الخميس 10 / ذو القعدة / 1446 - 08 / مايو 2025
إِنِّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ [سورة الأنعام:79] أي: أخلصت ديني، وأفردت عبادتي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ [سورة الأنعام:79] أي: خلقهما، وابتدعهما على غير مثال سبق".

يعني ابتدأ خلقهما على غير مثال سبق يقول تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [سورة فاطر:1] يعني المنشئ الأول على غير مثال يُحتذى.
"حَنِيفًا [سورة الأنعام:79] أي: في حال كوني حنيفاً، أي: مائلاً عن الشرك إلى التوحيد".

معنى الحنف هنا هو الميل من عبادة غير الله إلى عبادة الله - تبارك وتعالى -، وذلك أن أصل معنى الحنف هو الميل، وقد سمي الأحنف بن قيس بذلك لميل في رجليه، ويقال: إن أمه كانت ترقصه وهو صغير وتقول:
والله لولا حنف في رجل ما كان في فتيانكم من مثله
فالحنف هو الميل، وقوله: حَنِيفًا أي مائلاً.
"ولهذا قال: وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [سورة الأنعام:79] والحق أن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - كان في هذا المقام مناظراً لقومه، مبيناً لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل، والأصنام، فبيّن في المقام الأول مع أبيه خطأهم في عبادة الأصنام الأرضية التي هي على صور الملائكة السماوية ليشفعوا لهم إلى الخالق العظيم الذين هم عند أنفسهم أحقر من أن يعبدوه، وإنما يتوسلون إليه بعبادة ملائكته ليشفعوا لهم عنده في الرزق، والنصر وغير ذلك مما يحتاجون إليه.
وبيّن في هذا المقام خطأهم، وضلالهم في عبادة الهياكل وهي الكواكب السيارة السبعة المتحيرة وهي: القمر، وعطارد، والزهرة، والشمس، والمريخ، والمشتري، وزحل، وأشدهن إضاءة، وأشرفهن عندهم الشمس، ثم القمر، ثم الزهرة، فبيّن أولاً - صلوات الله وسلامه عليه - أن هذه الزهرة لا تصلح للإلهية فإنها مسخرة مقدرة بسير معين لا تزيغ عنه يميناً ولا شمالاً، ولا تملك لنفسها تصرفاً، بل هي جرم من الأجرام، خلقها الله منيرة لما له في ذلك من الحكم العظيمة، وهي تطلع من المشرق ثم تسير فيما بينه وبين المغرب حتى تغيب عن الأبصار فيه، ثم تبدو في الليلة القابلة على هذا المنوال، ومثل هذه لا تصلح للإلهية، ثم انتقل إلى القمر فبيّن فيه مثلما بيّن في النجم، ثم انتقل إلى الشمس كذلك، فلما انتفت الإلهية عن هذه الأجرام الثلاثة التي هي أنور ما تقع عليه الأبصار، وتحقق ذلك بالدليل القاطع قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ [سورة الأنعام:78] أي: أنا بريء من عبادتهن، وموالاتهن، فإن كانت آلهة فكيدوني بها جميعاً ثم لا تنظرون.
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [سورة الأنعام:79] أي: إنما أعبد خالق هذه الأشياء، ومخترعها، ومسخرها، ومقدرها، ومدبرها، الذي بيده ملكوت كل شيء، وخالق كل شيء، وربه، ومليكه، وإلهه كما قال تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [سورة الأعراف:54]، قال الله في حقه: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ ۝ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ [سورة الأنبياء:51-52] الآيات".
ومما يؤيد أنه كان في هذا المقام مناظراً لقومه فيما كانوا فيه من الشرك لا ناظراً قوله تعالى: وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ [سورة الأنعام:80]".

ومن القرائن الدالة على أنه قال هذا الكلام مناظراً لا ناظراً أن الله عطف قوله: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ [سورة الأنعام:76] على قوله: نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [سورة الأنعام:75]، وهذا يقتضي أن يكون قال ذلك مناظراً لا ناظراً - عليه الصلاة والسلام -، والله أعلم.

مرات الإستماع: 0

"ثم أعلن بعبادته لله، وتوحيده له فقال: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الأنعام: 79] ووصف الله - تعالى - بوصف يقتضي توحيده، وانفراده بالملك، فإن قيل: لمَ احتج بالأفول دون الطلوع، وكلاهما دليل على الحدوث؟ لأنهما انتقال من حال إلى حال؟ فالجواب: لأنه أظهر في الدلالة، لأنه انتقال مع اختفاء، واحتجاب."