الأربعاء 09 / ذو القعدة / 1446 - 07 / مايو 2025
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱلَّيْلُ رَءَا كَوْكَبًا ۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّى ۖ فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَآ أُحِبُّ ٱلْءَافِلِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وقوله تعالى: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ [سورة الأنعام:76] أي: تغشاه، وستره؛ رَأَى كَوْكَبًا [سورة الأنعام:76] أي: نجماً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ [سورة الأنعام:76] أي: غاب قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ [سورة الأنعام:76] قال قتادة: علم أن ربه دائم لا يزول".

قول إبراهيم ﷺ للنجم أو الكوكب، ثم القمر، ثم الشمس: هذا ربي، من أهل العلم من قال: إنه قاله ناظراً لا مناظراً، وهذا الذي مشى عليه كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله - وجماعة من أهل العلم، وهذا بناء على أن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ربما يكون الواحد منهم على دين قومه قبل أن يوحي الله إليه - يعني على الشرك -، وهذه المسألة فيها خلاف كثير بين أهل العلم، أعني هل كان الأنبياء على دين قومهم قبل أن يوحى إليهم؟ ومن يقولون بهذا يحتجون أيضاً بقوله - تبارك وتعالى -: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا [سورة إبراهيم:13]، وأجابوهم أيضاً بقولهم: إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا [سورة الأعراف:89].
والحاصل أنهم قالوا: إنه التعبير بالعود يدل على أنهم كانوا على هذه الحال قبلُ، لكن الأقرب - والله تعالى أعلم - أن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - لم يكونوا قط على الإشراك، وعلى دين قومهم، وأما الاحتجاج بالتعبير بقوله: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا [سورة إبراهيم:13] فيقال: إن العود في لغة العرب له معنيان - وهذا من خصائص هذه اللغة -:
المعنى الأول: هو أن الشيء يرجع إلى حاله الأولى كما قال بعضهم:
إذا شاب الغراب أتيت أهلي وعاد القار كاللبن الحليب
فقوله: عاد القار يعني رجع، وهذا المثال في هذا البيت يفيد الرجوع إلى غير حاله الأولى، وقول النبي - عليه الصلاة والسلام -: حتى يعود اللبن في الضرع[1] هذا رجوع إلى حاله الأولى، والرجوع أو العود في الآية: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا [سورة الأعراف:88] يحمل على رجوعه إلى حال غير الأولى، ويفسر بمطلق الصيرورة، فيقال: وعاد القار كاللبن الحليب يعني صار كما تقول: عاد الصبي شيخاً، يعني صار كبيراً، فهو لم يكن كذلك في السابق، وتقول: عاد الطين خزفاً أي صار خزفاً؛ لأنه لم يكن قبل خزفاً، وتقول: عاد الخشب كرسياً وهكذا، فرجع وعاد تأتي بمعنى العود إلى الحالة الأولى، وتأتي بمعنى مطلق الصيرورة.
وفي الحديث يقول النبي ﷺ: حتى تعود جزيرة العرب مروجاً وأنهاراً[2] فهذا يحتمل المعنيين، يحتمل أن يكون المعنى حتى تصير مروجاً وأنهاراً أي أنه لم يتعرض لحالها الأولى التي كانت عليها، ويحتمل أن يكون المقصود رجوع جزيرة العرب إلى حالها الأولى التي كانت عليها، والذين يشتغلون ويتكلمون في الإعجاز العلمي يذكرون هذا على أن المعنى الثاني هو المعنى الوحيد الذي لا يحتمل الحديث سواه، ويقولون: هذا من الإعجاز، وهذا الكلام غير صحيح، فالحديث يحتمل المعنيين، ولذلك يقال: هذا على أحد الوجهين في تفسير الحديث.
والحاصل أن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - لم يكونوا على دين قومهم قط، والله قال عن إبراهيم ﷺ: وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [سورة الأنعام:161] ونفي الكون في الماضي يستغرق جميع الزمن الماضي، أي ما كان في وقت من الأوقات من المشركين، فالأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - كانوا على التوحيد، ثم اختارهم الله - تبارك وتعالى -، وأوحى إليهم.
