الخميس 17 / ذو القعدة / 1446 - 15 / مايو 2025
بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ نٓ ۚ وَٱلْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قال ابن كثير - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى:

بسم الله الرحمن الرحيم

ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ۝ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ۝ وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ ۝ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ   عَظِيمٍ ۝ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ۝ بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ ۝ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القلم:1-7].

قد تقدم الكلام على حروف الهجاء في أول "سورة البقرة"، وأن قوله تعالى: ن كقوله: ص، ق ونحو ذلك من الحروف المقطعة في أوائل السور، وتحرير القول في ذلك بما أغنى عن إعادته هاهنا".

فهذه السورة، سورة ن قال: إنها مكية، وهذا على قول طائفة من السلف ، وهو مروي عن عائشة، وجابر، والحسن وعكرمة، ولكن جاء عن ابن عباس القول: إنها مكية، هكذا بإطلاق.

وروي عنه أيضًا: أن منها ما نزل بمكة، ومنها ما نزل بالمدينة، وقد جاء أيضًا مثل هذا الأخير عن قتادة يعني: أنها من أولها إلى قوله: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ [القلم:16] مما نزل بمكة، ومن بعد ذلك إلى أواخر السورة إلى الآية رقم 50 إلى قوله: فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ [القلم:50] أن هذا نازل في المدينة، والباقي مكي، يعني أن وسط السورة نازلة بالمدينة.

والسورة يقال لها: مكية باعتبار صدر السورة على الأرجح - والله أعلم -، إذا نزل صدرها بمكة، أو بالمدينة؛ قيل لها: مكي، أو مدني وإن نزل باقيها في موضع آخر.

والأصل أن السورة النازلة في مكة أن جميع الآيات كذلك هذا الأصل، إلا بدليل، وعكسه أيضًا، ولا يُنظر في هذا إلى المعاني، لا ينظر إلى المعنى، ثم يلجأ إلى القول بأن هذه الآية أو هذه الآيات نزلت بموضع آخر - والله أعلم -.

وقد مضى الكلام على مثل هذا.

أما ما يتعلق بالحروف المقطعة فقد مضى الكلام عليها، وأن الأقرب أنها حروف تهجٍّ لا معنى لها في نفسها، ولكنها تشير إلى الإعجاز؛ لأنها لا تكاد تذكر إلا ويذكر القرآن، أو الوحي، أو ما يدل على ذلك بعدها، إلا في مواضع يسيرة جدًّا، وقد تكلف بعض أهل العلم لربطها بالوحي.

فهنا لما ذكر الله - تبارك وتعالى - ذلك: ن قال: مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وهذه النعمة هي: الوحي، والنبوة، وكذلك على قول من فسر القلم: وَمَا يَسْطُرُونَ - كما سيأتي - بأنه القلم الذي يكتب فيه مقادير الخلائق الذي كتب فيه أول ما خلق الله القلم، فهذا وحي، ويكون: وَمَا يَسْطُرُونَ على أحد الأقوال يعني الملائكة، هذا على أحد الأقوال.

الحافظ ابن القيم - رحمه الله - له كلام مفيد جدًّا قال - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله - تعالى -: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ: "الصحيح أن ن وق وص من حروف الهجاء التي يفتتح بها الرب - سبحانه - بعض السور، وهي أحادية، وثنائية، وثلاثية، ورباعية، وخماسية، ولم تجاوز الخمسة، ولم تذكر قط في أول سورة إلا وعقبها بذكر القرآن إما مقسماً به، وإما مخبراً عنه، ما خلا سورتين: سورة: كهيعص ون؛ كقوله: الم ۝ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ [البقرة:1-2]، الم ۝ اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۝ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ [آل عمران:1-3]، المص ۝ كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ [الأعراف:1-2]، الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ [يونس:1].

