الإثنين 07 / ذو القعدة / 1446 - 05 / مايو 2025
وَمَا عَلَى ٱلَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَىْءٍ وَلَٰكِن ذِكْرَىٰ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وقوله: وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ [سورة الأنعام:69] أي: إذا تجنبوهم فلم يجلسوا معهم في ذلك فقد برؤوا من عهدتهم، وتخلصوا من إثمهم".

يقول تعالى: وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ قال ابن كثير: "أي: إذا تجنبوهم فلم يجلسوا معهم في ذلك فقد برؤوا من عهدتهم، وتخلصوا من إثمهم" كأنه يقول: وما على الذين يتقون الله من تبعة، ووزر؛ يحملونه من أوزار هؤلاء الخائضين إذا اتقوهم بالإعراض عنهم وعدم مجالستهم في هذا الخوض.
ومن أهل العلم من قال: إن المراد: وما على الذين يتقون مجالستهم عند الخوض، لكن ما ذكره ابن كثير - رحمه الله - أحسن من هذا.
ومن أهل العلم من قال: وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ أي: يتقون الخوض يعني يجلسون معهم لكن لا يدخلون معهم في هذا الخوض، ولا يرتضونه، ولا يشاركونهم فيه، وهذا معنى بعيد؛ لأن الله نهى عن مجالسة هؤلاء الخائضين فقال تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ [سورة النساء:140]، ومقتضى إنكار المنكر بالقلب أن نفارقهم، فالإنسان ينكر بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، ولا يكون منكراً بقلبه وهو جالس مع المنكر كما قال تعالى: إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ [سورة النساء:140] فهو مشارك لهم بحضوره في مثل هذا المجلس.
والعجيب أن ابن جرير - رحمه الله - حمل قوله تعالى: وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ [سورة الأنعام:69] على هذا المعنى الأخير أي: يتقون الخوض معهم، والمشاركة، بمعنى أنهم إذا حضروا فليس عليهم من وزرهم شيء، ثم قال ابن جرير: ولكن ليعرضوا عنهم ذكرى لأمر الله لعلهم يتقون، أي: لو جلسوا معهم، وتجنبوا هذا الخوض ما شاركوهم فيه، فليس عليهم من وزرهم شيء لكن ليفارقونهم لعل ذلك يحرك في نفوسهم شيئاً، فيتركون ما هم فيه من الباطل، والخوض، وهذا المعنى بعيد؛ فلا يجوز الجلوس مع الخائضين، ومن جلس معهم فهو في حكمهم؛ إلا أن يكون مكرهاً لا حيلة له، والله أعلم.
وبعضهم يقول: إن هذه الآية وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ [سورة الأنعام:69] منسوخة بالآية الأخرى وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ [سورة النساء:140] وقالوا: هذا كان في أول الإسلام حيث كان المسلمون ضعفاء، ويحتاجون إلى مجالسة الكفار؛ فكانوا يشتركون معهم في المجالس، بل ربما يكونون معهم في بيوتهم؛ لأنهم من قراباتهم وما أشبه ذلك، فخفف الله عنهم، وقال: أنتم لا تحملون من أوزارهم إذا لم تشاركونهم في هذا الخوض، وقوموا عنهم ليتذكروا فقط، وإلا فإن جلوسكم ليس فيه تبعة عليكم ما لم تشاركوا، قالوا: ثم نسخ هذا الحكم بقوله تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ [سورة النساء:140] لكن نقول: إن النسخ لا يثبت بالاحتمال، والأصل عدم النسخ، وإذا أمكن توجيه الآيات، والجمع بينها؛ عمل بذلك، ولا معارضة بين الآيات هنا فلا يقال: إنها منسوخة.
وكأن الذي حمل ابن جرير - رحمه الله - ومن قال بقوله: إنها منسوخة أن الله تعالى قال: وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ [سورة الأنعام:69] فقالوا: إذا كانوا منهيون عن مجالستهم أصلاً فقد صار هذا معلوماً، ولا يحتاج أن ينبه عليه فيقال: وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ [سورة الأنعام:69] لكن ما ذكره ابن كثير هو الأقرب، والله تعالى أعلم.
"وقوله: وَلَكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [سورة الأنعام:69] أي: ولكن أمرناكم بالإعراض عنهم حينئذ تذكيراً لهم عما هم فيه لعلهم يتقون ذلك، ولا يعودون إليه".

وبعضهم يقول: إن قوله: وَلَكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ يعني لا يحملون تبعة حتى وإن قيل: إنه يرخص لهم بالمجالسة إذا جالسوهم لكن عليهم أن يذكروهم، وأن يعظوهم، أو ينهونهم عن ذلك لعلهم يتقون.
وبعضهم يقول: إن قوله: وَلَكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [سورة الأنعام:69] يعني ولكن هذه ذكرى من أجل أن يتقوا ذلك.

مرات الإستماع: 0

"وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 69] الذين يتقون هم المؤمنون."

وهو هذا الأقرب، وهذا الظاهر، وبعضهم يقول: وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ أن يتقون مجالسة هؤلاء، يعني حينما يتقون هذه المجالسة في حال خوض أولئك الخائضين، لكن هذا فيه بعد وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ يعني: يتقون الله، فإن استعمال التقوى كثير في هذا المعنى، والقرآن يفسر بالغالب استعمالاً في القرآن.