وأما قوله تعالى عن نبيه محمد ﷺ: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [سورة الضحى:7] فإنه يفسر بقوله تعالى: مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ [سورة الشورى:52] بمعنى: ضالاً عن هذا الوحي، والرسالة، وتفاصيل شرائع الإيمان وما أشبه ذلك، وليس المراد أنه ضال عن الحق مائل إلى الباطل؛ لأن أصل كلمة الضلال ضلَّ بمعنى الذهاب، فكل من كان ذاهباً عن الشيء يقال له: ضال كما قال الشاعر:
فآب مضلوه بعين جلية وغودر بالجولان حزم ونائل
قوله: آب مضلوه: أي رجع دافنوه لما ضلوه في الأرض.
وقوله تعالى: أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ [سورة السجدة:10] يعني ذهبنا فيها إذا ماتوا، ودفنوا.
وقول أخوة يوسف - عليه الصلاة والسلام - لأبيهم يعقوب ﷺ: إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ [سورة يوسف:95] لو كانوا يقصدون فيه الذهاب عن الحق مطلقاً لكانوا كفاراً بهذا القول؛ إذ كيف يقولون هذا الكلام لنبي من أنبياء الله تعالى؟ وإنما قصدوا بقولهم: إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ [سورة يوسف:95] يعني أنت ذاهب عن الحق في شأن يوسف ﷺ.
والخلاصة أن هذه النصوص لا تدل على أن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - كانوا على دين قومهم بحال من الأحوال - والله تعالى أعلم -، ولهذا يقال: إن قول إبراهيم ﷺ: هَذَا رَبِّي [سورة الأنعام:76] قاله مناظراً لا ناظراً، يعني قاله على سبيل التنزل.
وبعض أهل العلم يقول: إنه على تقدير الاستفهام هَذَا رَبِّي [سورة الأنعام:76] أي: أهذا ربي، وذلك أنه قد يحذف الاستفهام وهو مراد كما في قوله تعالى: أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ [سورة الأنبياء:34] أي: أفإن مت أفهم الخالدون.
ومن ذلك قول الهذلي:
رقوني وقالوا يا خويلد لم تُرَع فقلت وأنكرت الوجوه همُ همُ؟
يعني أهمُ هم؟
ومنه قول عمر بن أبي ربيعة في الأبيات التي قالها في فاطمة بنت طلحة:
بَدَا ليَ مِنْها مِعْصَمٌ يَوْمَ جَمَّرَتْ وَكَفٌّ خَضِيبٌ زُيِّنَتْ بِبَنانِ
فوالله ما أدري وإني لحاسبٌ بِسَبْعٍ رَمَيْتُ الجَمْرَ أَمْ بِثَمان
فقوله: يوم جمَّرت يعني وهي ترمي الجمار.
وقوله: فوالله لا أدري وإن كنت لحاسبٍ بسبع أي أبسبع؟ ففيه استفهام مقدر معروف من الكلام هكذا: أبسبع رميت الجمر أم بثمان؟ وهذا معروف في كلام العرب حيث تحذف الاستفهام، لكن الأقرب أن قوله هنا: هَذَا رَبِّي [سورة الأنعام:76] ليس فيه استفهام مقدر، وإنما قال ذلك على سبيل التنزل مع الخصم في المناظرة شيئاً فشيئاً حتى أقام عليه الحجة - والله تعالى أعلم -، وهذا الذي مشى عليه الحافظ ابن كثير هنا وهو اختيار جماعة من المحققين من أهل العلم، ومن المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله تعالى -.
  1. الحديث بتمامه يقول فيه النبي ﷺ: لا يلج النار رجل بكي من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جنهم أخرجه الترمذي في كتاب فضائل الجهاد - باب ما جاء في فضل الغبار في سبيل الله (1633) (ج 4 / ص 171) والنسائي في كتاب الجهاد - باب فضل من عمل في سبيل الله على قدمه (3108) (ج 6 / ص 12) وأحمد (10567) (ج 2 / ص 505) وصححه الألباني في مشكاة المصابيح برقم (3828).
  2. وهذا جزء من قوله ﷺ: لا تقوم الساعة حتى يكثر المال، ويفيض حتى يخرج الرجل بزكاة ماله فلا يجد أحداً يقبلها منه، وحتى تعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الزكاة - باب الترغيب في الصدقة قبل أن لا يوجد من يقبلها (157) (ج 2 / ص 700).