وهكذا إلى آخره، ففي هذا تنبيه على شرف هذه الحروف، وعظم قدرها، وجلالتها، إذ هي مباني كلامه، وكتبه التي تكلم - سبحانه - بها، وأنزلها على رسله، وهدى بها عباده، وعرّفهم بواسطتها نفسه، وأسماءه، وصفاته، وأفعاله، وأمره، ونهيه، ووعيده، ووعده، وعرفهم بها الخير والشر، والحسن والقبيح، وأقدرهم على التكلم بها، بحيث يبلغون بها أقصى ما في أنفسهم بأسهل طريق، وقلة كلفة، ومشقة، وأوصله إلى المقصود، وأدله عليه، وهذا من أعظم نعمه عليهم كما هو من أعظم آياته، ولهذا امتن على عباده بأن أقدرهم على البيان بها بالتكلم، فكان في ذكر هذه الحروف التنبيه على كمال ربوبيته، وكمال إحسانه، وإنعامه، فهي أولى أن يقسم بها من الليل، والنهار، والشمس، والقمر، والسماء، والنجوم وغيرها من المخلوقات، فهي دالة أظهر دلالة على وحدانيته، وقدرته، وحكمته، وكماله، وكلامه، وصدق رسله.

وقد جمع - سبحانه - بين الأمرين: أعني القرآن، ونطق اللسان، وجعل تعليمها من تمام نعمته، وامتنانه كما قال: الرَّحْمَنُ ۝ عَلَّمَ الْقُرْآنَ ۝ خَلَقَ الإنْسَانَ ۝ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [الرحمن:1-4].

فبهذه الحروف علم القرآن، وبها علم البيان، وبها فضل الإنسان على سائر أنواع الحيوان، وبها أنزل كتبه، وبها أرسل رسله، وبها جمعت العلوم، وحفظت، وبها انتظمت مصالح العباد في المعاش، والمعاد، وبها يتميز الحق من الباطل، والصحيح من الفاسد، وبها جمعت أشتات العلوم، وبها أمكن تنقلها في الأذهان، وكم جلب بها من نعمة، ودفع بها من نقمة، وأقيلت بها من عثرة، وأقيمت بها من حرمة، وهدي بها من ضلالة، وأقيم بها من حق، وهدم بها من باطل، فآياته - سبحانه - في تعليم البيان كآياته في خلق الإنسان، ولولا عجائب صنع الله ما ثبتت تلك الفضائل في لحم ولا عصب، فسبحان مَن هذا صنعُه في هواء يخرج من قصبة الرئة، فينضم في الحلقوم، وينفرش في أقصى الحلق، ووسطه، وآخره، وأعلاه، وأسفله، وعلى وسط اللسان، وأطرافه، وبين الثنايا، وفي الشفتين، والخيشوم، فيُسمع له عند كل مقطع من تلك المقاطع صوت غير صوت المقطع المجاور له، فإذا هو حرف، فألهم - سبحانه - الإنسان بضم بعضها إلى بعض فإذا هي كلمات قائمة بأنفسها، ثم ألهمهم تأليف تلك الكلمات بعضها إلى بعض وإذا هي كلام دال على أنواع المعاني أمراً ونهياً، وخبراً واستخباراً، ونفياً وإثباتاً، وإقراراً وإنكاراً، وتصديقاً وتكذيباً، وإيجابًا واستحبابًا، وسؤالاً وجواباً، إلى غير ذلك من أنواع الخطاب نظمه ونثره، ووجيزه ومطوله، على اختلاف لغات الخلائق، كل ذلك صنعه - تبارك وتعالى - في هواء مجرد خارج من باطن الإنسان إلى ظاهره في مجارٍ قد هيئت، وأعدت لتقطيعه وتفصيله، ثم تأليفه وتوصيله، فتبارك الله رب العالمين، وأحسن الخالقين، فهذا شأن الحرف المخلوق.

وأما الحرف الذي به تكون المخلوقات فشأنه أعلى، وأجل.

وإذا كان هذا شأن الحروف؛ فحقيق أن تفتتح بها السور كما افتتحت بالأقسام، لما فيها من آيات الربوبية، وأدلة الوحدانية، فهي دالة على كمال قدرته - سبحانه -، وكمال علمه، وكمال حكمته، وكمال رحمته، وعنايته بخلقه، ولطفه، وإحسانه، وإذا أعطيت الاستدلال بها حقه استدللت بها على المبدأ، والمعاد، والخلق، والأمر، والتوحيد، والرسالة، فهي من أظهر أدلة شهادة: أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن القرآن كلام الله تكلم به حقًّا، وأنزله على رسوله وحياً، وبلغه كما أوحي إليه صدقاً، ولا تهمل الفكرة في كل سورة افتتحت بهذه الحروف، واشتمالها على آيات هذه المطالب، وتقريرها، وبالله التوفيق"[1].

