يقول تعالى: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا أي: دعهم، وأعرض عنهم، وأمهلهم قليلاً؛ فإنهم صائرون إلى عذاب عظيم".
وبعض أهل العلم يقول: إن قوله: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا [سورة الأنعام:70] منسوخة بآية السيف التي تقول: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ [سورة التوبة:5] يعني لا تتركهم، لكن الأقرب أنها غير منسوخة، وذلك أن قوله: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا [سورة الأنعام:70] فيها معنى الوعيد كالذي في قوله تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا [سورة المدثر:11] وقوله تعالى: فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [سورة فاطر:8] وقوله تعالى: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [سورة الكهف:6] وما أشبه ذلك من الآيات، والمعنى أي: فلا تغتم بسبب كفرهم.
وابن جرير - رحمه الله - لا يقول - فيما أعلم - بأن آية السيف نسخت مائة وأربعة وعشرين آية - كما قال بعض أهل العلم - لكنه يقول: إنها نسخت بعض المواضع ومنها هذه الآية: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا [سورة الأنعام:70]، ويقول: إن هذه الآية معناها اتركهم، وذكرهم، وآية السيف أمر بمجاهدتهم.
الضمير في قوله: وَذَكِّرْ بِهِ يرجع إلى القرآن؛ وهذا هو المتبادر، وهو الذي تدل عليه الآيات الأخرى، إلا أن من أهل العلم من يقول: إن الضمير يرجع إلى الحساب.
يقول: أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ [سورة الأنعام:70] أي: لئلا تبسل" أي: كراهة أن تبسل، فهذا فيه نفي معلوم من السياق.
قوله: "وحاصلها الإسلام للهلكة" أي يسلمه للهلكة، يعني وذكِّر به لئلا تسلم تلك النفوس للهلكة بتفريطها وإضاعة حظها من الله ، وترك العمل الصالح؛ لأن الآخرة لا تصلح للمفاليس، ولهذا يقال فيمن سُلِّم أو رهن في دم: إنه أبسل بمعنى أنه قدِّم لهلكة، بمعنى أنه إذا لم يؤتى بالجاني فإن هؤلاء سيقتلون الذي في أيديهم، وهكذا كانت العرب تقول: أبسل يعني سلِّم للهلاك.
يرتهن يعني يحبس، فالرهن بمعنى الحبس، وكل هذه المعاني ترجع إلى شيء واحد، ولذلك من مزايا هذا التفسير - تفسير الحافظ ابن كثير رحمه الله - أنه يجمع بين المعاني، بخلاف بعض التفاسير التي تشقق المعاني، وتذكر خمسة معان، أو ستة، أو أكثر؛ من غير طائل سوى تكثير للأقوال، فالقارئ الذي لا يميز يتحير، بينما هذا الاختلاف الذي أورده ابن كثير هو من اختلاف التنوع، فتبسل، وترتهن، وتحبس، وتسلم؛ كل ذلك يرجع إلى شيء واحد فهي ألفاظ متقاربة، ولذلك يقال: أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ [سورة الأنعام:70] أي: أن تسلم لهلكتها، وترتهن بجريرتها، وتحبس بذنوبها وأعمالها السيئة.
قوله: وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا [سورة الأنعام:70] يعني وإن تقدم كل فدية لا يقبل منها.
قوله: أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ أي: سلموا للهلاك، وقوله: لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ [سورة الأنعام:70] الحميم هو الحار الشديد الحرارة كقوله: وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ [سورة محمد:15]، وكقوله: شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ [سورة الأنعام:70].