مرات الإستماع: 0

"قوله تعالى: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ [الأنعام: 76] أي ستره يقال: جنّ عليه الليل، وأجنه، قوله تعالى: رَأى كَوْكَبًا قالَ هذا رَبِّي [الأنعام: 76] يحتمل أن يكون هذا الذي جرى لإبراهيم في الكوكب، والقمر، والشمس أن يكون قبل البلوغ، والتكليف.

وقد روي أن أمه ولدته في غار خوفًا من نمروذ؛ إذ كان يقتل الأطفال لأن المنجمين أخبروه أن هلاكه على يد صبي، ويحتمل أن يكون جرى له ذلك بعد بلوغه، وتكليفه، وأنه قال ذلك لقومه على وجه الرد عليهم، والتوبيخ لهم، وهذا أرجح لقوله بعد ذلك: إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام: 78] ولا يتصور أن يقول ذلك، وهو منفرد في الغار لأن ذلك يقتضي محاجةً، وردّا على قومه، وذلك أنهم كانوا يعبدون الأصنام، والشمس، والقمر، والكواكب، فأراد أن يُبين لهم الخطأ في دينهم، وأن يُرشدهم إلى أن هذه الأشياء لا يصح أن يكون واحد منها إلهًا، لقيام الدليل على حدوثها، وأن الذي أحدثها، ودبر طلوعها، وغروبها، وأفولها هو الإله الحق وحده، فقوله: هَذَا رَبِّي [الأنعام: 76] قول من ينصف خصمه، مع علمه أنه مبطل؛ لأن ذلك أدعى إلى الحق، وأقرب إلى رجوع الخصم، ثم أقام عليهم الحجة بقوله لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ [الأنعام: 76]."

هنا هذا المعنى الأول الذي ذكره، أن ذلك كان قبل البلوغ، منشأ هذا القول هو استشكال، أن يقول إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام - في الكوكب هَذَا رَبِّي بمعنى خلاف العلماء في هذا الموضع، هل قال ذلك إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام - ناظرًا، أو مناظرًا؟ هذا السؤال، هل قاله ناظرًا، يعني قاله ناظرًا بمعنى أنه اعتقد ربوبية الكوكب، فلما أفل أعرض عن ذلك، ونزع عنه، ثم قال ذلك فيما هو أكبر منه، وهو القمر، فلما أفل نزع عن ذلك، فلما رأى الشمس قال: هذا أكبر، يعني: أنه هو ربه، فلما أفلت تبرأ من ذلك كله، ومن معبودات المشركين، وذكر أنهم كانوا مع عبادتهم الأصنام، يعبدون الكواكب، أنهم كانوا يعبدون الكواكب، فقال ذلك في الرد عليهم، وأنه اعتقد ربوبية الكواكب، يعني أنه قاله ناظرًا، ولم يقله مناظرًا، لم يقله مناظرًا؛ يعني: على سبيل التنزل مع الخصم، هذا معنى مناظر، يعني في مقام المناظرة تنزلاً مع الخصم، نعم، يعني كأنه يقول: هَذَا رَبِّي هب ذلك، لا أنه يعتقد ربوبية الكوكب، وهذا هو الصحيح، أن إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام - قاله مناظرًا، قاله على سبيل المناظرة، من باب التنزل مع الخصم، ولا حاجة لأن يقال: قال ذلك قبل البلوغ، والتكليف، وإبراهيم - عليه الصلاة، والسلام - ما كان قط على دين قومه، وقد ذكرنا من قبل في بعض المناسبات مثل هذا، هل كان الأنبياء على دين قومهم؟

أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا [الأعراف: 88] فهل ذلك يقتضي أنهم كانوا عليها، فطولبوا بالرجوع ثانيةً إلى تلك الملة؟ قلنا هناك: بأن لفظ العود قد يأتي بمعنى مطلق الصيرورة، يعني تصيرون إلى ملتنا، لا يقتضي أنهم كانوا قبل ذلك عليها، وذكرت هناك بعض الأمثلة، مثل: عاد الماء ثلجًا، ولم يكن كذلك قبل، وعاد الصبي شيخًا، وعاد الطين خزفًا، ولم يكن قبل ذلك على هذه الحال؛ فهذا معنًى صحيح في اللغة، فالأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام - ما كانوا على دين قومهم، مع أن لفظة عاد تأتي أيضًا بمعنى الرجوع ، رجوع الشيء على حاله الأولى، حتى يعود اللبن في الضرع، لكنه ليس بمراد هنا، فهذا الزعم بأن أمه ولدته في غار خوفًا من النمرود، هذا كله لا يثبت.