هذا كلام في غاية الإفادة، ولا يخرج عما سبق من أن هذه الحروف لا معنى لها في نفسها، ولكنها تشير إلى معنى، وهو الإعجاز، القرآن مكون مركب من هذه الحروف، وأنتم عاجزون عن الإتيان بمثله، ثم أضاف معنى وهو: أن كلام الناس مركب من هذه الحروف، فلها شأن، فهي حقيقة بأن يفتتح بها كما افتتح بالأقسام من هذا الباب، هذا حاصل الكلام الذي ذكره.

وفيما يتعلق بموضوع السورة فهي في مجملها تدور حول موضوع واحد وهو ما يتعلق بوحي الله لنبيه ﷺ، فهي نعمة أنعم بها عليه، وكانت هذه النعمة حرية بأن تُتلقى بالقبول، ولكن قومه كذبوا، وكفروا بهذه النعمة، فتوعدهم، وضرب لهم مثلاً بأصحاب الجنة الذين كفروا بنعمة الله عليهم بتلك الجنة، وما فيها من الثمار.

وكذلك أيضًا ذكر ما للمؤمنين المصدقين بذلك.

موضوع السورة في مجمله يدور حول هذا، وذكْرُ أصحاب الجنة هو من باب ذكر نظير فعل هؤلاء من الكفر بهذه النعمة.

"وقوله: وَالْقَلَمِ الظاهر أنه جنس القلم الذي يكتب به، كقوله: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ ۝ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ۝ عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:3 - 5].

فهو قسم منه - تعالى -، وتنبيه لخلقه على ما أنعم به عليهم من تعليم الكتابة التي بها تنال العلوم؛ ولهذا قال: وَمَا يَسْطُرُونَ قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: "يعني: وما يكتبون"، وقال السدي: "وَمَا يَسْطُرُونَ يعني الملائكة، وما تكتب من أعمال العباد"، وقال آخرون: "بل المراد هاهنا بالقلم الذي أجراه الله بالقدر حين كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرضين بخمسين ألف سنة".

وأوردوا في ذلك الأحاديث الواردة في ذكر القلم.

روى ابن أبي حاتم عن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: دعاني أبي حين حضره الموت، فقال: إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: يا رب وما أكتب؟ قال: اكتب القدر، وما هو كائن إلى الأبد وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد من طرق، وأخرجه الترمذي من حديث أبي داود الطيالسي به، وقال: "حسن صحيح غريب"[2]".

قوله - تبارك وتعالى -: وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ أقسم بشيئين:

الأول: القلم، وأقوال السلف تبين المراد به.

الحافظ ابن كثير - رحمه الله - حمل ذلك على الجنس: جنس القلم الذي يكتب به، وعلى هذا القول يدخل فيه ما عداه، يعني هذا القول أشمل الأقوال، يدخل فيه القلم الذي جاء في الحديث كتب فيه مقادير الأشياء: أول ما خلق الله القلم فهو من جملة الأقلام، بل هو أجل هذه الأقلام.

ويدخل فيه الأقلام التي بأيدي الملائكة التي يكتبون فيها أقدار الله ، وكذلك ما يكتب فيه أعمال العباد، ويدخل في ذلك أيضًا سائر الأقلام، كالأقلام التي يكتب فيها وحي الله - تعالى - إلى أنبيائه - صلى الله عليهم وسلم -، والأقلام التي يكتب بها العلم، والأقلام التي يكتب بها ما ينفع الناس في أمورهم الدنيوية كالطب، والحساب، وما إلى ذلك.

كل هذه الأقلام داخلة فيه، ما يكتب به، فهذا القلم شأنه عجيب به حفظت العلوم، وبه بلغت الأجيال، ولولا فضل الله، ورحمته بالناس؛ لضاعت علومهم، وأموالهم، وحقوقهم، ولم يصل إليهم من ذلك شيء يذكر، هذه العلوم التي كانت عبر الأجيال تصل من الأولين للآخرين عن طريق هذه الكتابة، وهذا القلم، فهذا القول أشمل الأقوال، وهو الذي ذهب إليه الحافظ ابن القيم، وفصله تفصيلاً نفيسًا، لعلنا نأتي عليه - إن شاء الله - بعد قليل.