وبعضهم يقول: يتقون ما يقع منهم من الخوض، فلا عليهم في مجالستهم، وهذا أيضًا مثل الذي قبله وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ يتقون ما يقع، فهذا تفسير له بما يتفق مع سياقه؛ يعني: بمعنى أخص من عموم التقوى، التي هي تقوى الله، ويدخل فيها عدم مجالسة هؤلاء الخائضين، وعدم القبول لخوضهم، وعدم المشاركة لهم فيه، كل هذا داخل في التقوى؛ فتقوى الله تقتضي ترك ذلك، والمباعدة منه.

ومن أهل العلم من نظر إلى السياق وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ يتقون يعني ما يقع من هؤلاء من الخوض، فلا عليهم في مجالستهم، هذا قاله ابن جرير - رحمه الله - قال: "ولكن ليعرضوا عنهم حينئذ ذكرى لأمر الله، لعلهم يتقون"[1].

وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأنعام: 69] لكن كأن الذي ذكره ابن جزير - رحمه الله - تفسير التقوى عمومًا بمعناها، يقول: وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ يعني من أهل الإيمان، الذين يتقون الله - تبارك، وتعالى - فيتضمن ما ذكره ابن جرير.

"والضمير في حسابهم للكفار المستهزئين، والمعنى: ليس على المؤمنين شيء من حساب الكفار على استهزائهم، وضلالهم."

يعني إذا اجتنبوهم فلم يخالطوهم كما يقول ابن كثير[2] لأنه الإنكار بالقلب يقتضي مفارقة المنكر، والله - تبارك، وتعالى - يقول: فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ [النساء: 140] ويقول: إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ [النساء: 140].

"وفي نسخة: وإضلالهم."

يصح، وإضلالهم، وضلالهم لا إشكال.

"وقيل: إن ذلك يقتضي إباحة جلوس المؤمنين مع الكافرين؛ لأنهم شق عليهم النهي عن ذلك إذ كانوا لا بد لهم من مخالطتهم في طلب المعاش، وفي الطواف بالبيت، وغير ذلك، ثم نسخت بآية النساء، وهي: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ [النساء: 140] الآية؛ وقيل: إنها لا تقتضي إباحة القعود."

يعني باعتبار كما ذكر ابن جرير[3] في حال اتقاء الخوض فقط وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 69] يعني إذا خالطوهم، وجالسوهم لكن في غير حال الخوض، فيكون إباحةً لمجالستهم، لكن الذي يظهر - والله أعلم - لو قيل بأن ذلك وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 69] أن المؤمنين لا يطالبهم من خوض أولئك الخائضين شيء، ولا يضرهم إذا كانوا يتقون، ومن التقوى ألا يجالسوهم في حال خوضهم، وأما المجالسة في غير حال الخوض، فذلك يكون بحسب ما تقتضيه المصلحة، فقد يجالسهم لمصلحة أخروية من دعوتهم، وقد يجالسهم في مصلحة دنيوية كالبيع، والشراء، ونحو ذلك في غير خوضهم، يعني في وقت آخر.

"قوله تعالى: وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأنعام: 69] فيه، وجهان:

أحدهما: أن المعنى ليس على المؤمنين حساب الكفار، ولكن عليهم تذكير لهم، ووعظ، وإعراب ذكرى على هذا نصب على المصدر، وتقديره: يذكرونهم ذكرى."

أو ذكروهم ذكرى، ولكن ذكرى، ذكروهم ذكرى، يعني: ولستم مسؤولين عنهم، وعن خوضهم؛ فالله يتولاهم، ولكن عليكم التذكير، عليكم بالنصح.

"أو رفع على المبتدأ تقديره: عليهم ذكرى، والضمير في لعلهم عائد على الكفار."

ويحتمل أيضًا أن يكون خبرًا لمبتدأ معروف، هو ذكرى، ولكن ذكرى، ولكن هو ذكرى، أي الواجب ذكرى، أو هذا ذكرى، يعني النهي عن مجالستهم ذكرى، والجملة معطوفة بالواو على جملة وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى.

"والضمير في "لعلهم" عائد على الكفار؛ أي: يذكرونهم رجاء أن يتقوا، أو عائد على المؤمنين، أي: يذكرونهم ليكون تذكيرهم، ووعظهم تقوًا لله.

والوجه الثاني: أن المعنى ليس نهي المؤمنين، عن القعود مع الكافرين، بسبب أن عليهم من حسابهم شيء، وإنما هو ذكرى للمؤمنين، وإعراب ذكرى على هذا خبر ابتداء مضمر تقديره: ولكن نهيهم ذكرى، أو مفعول من أجله، تقديره: إنما نهوا ذكرى، والضمير في لعلهم على هذا، للمؤمنين لا غير."

الأول أقرب - والله أعلم - ويدل عليه السياق.

  1. تفسير الطبري (9/316).
  2. تفسير ابن كثير (2/435).
  3. تفسير الطبري (7/603).