وبعضهم يقول: بأن ذلك يمكن أن يكون على سبيل الاستفهام هَذَا رَبِّي أي: أهذا ربي؟ فقد يحذف حرف الاستفهام، تقول: هذا الذي يقول كذا، أي: أهذا الذي يقول كذا؟ كقوله: أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ [الأنبياء: 34] يعني: أفهم الخالدون؟ لكن لا حاجة لهذا، وإنما كان ذلك على وجه الرد عليهم، وهذا هو الذي اختاره الحافظ ابن كثير[1] والشيخ محمد الأمين الشنقيطي[2] وجماعة من المحققين، أنه قاله مناظرًا على سبيل التنزل مع الخصم.

ويقول: لأن ذلك أدعى إلى الحق، وأقرب إلى رجوع الخصم، بدليل أن الله قال عن إبراهيم  - عليه الصلاة، والسلام -: وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [البقرة: 135] فذلك نفي الكون الماضي يستغرق جميع الزمان الماضي، بدليل أن قوله: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ [الأنعام: 76] معطوف على قوله: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [الأنعام: 75] فكيف يكون ذلك؟ يعني: يقول: هَذَا رَبِّي معتقدًا، وقد أراه الله ملكوت السماوات، والأرض؟ يعني: لما أراه الله ذلك؛ ناظر قومه فاحتج عليهم، وظهر عليهم في الحجة، فكيف يقال: أنه قاله معتقدًا، وقد أراه الله ملكوت السماوات، والأرض.

"ثم أقام عليه الحجة بقوله: لا أُحِبُّ الآفِلِينَ [الأنعام: 76] أي: لا أحب عبادة المتغيرين؛ لأن التغير دليل على الحدوث، والحدوث ليس من صفات الإله."

في الطبعة الجديدة، قال الشيخ عبد الرحمن البراك  - حفظه الله تعالى -: قوله: "ثم أقام عليه الحجة بقوله: لا أُحِبُّ الآفِلِينَ [الأنعام: 76] أي: لا أحب عبادة المتغيرين؛ لأن التغير دليل على الحدوث .." إلى آخر كلامه، أقول عليه في هذا الكلام مأخذان:

أحدهما: تفسير الأفول بالتغير، وهو من التفسير باللازم، فإن أفل في اللغة بمعنى: غاب، والأفول: هو الغياب بعد الظهور، فعليه يكون: لا أُحِبُّ الآفِلِينَ أي: الغائبين بعد الظهور.

الثاني: جزمه بأن كل متغير محدث؛ فيقتضي ذلك نفي التغير عن الله، وابن جزي، وأمثاله، يطلقون نفي التغير عن الله بهذه الشبهة، والصواب: أن التغير من الألفاظ المحدثة المجملة، التي لا تجوز إضافتها إلى الله لا نفيًا، ولا إثباتًا، إلا بعد الاستفصال عن مراد المتكلم بها، فإن أراد حقًا قُبل، وإن أراد باطلاً رُدَّ، وإن أرادهما مُيز الباطل من الحق، فعلى هذا إن أريد بالتغير قيام الأفعال الاختيارية به سبحانه؛ فالنفي باطل، والإثبات حق، وإن أريد بالتغير النقص بعد الكمال في ذاته - تعالى - وصفاته؛ فالنفي حق، والإثبات باطل، وابن جزي - رحمه الله - وأمثاله، هم من نفاة الصفات الفعلية في الجملة".

صحيح، هذا سبق التعليق بنحو من هذا، في موضع سابق، في عبارة تشبه هذه لما ذكر صفات الحدوث، أعني: ابن جزي - رحمه الله - بنحو هذا الكلام، وهم يقصدون بذلك نفي الصفات الاختيارية المتعلقة بمشيئته، وإرادته، كصفة النزول، والكلام على عقيدة أهل السنة، والجماعة؛ لأن المتكلمين من الأشاعرة يقولون: نثبت صفة الكلام، لكنهم في الواقع يوافقون المعتزلة في أن القرآن مخلوق، ويصرحون بهذا في بعض كتبهم، كشرح الجوهرة، وغيره، ويقولون: لا نصرح بهذا إلا في مجالس العلم، يقصدون: من أجل ألا يفهم العامة أن القرآن مخلوق كما تقول المعتزلة، وهم يبدون أنفسهم على أنهم خصوم المعتزلة، ويردون عليهم في هذه المسألة، وغيرها.

