يقول تعالى: وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ قال ابن كثير: "أي: إذا تجنبوهم فلم يجلسوا معهم في ذلك فقد برؤوا من عهدتهم، وتخلصوا من إثمهم" كأنه يقول: وما على الذين يتقون الله من تبعة، ووزر؛ يحملونه من أوزار هؤلاء الخائضين إذا اتقوهم بالإعراض عنهم وعدم مجالستهم في هذا الخوض.
ومن أهل العلم من قال: إن المراد: وما على الذين يتقون مجالستهم عند الخوض، لكن ما ذكره ابن كثير - رحمه الله - أحسن من هذا.
ومن أهل العلم من قال: وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ أي: يتقون الخوض يعني يجلسون معهم لكن لا يدخلون معهم في هذا الخوض، ولا يرتضونه، ولا يشاركونهم فيه، وهذا معنى بعيد؛ لأن الله نهى عن مجالسة هؤلاء الخائضين فقال تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ [سورة النساء:140]، ومقتضى إنكار المنكر بالقلب أن نفارقهم، فالإنسان ينكر بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، ولا يكون منكراً بقلبه وهو جالس مع المنكر كما قال تعالى: إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ [سورة النساء:140] فهو مشارك لهم بحضوره في مثل هذا المجلس.
والعجيب أن ابن جرير - رحمه الله - حمل قوله تعالى: وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ [سورة الأنعام:69] على هذا المعنى الأخير أي: يتقون الخوض معهم، والمشاركة، بمعنى أنهم إذا حضروا فليس عليهم من وزرهم شيء، ثم قال ابن جرير: ولكن ليعرضوا عنهم ذكرى لأمر الله لعلهم يتقون، أي: لو جلسوا معهم، وتجنبوا هذا الخوض ما شاركوهم فيه، فليس عليهم من وزرهم شيء لكن ليفارقونهم لعل ذلك يحرك في نفوسهم شيئاً، فيتركون ما هم فيه من الباطل، والخوض، وهذا المعنى بعيد؛ فلا يجوز الجلوس مع الخائضين، ومن جلس معهم فهو في حكمهم؛ إلا أن يكون مكرهاً لا حيلة له، والله أعلم.
وبعضهم يقول: إن هذه الآية وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ [سورة الأنعام:69] منسوخة بالآية الأخرى وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ [سورة النساء:140] وقالوا: هذا كان في أول الإسلام حيث كان المسلمون ضعفاء، ويحتاجون إلى مجالسة الكفار؛ فكانوا يشتركون معهم في المجالس، بل ربما يكونون معهم في بيوتهم؛ لأنهم من قراباتهم وما أشبه ذلك، فخفف الله عنهم، وقال: أنتم لا تحملون من أوزارهم إذا لم تشاركونهم في هذا الخوض، وقوموا عنهم ليتذكروا فقط، وإلا فإن جلوسكم ليس فيه تبعة عليكم ما لم تشاركوا، قالوا: ثم نسخ هذا الحكم بقوله تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ [سورة النساء:140] لكن نقول: إن النسخ لا يثبت بالاحتمال، والأصل عدم النسخ، وإذا أمكن توجيه الآيات، والجمع بينها؛ عمل بذلك، ولا معارضة بين الآيات هنا فلا يقال: إنها منسوخة.
وكأن الذي حمل ابن جرير - رحمه الله - ومن قال بقوله: إنها منسوخة أن الله تعالى قال: وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ [سورة الأنعام:69] فقالوا: إذا كانوا منهيون عن مجالستهم أصلاً فقد صار هذا معلوماً، ولا يحتاج أن ينبه عليه فيقال: وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ [سورة الأنعام:69] لكن ما ذكره ابن كثير هو الأقرب، والله تعالى أعلم.
وبعضهم يقول: إن قوله: وَلَكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ يعني لا يحملون تبعة حتى وإن قيل: إنه يرخص لهم بالمجالسة إذا جالسوهم لكن عليهم أن يذكروهم، وأن يعظوهم، أو ينهونهم عن ذلك لعلهم يتقون.
وبعضهم يقول: إن قوله: وَلَكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [سورة الأنعام:69] يعني ولكن هذه ذكرى من أجل أن يتقوا ذلك.