وكذلك هنا قال: وقال آخرون: بل المراد هنا بالقلم الذي أجراه الله بالقدر حين كتب مقادير الخلائق، وهذا اختيار ابن جرير - رحمه الله -: أنه القلم الأول.

وهنا في قوله - تبارك وتعالى -: وَمَا يَسْطُرُونَ هذا القسم الثاني: وَمَا يَسْطُرُونَ "ما" هذه تحتمل أن تكون موصولة أي والذي يسطرون، أقسم بالقلم، وبالذي يكتبون، هؤلاء الذين يكتبون من هم؟

إذا قلنا: إنها الأقلام التي بأيدي الملائكة؛ فهم الملائكة.

وإذا قلنا: إن القسم بجنس القلم فيدخل فيه الملائكة، وغير الملائكة من الكاتبين.

ويحتمل أن تكون "ما" هذه مصدرية: وَمَا يَسْطُرُونَ أي: وسطرهم، فيكون أقسم بالقلم، وبالكتابة، أو المكتوب.

قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "ثم أقسم - سبحانه - بالقلم وَمَا يَسطرُونَ، فأقسم بالكتاب وآلته، وهو القلم الذي هو إحدى آياته، وأول مخلوقاته الذي جرى به قدره، وشرعه، وكتب به الوحي، وقيد به الدين، وأُثبتت به الشريعة، وحفظت به العلوم، وقامت به مصالح العباد في المعاش والمعاد، فوُطدت به الممالك، وأُمنت به السبل والمسالك، وأقام في الناس أبلغ خطيب، وأفصحه، وأنفعه لهم، وأنصحه، وواعظاً تشفى مواعظه القلوب من السقم، وطبيباً يبرئ بإذنه من أنواع الألم، يكسر العساكر العظيمة على أنه الضعيف الوحيد، ويخاف سطوته، وبأسه؛ ذو البأس الشديد، وبالأقلام تدبر الأقاليم، وتساس الممالك، والعلم لسان الضمير يناجيه بما استتر عن الأسماع، فنسج حلل المعاني في الطرفين، فتعود أحسن من الوشي المرقوم، ويودعها حكمه فتصير بوادر الفهوم، والأقلام نظام الأفهام، وكما أن اللسان يريد القلب فالقلم يريد اللسان، وتولد الحروف المسموعة عن اللسان كتولّد الحروف المكتوبة عن القلم، والقلم بريد القلب، ورسوله، وترجمانه، ولسانه الصامت.

والأقلام متفاوتة في الرتب فأعلاها وأجلها قدراً: قلم القدر السابق الذي كتب الله به مقادير الخلائق"[3].

وقال - رحمه الله -: "فهذا القلم أول الأقلام، وأفضلها، وأجلها، وقد قال غير واحد من أهل التفسير: إنه القلم الذي أقسم الله به.

القلم الثاني: قلم الوحي، وهو الذي يكتب به وحي الله إلى أنبيائه، ورسله، وأصحاب هذا القلم هم الحكام على العالم، والعالم خدم لهم، وإليهم الحل والعقد، والأقلام كلها خدم لأقلامهم، وقد رفع النبي ليلة الإسراء إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام، فهذه الأقلام هي التي تكتب ما يوحيه الله - تبارك وتعالى - من الأمور التي يدبر بها أمر العالم العلوي، والسفلي.

والقلم الثالث: قلم التوقيع عن الله، ورسوله، وهو قلم الفقهاء، والمفتين، وهذا القلم أيضاً حاكم غير محكوم عليه، فإليه التحاكم في الدماء، والأموال، والفروج، والحقوق، وأصحابه مُخبِرون عن الله بحكمه الذي حكم به بين عباده، وأصحابه حكام، وملوك على أرباب الأقلام، وأقلام العالم خدم لهذا القلم.

القلم الرابع: قلم طب الأبدان التي تحفظ بها صحتها الموجودة، وترد إليها صحتها المفقودة، وتدفع به عنها آفاتها، وعوارضها المضادة لصحتها، وهذا القلم أنفع الأقلام بعد قلم طب الأديان، وحاجة الناس إلى أهله تلتحق بالضرورة.

