع مفعول من أجله) أي: ذكر به كراهة، أو مخافة أن تبسل نفس، أو لئلا تبسل نفس، كل ذلك بمعنًى متقارب، نعم.

"قوله تعالى: وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ [الأنعام: 70] أي: وإن تعط كل فدية لا يؤخذ منها."

كقوله  - تبارك، وتعالى -: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ [آل عمران: 91].

  1.  تفسير الطبري (11/442).
  2.  المصدر السابق (11/443).
  3. المصدر السابق (11/444).
  4.  تفسير ابن كثير (3/279).
  5.  المصدر السابق.