الجمعة 18 / ذو القعدة / 1446 - 16 / مايو 2025
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قال ابن كثير - رحمه الله تعالى -: وقوله: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ۝ بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ أي: فستعلم يا محمد، وسيعلم مخالفوك، ومكذبوك: من المفتون الضال منك ومنهم.  

وهذا كقوله تعالى: سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الأَشِرُ [القمر:26]، وكقوله: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ:24].

قال ابن جريج: قال ابن عباس في هذه الآية: ستعلم ويعلمون يوم القيامة.

وقال العوفي عن ابن عباس: بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ أي: المجنون.

وكذا قال مجاهد، وغيره.

ومعنى المفتون ظاهر أي: الذي قد افتتن عن الحق، وضل عنه، وإنما دخلت "الباء" في قوله: بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ لتدل على تضمين الفعل في قوله: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ وتقديره: فستعلم ويعلمون، أو: فستُخْبَر ويُخْبَرون بأيكم المفتون - والله أعلم -".

قوله - تبارك وتعالى -: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ أي ستعلم ويعلمون.

تعلمون ذلك متى؟

بما يظهره الله من دلائل صدقه حينما تتجلى، وتتبين حقيقة ما جاء به - عليه الصلاة والسلام -.

هنا ما نقله عن ابن عباس - ا -: أن ذلك يكون يوم القيامة حينما تحق الحقائق، ويصير الغيب شهادة، عند ذلك يعلمون؛ كما قال: سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَّنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ [القمر:26].

وقوله: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ۝ بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ هذا كأنه من باب التنزل يعني معلوم أنهم المفتونون بلا مرية لكن كما قال الله : وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ:24] ومعلوم أنهم هم على ضلال وهو ﷺ على هدى.

فهنا يقول: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ۝ بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ ونقل عن ابن عباس - ا -: أن المفتون بأي اعتبار؟ باعتبار أنهم رموه بالجنون، فبرأه الله عن ذلك.

مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ۝ وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ ۝ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ۝ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ۝ بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ من هو الأحق بهذا الوصف، ومن ضيع آخرته، وأطاع عدوه، فهذا الذي لا عقل له، قال: وكذا قال مجاهد وغيره، وبه قال الأخفش من أصحاب المعاني وأبو عبيدة معمر بن المثنى، واختاره ابن جرير.

كأنهم نظروا إلى هذه القرينة، اتهموه بالجنون فبرأه الله، قال: وستعلمون غدًا من الأحق بهذا الوصف، وهذا يدل على أن المفتون يأتي بمعنى المجنون، فإن ذلك من الفتْن حينما يصاب الإنسان في عقله.

ابن كثير - رحمه الله - يقول: أي: الذي قد افتتن عن الحق، وضل عنه، وهذا هو المتبادر من إطلاق هذه اللفظة.

لكن كأن أولئك نظروا إلى السياق، والقرينة، فالمفتون هو الذي فتن باتباعه هواه، فأعرض عن الحق، وتركه، يقول: وإنما دخلت "الباء" في قوله: بِأَييِّكُمُ التي تدل على تضمين الفعل في قوله: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ يعني تضمين ماذا؟

بالعلم، أو ستخبَر ويخبَرون، فـ"علم وأخبر" تتعديان بـ"الباء" علمت بكذا، أخبرته بكذا، أخبرني بكذا، تعدية يعني بدلاً من أن يقال: إن "الباء" هذه زائدة.

هنا يقول: لا، جاءت التعدية بـ"الباء"؛ لأن قوله: فَسَتُبْصِرُ مضمن معنى فعل آخر يتعدى بـ"الباء"، "فستبصر" مضمن معنى أنك ستخبَر: بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ ستعلم ويعلمون: بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ فـ"علم" و"أخبر" تتعديان بـ"الباء" فعدي تبصر بـ"الباء" لهذا التضمين، وإلا فإن "ستبصر" لا تتعدى بـ"الباء" تقول: أبصرت كذا، تتعدى بنفسها، أبصرت الحق، ولا تقول: أبصرت بالحق، إلا إذا ضمنته معنى فعل آخر، فهذا توجيه جيد لهذا الموضع، بعيد عن التكلف، والمفسرون والمعربون ذكروا في هذا أشياء، لكن هذا من أوضحها، وأحسنها، وإلا فإن بعض أصحاب المعاني - مثل الفراء - قال: إن التضمين هو في الحرف، يعني بدلاً من أن يكون في الفعل، وقد ذكرنا من قبل في مناسبات شتى: أن تضمين معنى الفعل أبلغ وأكثر في المعاني، وأن هذا كما يقول ابن القيم: "طريقة فقهاء النحاة"، وهذا الذي يقوله شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، فتضمين الحرف معنى الحرف أسهل، ولكن لا جديد فيه من جهة المعنى.

فالفراء يقول: إن "الباء" بمعنى "في" فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ يعني في أي الفريقين الذي أنت فيه أم في الفريق الآخر بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ في أيكم المفتون.

وكأنهم يحتجون على هذا بقراءة شاذة: "في أيكم المفتون" يعني في أي الفريقين يكون هذا الوصف، "فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون" في أي الفريقين يكون المفتون، وكما سبق أن ابن عباس - ا - حمل ذلك على يوم القيامة: أن هذا الإبصار يتجلى يوم القيامة، وجاء عن قتادة: أن هذا يوم بدر، حينما قتل من قتل منهم، وأسر من أسر، وهزموا شر هزيمة، لكن الأول أشهر.

قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "وقوله تعالى: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ۝ بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ فقال أبو عثمان المازني: هو كلام مستأنف، والمفتون عنده مصدر أي: بأيكم الفتنة؟

والاستفهام عن أمر دائر بين اثنين قد علم انتفاؤه عن أحدهما قطعاً، فتعين حصوله للآخر، والجمهور على خلاف هذا التقدير، وهو عندهم متصل بما قبله، ثم لهم فيه أربعة أوجه:

أحدها: أن "الباء" زائدة، والمعنى: أيكم المفتون، وزيدت في المبتدأ كما زيدت في قولك: بحسبك أن تفعل، قاله أبو عبيد.

الثاني: أن المفتون بمعنى الفتنة أي: ستبصر ويبصرون بأيكم الفتنة، و"الباء" على هذا ليست بزائدة، قاله الأخفش.

الثالث: أن المفتون مفعول على بابه، ولكن هنا مضاف محذوف تقديره بأيكم فُتون المفتون، وليست "الباء" زائدة، قاله الأخفش أيضاً.

الرابع: أن "الباء" بمعنى: في، والتقدير: في أي فريق منكم النوع المفتون، و"الباء" على هذا ظرفية.

وهذه الأقوال كلها تكلف ظاهر، لا حاجة إلى شيء منه.

وفَسَتُبْصِرُ مضمن معنى: تشعر وتعلم - تأمل كما ذكر الحافظ ابن كثير أي مضمن معنى فعل يصح تعديته بـ"الباء" تشعر، تعلم - فعدى بـ"الباء" كما تقول: ستشعر بكذا، وتعلم به، قال تعالى: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى [العلق:14].

وإذا دعاك اللفظ إلى المعنى من مكان قريب فلا تجب من دعاك إليه من مكان بعيد"[1].

  1. التبيان في أقسام القرآن، ص (218- 219).