القلم الخامس: التوقيع عن الملوك، ونوابهم، وسُيّاس المُلك، ولهذا كان أصحابه أعز أصحاب الأقلام، والمشاركون للملوك في تدبير الدول، فإن صلحت أقلامهم صلحت المملكة، وإن فسدت أقلامهم فسدت المملكة، وهم وسائط بين الملوك ورعاياهم.

القلم السادس: قلم الحساب، وهو القلم الذي تضبط به الأموال مستخرجها، ومصروفها، ومقاديرها، وهو قلم الأرزاق، وهو قلم الكم المتصل، والمنفصل، الذي تضبط به المقادير، وما بينها من التفاوت، والتناسب، ومبناه على الصدق، والعدل، فإذا كذب هذ القلم، وظلم؛ فسد أمر المملكة.

القلم السابع: قلم الحكم الذي تثبت به الحقوق، وتنفذ به القضايا، وتراق به الدماء، وتؤخذ به الأموال، والحقوق من اليد العاديَة فترد إلى اليد المحقة، ويثبت به الإنسان، وتنقطع به الخصومات، وبين هذا القلم وقلم التوقيع عن الله عموم وخصوص، فهذا له النفوذ واللزوم، وذاك له العموم والشمول، وهو قلم قائم بالصدق فيما يثبته، وبالعدل فيما يمضيه وينفذه.

القلم الثامن: قلم الشهادة، وهو القلم الذي تُحفظ به الحقوق، وتصان عن الإضاعة، وتحول بين الفاجر وإنكاره، ويُصدق الصادق، ويُكذب الكاذب، ويُشهد للمحق بحقه، وعلى المبطل بباطله، وهو الأمين على الدماء، والفروج، والأموال، والأنساب، والحقوق، ومتى خان هذا القلم فسد العالم أعظم فساد، وباستقامته يستقيم أمر العالم، ومبناه على العلم، وعدم الكتمان.

القلم التاسع: قلم التعبير، وهو كاتب وحي المنام، وتفسيره، وتعبيره، وما أريد منه، وهو قلم شريف جليل، مترجم للوحي المنامي، كاشف له، وهو من الأقلام التي تصلح للدنيا والدين ...

القلم العاشر: قلم تواريخ العالم، ووقائعه، وهو القلم الذي تضبط به الحوادث، وتنقل من أمة إلى أمة، ومن قرن إلى قرن؛ فيحصر ما مضى من العالم، وحوادثه؛ في الخيال، وينقشه في النفس، حتى كأن السامع يرى ذلك، ويشهده، فهو قلم المعاد الروحاني، وهذا القلم قلم العجائب، فإنه يعيد لك العالم في صورة الخيال، فتراه بقلبك، وتشاهده ببصيرتك.

القلم الحادي عشر: قلم اللغة، وتفاصيلها من شرح معاني ألفاظها، ونحوها، وتصريفها، وأسرار تراكيبها، وما يتبع ذلك من أحوالها، ووجوهها، وأنواع دلالتها على المعاني، وكيفية الدلالة، وهو قلم التعبير عن المعاني باختيار أحسن الألفاظ، وأعذبها، وأسهلها، وأوضحها، وهذا القلم واسع التصرف جدًّا بحسب سعة الألفاظ، وكثرة مجاريها، وتنوعها.

القلم الثاني عشر: القلم الجامع، وهو قلم الرد على المبطلين، ورفع سنة المحقين، وكشف أباطيل المبطلين على اختلاف أنواعها، وأجناسها، وبيان تناقضهم وتهافتهم، وخروجهم عن الحق، ودخولهم في الباطل، وهذا القلم في الأقلام نظير الملوك في الأنام، وأصحابه أهل الحجة الناصرون لما جاءت به الرسل، المحاربون لأعدائهم وهم الداعون إلى الله بالحكمة، والموعظة الحسنة، المجادلون لمن خرج عن سبيله بأنواع الجدال، وأصحاب هذا القلم حرب لكل مبطل، وعدو لكل مخالف للرسل، فهم في شأن، وغيرهم من أصحاب الأقلام في شأن.

