"فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ لَّوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ [القلم:48-52].
يَقُول تَعَالَى: فَاصْبِرْ يَا مُحَمَّد عَلَى أَذَى قَوْمك لَك، وَتَكْذِيبهمْ؛ فَإِنَّ اللَّه سَيَحْكُمُ لَك عَلَيْهِمْ، وَيَجْعَل الْعَاقِبَة لَك، وَلِأَتْبَاعِك فِي الدُّنْيَا، وَالْآخِرَة".
هنا أمرٌ للنبي ﷺ بالصبر لحكم ربه يعني لقضائه الذي قضاه، وهذا القضاء الذي قضاه في سابق علمه: من أهل العلم من حمله على الإمهال أنه يمهل هؤلاء، قد يتأخر النصر، والظفر، فهو مأمور بالصبر، وبعضهم يقول: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ يعني بما حكم به عليك من تبليغ الرسالة، ومقتضيات ذلك، وبعضهم فسره: بما يلحقه ويناله من الأذى.
وهذا أمر من الله لنبيه ﷺ بأن يصبر على حكم الله، وقضائه، وقدره، فلا يحصل منه استعجال، ولا ضيق، ولا ينكسر، أو يتراجع أمام هذه التبعات، والعقبات، والأذى الذي يلقاه من الناس، فإن هذا أمر لا بد منه، وما قضاه الله - تبارك وتعالى - لا بد أن يقع، ويتحقق، والجزع لا يرده، ولكن إذا جزع الإنسان فإن ذلك يذهب أجره، وما قضاه الله لا بدّ أن يكون، ومن ثَمّ فإن هذا الأمر للنبي ﷺ هو أمر أيضًا لأمته بالصبر، والتحمل.
"وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ يَعْنِي ذَا النُّون وَهُوَ يُونُس بْن مَتَّى حِين ذَهَبَ مُغَاضِبًا عَلَى قَوْمه، فَكَانَ مِنْ أَمْره مَا كَانَ مِنْ رُكُوبه فِي الْبَحْر، وَالْتِقَام الْحُوت لَهُ، وَشُرُود الْحُوت بِهِ فِي الْبِحَار، وَظُلُمَات غَمَرَات الْيَمّ، وَسَمَاعه تَسْبِيح الْبَحْر بِمَا فِيهِ لِلْعَلِيِّ الْقَدِير الَّذِي لَا يُرَدّ مَا أَنْفَذَهُ مِنْ التَّقْدِير، فَحِينَئِذٍ نَادَى فِي الظُّلُمَات: أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]، قَالَ اللَّه - تَعَالَى -: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء: 88]، وَقَالَ تَعَالَى: فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات:143-144]، وَقَالَ هَاهُنَا: إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ قَالَ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَالسُّدِّيّ: "وَهُوَ مَغْمُوم".
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَقَدْ روى الْإِمَام أَحْمَد عَنْ عَبْد اللَّه قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه ﷺ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُول: أَنَا خَيْر مِنْ يُونُس بْن مَتَّى[1]، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيّ وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة".
وقال تعالى: فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ يعني أنه امتنع بقاؤه إلى يوم البعث في بطن الحوت لوجود التسبيح.
فَلَوْلَا هذه حرف امتناع لوجود، فهذا التسبيح كان لتفريج هذا الغم: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ، و"الفاء" تدل على التعقيب المباشر، ولهذا فإن مثل هذا الذكر: لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ هو مما يحصل به الفرج، وزوال الكرب.
وقوله - تبارك وتعالى -: إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ نقل هنا عن ابن عباس، والسدي قال: "مغموم"، وبعضهم فسره بقريب من هذا يقول: "المكظوم هو المملوء غيظًا، وكربًا".
فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ فسره بعضهم بالكاملين في الصلاح.
وبعضهم يقول: إن الله - تبارك وتعالى - اجتباه، وقربه، وأعاد إرساله فبعثه: إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا [الصافات:147-148].
وابن جرير - رحمه الله - يقول: اصطفاه، واختاره لنبوته، فجعله من المرسلين؛ يعني الذين يمتثلون أمر الله، ويجتنبون نهيه فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ.
فهنا: لَوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ هذه النعمة ما المراد بها؟ بعضهم يقول: "النبوة" كما جاء عن الضحاك، وبعضهم يقول: "هي عبادته التي سلفت: تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ" كما يقول سعيد بن جبير: يعني من عرف الله في الرخاء عرفه في الشدة احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله[2]، وبعضهم يقول: هذه النعمة هي هذا السؤال، هذا النداء: لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87] قاله ابن زيد.
فالله - تبارك وتعالى - يسمع دعاء عباده ونجواهم، ولو كان هذا الداعي في مثل هذا الموضع في بطن الحوت، في قعر البحر، في الظلمات، والحافظ ابن القيم - رحمه الله - له كلام في هذا الموضع.
قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "قوله - تعالى -: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ وهاهنا سؤال نافع، وهو أن يقال: ما العامل في الظرف وهو قوله: إِذْ نَادَى ولا يمكن أن يكون الفعل المنهي عنه، إذ يصير المعنى لا تكن مثله في ندائه"[3].
يعني قوله - تبارك وتعالى -: وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ يقول ابن القيم بأن الله أثنى على يونس بهذا النداء، فليس بنهي للنبي ﷺ أن يكون مثله في تضرعه إلى الله، فالمنهي عنه هنا ما هو؟ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ في ماذا؟ في ندائه؟ هذا السؤال الذي أورده.
وقال - رحمه الله -: "فأخبر أنه نجاه به، فقال: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:87-88].