ولكن في الواقع فهم يثبتون كلامًا لا يتصور ثبوته، ووقوعه، يقولون: بأن كلامه لا تعاقب فيه، ولا انقضاء، وهو معنى واحد قائم بالنفس، معنى واحد معنى، وليس بألفاظ، يقولون: الألفاظ مخلوقة، إما أن جبريل هو الذي عبر عما فهم من المعنى عن الله، أو تلقفه من الله تلقفًا روحانيًا، أو أن الله خلقه في الهواء، خلقه: يعني القرآن في الهواء، أو يقولون: أخذه من اللوح المحفوظ، أن الله كتبه في اللوح المحفوظ، فأخذه جبريل، أو أخذه من بيت العزة، أو أن جبريل ألقاه إلى النبي ﷺ ألقى المعنى، والنبي ﷺ هو الذي عبر به، يعني أنه هذا القرآن من كلام النبي ﷺ ومعانيه من الله، هذه كلها عبارات للأشاعرة، وهذا كلام كله غير صحيح، والله قال عمن قال بأنه من قول البشر، قال: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ [المدثر: 26] فهذا كلام الله : فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة: 6].

وقولهم: بأنه لا تعاقب فيه، ولا انقضاء، هذا باطل يعني بمعنى أنهم يقولون: لا تعاقب فيه، ولا انقضاء، بمعنى مثلاً: بسم الله، السين ليست بعد الباء، والميم ليست بعد السين، إنما ذلك معنى، واحد لا يتعاقب؛ لأن التعاقب يقتضي الحدوث، عندهم هكذا، ومن، ثم ينفون بأن الله يتكلم متى شاء، يعني: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ [آل عمران: 55] أو أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ [المائدة: 116] يعني حينما يتكلم الله يوم القيامة، أو في أي، وقت شاء، هم ينفون مثل هذا، ويقولون: كلامه هو معنًى واحد قائم في النفس، الأمر: عين النهي، عين الخبر، يعني الأمر عين النهي هذا لا يمكن، يقولون: إن عبر عنه بالعربية فهو قرآن، وإن عبر عنه بالعبرانية فهو توراة؛ وإن عبر عنه بالسريانية فهو إنجيل، وهذا المعنى الواحد، هذا كلام لا يعقل، يسمونه المعنى النفسي، وهذا لا يتصور أبدًا.

يعني: قول المعتزلة أحسن منهم، المعتزلة لا يتصورون كلامًا من غير لفظ، فالكلام إنما هو مثل الإنسان، مجموع الروح، والجسد، فالكلام: مجموع اللفظ، والمعنى، ولا يتصور كلام من غير ألفاظ، فالمعتزلة يقولون: بأن القرآن هو هذه الألفاظ، لكنها مخلوقة، بناءً على أصل فاسد عندهم، والذي أوقع الأشاعرة في هذا أنهم ناظروا المعتزلة، فلما كان حظهم عن الأشاعرة من علم منقول ضعيفًا؛ ألزمهم المعتزلة بالزامات فالتزموا بعضها، فوقعوا في مثل هذه الإشكالات، في مسألة الأفعال الاختيارية، فرارًا من إثبات حلول الحوادث بذات الله التي ألزمهم بها المعتزلة، قالوا: إذا كنتم تقرون بأن الله يفعل ما شاء متى شاء، ويتكلم متى شاء، فأنتم تقولون: بحلول الحوادث بذات الله، وهذا غلط، نعم فهؤلاء من الأشاعرة ما كان عندهم علم وافي بالمنقول، وإنما عندهم علم بهذه القضايا الكلامية، والعقل عندهم مقدم على النقل؛ فالتزموا بعض هذه اللوازم، فوقعوا في أمور عجيبة، أضحكت منهم العقلاء مثل الكلام النفسي، مثل مسألة الكسب في أفعال العباد في باب القدر، فلا حاجة للاسترسال في مثل هذا، لكن للأسف هذا وقع لهم، بسبب مناظراتهم للمعتزلة، فأوقعهم ذلك في هذه الأمور. 

  1. تفسير ابن كثير (3/292).
  2. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1/486).