فهذه الأقلام التي فيها انتظام مصالح العالم، ويكفي في جلالة القلم أنه لم تكتب كتب الله إلا به، وأن الله - سبحانه - أقسم به في كتابه، وتعرّف إلى غيره بأن علم بالقلم، وإنما وصل إلينا ما بُعث به نبينا بواسطة القلم"[4]، ثم ذكر أبياتًا لأبي تمام في القلم.

وبعد هذا يتكلم عن جواب القسم: مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ فيقول - أي ابن القيم رحمه الله تعالى -: "والمقسم عليه بالقلم، والكتابة في هذه السورة؛ تنزيه نبيه ورسوله عما يقول فيه أعداؤه، وهو قوله تعالى: مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ" تأمل سيتكلم عن المطابقة بين المقسم به، والمقسم عليه، وابن القيم يعتني بهذا كثيرًا، "وأنت إذا طابقت بين هذا القسم والمقسم به وجدته دالاً عليه أظهر دلالة، وأبينها، فإن ما سطر الكاتب بالقلم من أنواع العلوم التي يتلقاها البشر بعضهم عن بعض لا تصدر من مجنون، ولا تصدر إلا من عقل وافر، فكيف يصدر ما جاء به الرسول من هذا الكتاب الذي هو في أعلى درجات العلوم، بل العلوم التي تضمنها ليس في قوى البشر الإتيان بها، ولاسيما من أميٍّ لا يقرأ كتاباً، ولا يخط بيمينه، مع كونه في أعلى أنواع الفصاحة، سليماً من الاختلاف، بريًّا من التناقض، يستحيل من العقلاء كلهم لو اجتمعوا في صعيد واحد أن يأتوا بمثله، ولو كانوا في عقل رجل واحد منهم، فكيف يتأتى ذلك من مجنون لا عقل له يميز به ما عسى كثير من الحيوان أن يميزه، وهل هذا إلا من أقبح البهتان، وأظهر الإفك؟!.

فتأمل شهادة هذا المقسم به للمقسم عليه، ودلالته عليه أتم دلالة، ولو أن رجلاً أنشأ رسالة واحدة بديعة منتظمة الأول، والآخر، متساوية الأجزاء، يصدّق بعضها بعضاً، أو قال قصيدة كذلك، أو صنف كتاباً كذلك؛ لشهد له العقلاء بالعقل، ولما استجاز أحد رميه بالجنون مع إمكان - بل وقوع - معارضتها، ومشاكلتها، والإتيان بمثلها أو أحسن منها، فكيف يرمى بالجنون من أتى بما عجزت العقلاء كلهم قاطبة عن معارضته، ومماثلته، وعرّفهم من الحق ما لا تهتدي عقولهم إليه، بحيث أذعنت له عقول العقلاء، وخضعت له ألباب الأولياء، وتلاشت في جنب ما جاء به بحيث لم يسعها إلا التسليم له، والانقياد، والإذعان، طائعة مختارة، وهي ترى عقولها أشد فقراً وحاجة إلى ما جاء به، ولا كمال لها إلا بما جاء به، فهو الذي كمل عقولها كما يكمل الطفل برضاع الثدي، ولهذا فإن أتباعه أعقل الخلق على الإطلاق، وهذه مؤلفاتهم، وكتبهم في الفنون، إذا وازنت بينها وبين مؤلفات مخالفيه ظهر لك التفاوت بينها، ويكفي في عقولهم أنهم عمروا الدنيا بالعلم، والعدل، والقلوب بالإيمان، والتقوى، فكيف يكون متبوعهم مجنوناً؛ وهذا حال كتابه، وهديه، وسيرته، وحال أتباعه، وهذا إنما حصل له ولأتباعه بنعمة الله عليه، وعليهم، فنفى عنه الجنون بنعمته عليه"[5].

  1. التبيان في أقسام القرآن، ص (203- 206).
  2. رواه ابن أبي حاتم في  تفسير القرآن العظيم، رقم (18936) وأبو داود، كتاب أحاديث أبي موسى الأشعري - رحمه الله -، باب أحاديث عبادة بن الصامت - رحمه الله -، رقم (578)، والترمذي، أبواب القدر عن رسول الله ﷺ، رقم (3319)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2017).
  3. التبيان في أقسام القرآن، ص (206-207).
  4. المصدر السابق ص (208- 212).
  5. المصدر السابق ص (213- 215).