الخميس 10 / ذو القعدة / 1446 - 08 / مايو 2025
وَحَآجَّهُۥ قَوْمُهُۥ ۚ قَالَ أَتُحَٰٓجُّوٓنِّى فِى ٱللَّهِ وَقَدْ هَدَىٰنِ ۚ وَلَآ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِۦٓ إِلَّآ أَن يَشَآءَ رَبِّى شَيْـًٔا ۗ وَسِعَ رَبِّى كُلَّ شَىْءٍ عِلْمًا ۗ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله تعالى -: "ومما يؤيد أنه كان في هذا المقام مناظراً لقومه فيما كانوا فيه من الشرك لا ناظراً قوله تعالى: وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحآجونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ ۝ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ۝ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ۝ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [سورة الأنعام:80-83].
يقول تعالى مخبراً عن خليله إبراهيم حينما جادله قومه فيما ذهب إليه من التوحيد، وناظروه بشبه من القول أنه قال: أَتُحآجونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ أي: تجادلونني في أمر الله، وأنه لا إله إلا هو، وقد بصَّرني وهداني إلى الحق، وأنا على بينة منه؛ فكيف ألتفت إلى أقوالكم الفاسدة، وشبهكم الباطلة.
وقوله: وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا [سورة الأنعام:80] أي: ومن الدليل على بطلان قولكم فيما ذهبتم إليه أن هذه الآلهة التي تبعدونها لا تؤثر شيئاً، وأنا لا أخافها، ولا أباليها؛ فإن كان لها كيد فكيدوني بها ولا تنظروني، بل عاجلوني بذلك.
وقوله تعالى: إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا [سورة الأنعام:80] استثناء منقطع أي لا يضر ولا ينفع إلا الله ".

فقوله - تبارك وتعالى - عن قول إبراهيم ﷺ لقومه: وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا [سورة الأنعام:80] هذا الاستثناء - كما قال الحافظ ابن كثير رحمه الله وهو الذي عليه المحققون، ومنهم الحافظ ابن القيم - إنه منقطع باعتبار أن المستثنى ليس من جنس المستثنى منه، ويكون المعنى أنهم قالوا له: إن آلهتنا ستخبِّلك، أو تمرضك، أو تقتلك، أو تُلحق بك ضرراً، فقال لهم: إنه لا يخاف من هذه المعبودات أن تلحق به ضرراً إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا فقوله: إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا [سورة الأنعام:80] لا يرجع إلى ما قبله باعتبار أنه يخاف أن توصل إليه ضرراً مما شاء الله أن توصله؛ وإنما المقصود إلا أن يشاء ربي شيئاً من الضرر، فيلحقني من مرض، أو موت، أو فقر أو غير ذلك مما لا تعلق له بهذه الآلهة، أي أنه يقول: أنا لا أخاف من آلهتكم، ومعبوداتكم الباطلة، ولا أخشى منها ضرراًَ فهي لا تضر، ولا تنفع، إلا أن يشاء ربي ضرراً يقع بي فيقع، لكن لا يكون واصلاً إليَّ من جهة هذه الآلهة، وبهذا الاعتبار قيل: إن قوله: إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا [سورة الأنعام:80] هو من قبيل الاستثناء المنقطع.
"وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا [سورة الأنعام:80] أي: أحاط علمه بجميع الأشياء فلا يخفى عليه خافية.
أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ [سورة الأنعام:80] أي: فيما بينتُه لكم؛ أفلا تعتبرون أن هذه الآلهة باطلة فتنزجروا عن عبادتها.
وهذه الحجة نظير ما احتج به نبي الله هود على قومه عاد فيما قصَّ عنهم في كتابه حيث يقول: قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ۝ إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ۝ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ ۝ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [سورة هود:53-56]".

مرات الإستماع: 0

"أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ [الأنعام: 80] أي: في الإيمان بالله، وفي توحيده، والأصل: أتحاجونني بنونين، وقرئ بالتشديد على إدغام إحداهما في الأخرى، وبالتخفيف على حذف إحداهما، واختلف هل حذفت الأولى، أو الثانية."

نعم، القراءة بالتشديد هي قراءة الجمهور، وفي قراءة نافع، وابن عامر بالتخفيف، من غير تشديد في النون، (أَتُحاجُّونِي) هي أصلها.

يقول: "على إدغام إحداهما بالآخر" يعني: أتحاجونني هذا أصلها، "وبالتخفيف على حذف أحدهما، واختلف هل حذفت الأولى، أو الثانية" الأولى: هي نون الرفع، نون تحاجون، هذه نون الرفع، تقول: لم يحاجوا؛ تحذف في حال الجزم مثلاً، والثانية: هي نون الوقاية، فمن قال بهذا؛ يعني: المحذوف هو نون الوقاية، أن الثانية هي المحذوفة، قالوا: لأنها زائدة حصل بها الاستثقال، تحاجوني؛ فبقيت نون الرفع.

يقول: اختلف هل حذفت الأولى، أو الثانية ومن قال بنون الرفع؛ فذلك باعتبار أن الحاجة دعت إلى نون مكسورة من أجل الياء، ونون الرفع لا تكسر، فحذفت نون الرفع.

"قوله تعالى: وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ [الأنعام: 80] ما هنا بمعنى الذي، ويريد بها الأصنام، وكانوا قد خوفوه أن تصيبه أصنامهم بضر، فقال: لا أخاف منهم لأنهم لا يقدرون على شيء.

قوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئًا [الأنعام: 80] استثناء منقطع بمعنى لكن: أي إنما أخاف من ربي إن أراد بي شيئا."

يعني: إن أراد بي شيئًا نالني، وأصابني، وليس آلهتكم هي التي تفعل ذلك، والقول بأنه استثناء منقطع بمعنى: لكن، هذا الذي اختاره المحققون، كشيخ الإسلام ابن تيمية[1] والحافظ ابن القيم[2] وابن كثير[3] والشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - لكن إن أراد بي ربي شيئًا وقع، ليست أصنامكم هي التي توصله إليه؛ لأن بعضهم يقول: بأن الاستثناء متصل، يعني: إلا أن يشاء ربي شيئًا؛ فيصلني منها، لكن هذا غير صحيح.

  1. درء تعارض العقل، والنقل (7/393).
  2. إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (2/254).
  3. تفسير ابن كثير (3/293).