وفي الترمذي وغيره عن النبي ﷺ أنه قال: دعوة أخي ذي النون إذ دعا بها في بطن الحوت؛ ما دعا بها مكروب إلا فرج الله عنه: لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ[4] فلا يمكن أن يُنهى عن التشبه به في هذه الدعوة وهى النداء الذى نادى به ربه، وإنما ينهى عن التشبه به في السبب الذى أفضى به إلى هذه المناداة، وهي مغاضبته التي أفضت به إلى حبسه في بطن الحوت، وشدة ذلك عليه حتى نادى ربه وهو مكظوم.
والكظيم والكاظم الذى قد امتلأ غيظًا، وغضبًا، وهمًّا، وحزنًا، وكظم عليه، فلم يخرجه.
فإن قيل: وعلى ذلك فما العامل في الظرف؟
قيل: ما في صاحب الحوت من معنى الفعل.
فإن قيل: فالسؤال بعدُ قائم، فإنه إذا قيد المنهى بقيد أو زمن كان داخلاً في حيز النهى، فإن كان المعنى لا تكن مثل صاحب الحوت في هذه الحال، أو هذا الوقت؛ كان نهياً عن تلك الحالة.
قيل: لما كان نداؤه مسببًا عن كونه صاحب الحوت، فنهى أن يتشبه به في الحال التي أفضت به إلى صحبته الحوت، والنداء، وهى ضعف العزيمة والصبر لحكمه - تعالى -، ولم يقل تعالى: ولا تكن كصاحب الحوت إذ ذهب مغاضبًا، فالتقمه الحوت، فنادى، بل طوى القصة، واختصرها، وأحال بها على ذكرها في الموضع الآخر، واكتفي بغايتها، وما انتهت اليه.
فإن قيل: فما منعك بتعويض الظرف بنفس الفعل المنهى عنه؟ أي: لا تكن مثله في ندائه وهو ممتلئ غيظًا، وهمًّا وغمًّا، بل يكون نداؤك نداء راضٍ بما قُضي عليه، قد تلقّاه بالرضا، والتسليم، وسعة الصدر، لا نداء كظيم.
قيل: هذا المعنى، وإن كان صحيحاً؛ إلا أن النهى لم يقع عن التشبه به في مجرده، وإنما نهى عن التشبه به في الحال التي حملته على ذهابه مغاضباً، حتى سجن في بطن الحوت، ويدل عليه قوله - تعالى -: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ، ثم قال: وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ أي: في ضعف صبره لحكم ربه، فإن الحالة التي نُهى عنها هي ضد الحالة التي أمر بها.
فإن قيل: فما منعك أن تصبر حيث أمر بالصبر لحكمه الكوني القدري الذى يقدره عليه وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ حيث لم يصبر عليه، بل نادى وهو كظيم لكشفه، فلم يصبر على احتماله، والسكون تحته.
قيل: منع من ذلك أن الله - سبحانه - أثنى على يونس وغيره من أنبيائه بسؤالهم إياه كشف ما بهم من الضر، وقد أثنى عليه - سبحانه - بذلك في قوله: وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:87-88].
فكيف ينهى عن التشبه به فيما يثني عليه، ويمدحه به؟!
وكذلك أثنى على أيوب بقوله: مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء: 83].
وعلى يعقوب بقوله: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ [يوسف: 86].
وعلى موسى بقوله: رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص: 24].
وقد شكا إليه خاتم أنبيائه، ورسله، بقوله: اللهم أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي[5].
فالشكوى إليه - سبحانه - لا تنافي الصبر الجزيل، بل إعراض عبده عن الشكوى إلى غيره جملة، وجعل الشكوى إليه وحده؛ هو الصبر، والله - تعالى - يبتلى عبده ليسمع شكواه، وتضرعه، ودعاءه، وقد ذم - سبحانه - من لم يتضرع إليه، ولم يستكن له وقت البلاء؛ كما قال تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ [المؤمنون: 76].
والعبد أضعف من أن يتجلد على ربه، والرب - تعالى - لم يرد من عبده أن يتجلد عليه، بل أراد منه أن يستكين له، ويتضرع إليه، وهو - تعالى - يمقت من يشكوه إلى خلقه، ويحب من يشكو ما به إليه، وقيل لبعضهم: كيف تشتكى إليه ما ليس يخفي عليه؟ فقال: ربى يرضى ذل العبد إليه.
والمقصود: أنه - سبحانه - أمر رسوله أن يصبر صبر أولي العزم الذين صبروا لحكمه اختيارًا، وهذا أكمل الصبر، ولهذا دارت قصة الشفاعة يوم القيامة على هؤلاء، حتى ردوها إلى أفضلهم، وخيرهم، وأصبرهم لحكم الله - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين -"[6].
هذا جواب على سؤال وهو أن فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ أمر للنبي ﷺ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ فهنا النهي عن التشبه به هل هو في تضرعه، وسؤاله، ولجوئه إلى الله؟
الجواب: لا، ولكن فيما أوجب له هذه الحال وهو قلة الصبر، فيقول: اختصر الكلام وطواه، فذكر هذه النتيجة، وما صار إليه حاله من هذا التضرع، والدعاء لمّا صار في بطن الحوت؛ هذا حاصل كلام ابن القيم.
- رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله - تعالى -: وهل أتاك حديث موسى [طه: 9] وكلم الله موسى تكليما [النساء: 164] رقم (3395) ومسلم، كتاب الفضائل، باب في ذكر يونس ، رقم (2377) وأحمد، رقم (2167).
- رواه الترمذي، أبواب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ، رقم (2516) وأحمد، رقم (2763)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، رقم (5302).
- عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين (1/34).
- رواه الترمذي، كتاب أبواب الدعوات عن رسول الله ﷺ، رقم (3505)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، رقم (1826).
- رواه الطبراني في الكبير، رقم (181)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع الصغير، رقم (1182).
- عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين (1/34-36)