قول إبراهيم ﷺ للنجم أو الكوكب، ثم القمر، ثم الشمس: هذا ربي، من أهل العلم من قال: إنه قاله ناظراً لا مناظراً، وهذا الذي مشى عليه كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله - وجماعة من أهل العلم، وهذا بناء على أن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ربما يكون الواحد منهم على دين قومه قبل أن يوحي الله إليه - يعني على الشرك -، وهذه المسألة فيها خلاف كثير بين أهل العلم، أعني هل كان الأنبياء على دين قومهم قبل أن يوحى إليهم؟ ومن يقولون بهذا يحتجون أيضاً بقوله - تبارك وتعالى -: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا [سورة إبراهيم:13]، وأجابوهم أيضاً بقولهم: إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا [سورة الأعراف:89].
والحاصل أنهم قالوا: إنه التعبير بالعود يدل على أنهم كانوا على هذه الحال قبلُ، لكن الأقرب - والله تعالى أعلم - أن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - لم يكونوا قط على الإشراك، وعلى دين قومهم، وأما الاحتجاج بالتعبير بقوله: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا [سورة إبراهيم:13] فيقال: إن العود في لغة العرب له معنيان - وهذا من خصائص هذه اللغة -:
المعنى الأول: هو أن الشيء يرجع إلى حاله الأولى كما قال بعضهم:
إذا شاب الغراب أتيت أهلي | وعاد القار كاللبن الحليب |
وفي الحديث يقول النبي ﷺ: حتى تعود جزيرة العرب مروجاً وأنهاراً[2] فهذا يحتمل المعنيين، يحتمل أن يكون المعنى حتى تصير مروجاً وأنهاراً أي أنه لم يتعرض لحالها الأولى التي كانت عليها، ويحتمل أن يكون المقصود رجوع جزيرة العرب إلى حالها الأولى التي كانت عليها، والذين يشتغلون ويتكلمون في الإعجاز العلمي يذكرون هذا على أن المعنى الثاني هو المعنى الوحيد الذي لا يحتمل الحديث سواه، ويقولون: هذا من الإعجاز، وهذا الكلام غير صحيح، فالحديث يحتمل المعنيين، ولذلك يقال: هذا على أحد الوجهين في تفسير الحديث.
والحاصل أن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - لم يكونوا على دين قومهم قط، والله قال عن إبراهيم ﷺ: وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [سورة الأنعام:161] ونفي الكون في الماضي يستغرق جميع الزمن الماضي، أي ما كان في وقت من الأوقات من المشركين، فالأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - كانوا على التوحيد، ثم اختارهم الله - تبارك وتعالى -، وأوحى إليهم.
وأما قوله تعالى عن نبيه محمد ﷺ: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [سورة الضحى:7] فإنه يفسر بقوله تعالى: مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ [سورة الشورى:52] بمعنى: ضالاً عن هذا الوحي، والرسالة، وتفاصيل شرائع الإيمان وما أشبه ذلك، وليس المراد أنه ضال عن الحق مائل إلى الباطل؛ لأن أصل كلمة الضلال ضلَّ بمعنى الذهاب، فكل من كان ذاهباً عن الشيء يقال له: ضال كما قال الشاعر:
فآب مضلوه بعين جلية | وغودر بالجولان حزم ونائل |
وقوله تعالى: أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ [سورة السجدة:10] يعني ذهبنا فيها إذا ماتوا، ودفنوا.
وقول أخوة يوسف - عليه الصلاة والسلام - لأبيهم يعقوب ﷺ: إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ [سورة يوسف:95] لو كانوا يقصدون فيه الذهاب عن الحق مطلقاً لكانوا كفاراً بهذا القول؛ إذ كيف يقولون هذا الكلام لنبي من أنبياء الله تعالى؟ وإنما قصدوا بقولهم: إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ [سورة يوسف:95] يعني أنت ذاهب عن الحق في شأن يوسف ﷺ.
والخلاصة أن هذه النصوص لا تدل على أن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - كانوا على دين قومهم بحال من الأحوال - والله تعالى أعلم -، ولهذا يقال: إن قول إبراهيم ﷺ: هَذَا رَبِّي [سورة الأنعام:76] قاله مناظراً لا ناظراً، يعني قاله على سبيل التنزل.
وبعض أهل العلم يقول: إنه على تقدير الاستفهام هَذَا رَبِّي [سورة الأنعام:76] أي: أهذا ربي، وذلك أنه قد يحذف الاستفهام وهو مراد كما في قوله تعالى: أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ [سورة الأنبياء:34] أي: أفإن مت أفهم الخالدون.
ومن ذلك قول الهذلي:
رقوني وقالوا يا خويلد لم تُرَع | فقلت وأنكرت الوجوه همُ همُ؟ |
ومنه قول عمر بن أبي ربيعة في الأبيات التي قالها في فاطمة بنت طلحة:
بَدَا ليَ مِنْها مِعْصَمٌ يَوْمَ جَمَّرَتْ | وَكَفٌّ خَضِيبٌ زُيِّنَتْ بِبَنانِ |
فوالله ما أدري وإني لحاسبٌ | بِسَبْعٍ رَمَيْتُ الجَمْرَ أَمْ بِثَمان |
وقوله: فوالله لا أدري وإن كنت لحاسبٍ بسبع أي أبسبع؟ ففيه استفهام مقدر معروف من الكلام هكذا: أبسبع رميت الجمر أم بثمان؟ وهذا معروف في كلام العرب حيث تحذف الاستفهام، لكن الأقرب أن قوله هنا: هَذَا رَبِّي [سورة الأنعام:76] ليس فيه استفهام مقدر، وإنما قال ذلك على سبيل التنزل مع الخصم في المناظرة شيئاً فشيئاً حتى أقام عليه الحجة - والله تعالى أعلم -، وهذا الذي مشى عليه الحافظ ابن كثير هنا وهو اختيار جماعة من المحققين من أهل العلم، ومن المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله تعالى -.
- الحديث بتمامه يقول فيه النبي ﷺ: لا يلج النار رجل بكي من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جنهم أخرجه الترمذي في كتاب فضائل الجهاد - باب ما جاء في فضل الغبار في سبيل الله (1633) (ج 4 / ص 171) والنسائي في كتاب الجهاد - باب فضل من عمل في سبيل الله على قدمه (3108) (ج 6 / ص 12) وأحمد (10567) (ج 2 / ص 505) وصححه الألباني في مشكاة المصابيح برقم (3828).
- وهذا جزء من قوله ﷺ: لا تقوم الساعة حتى يكثر المال، ويفيض حتى يخرج الرجل بزكاة ماله فلا يجد أحداً يقبلها منه، وحتى تعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الزكاة - باب الترغيب في الصدقة قبل أن لا يوجد من يقبلها (157) (ج 2 / ص 700).