الجمعة 18 / ذو القعدة / 1446 - 16 / مايو 2025
وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وقوله: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ قال العوفي عن ابن عباس: "أي: وإنك لعلى دين عظيم، وهو الإسلام"، وكذلك قال مجاهد، وأبو مالك، والسدي، والربيع بن أنس، والضحاك، وابن زيد.

وقال سعيد بن أبي عَرُوبَة عن قتادة قوله: "وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ذكر لنا: أن سعد بن هشام سأل عائشة عن خُلق رسول الله ﷺ فقالت: ألست تقرأ القرآن؟ قال: بلى، قالت: فإن خلق رسول الله ﷺ كان القرآن"، وروى نحوه عبد الرزاق، وقد رواه الإمام مسلم في صحيحه، من حديث قتادة بطوله[1].

ومعنى هذا: أنه صار امتثالُ القرآن أمرًا ونهيًا سجيةً له، وخلقًا تَطَبَّعَه، وترك طبعه الجِبِلِّي، فمهما أمره القرآن فعله، ومهما نهاه عنه تركه.

هذا مع ما جَبَله الله عليه من الخلق العظيم من الحياء، والكرم، والشجاعة، والصفح، والحلم، وكل خلق جميل؛ كما ثبت في الصحيحين عن أنس قال: "خدمتُ رسولَ اللهِ ﷺ عشر سنين فما قال لي: "أف" قط، ولا قال لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلته؟[2].

وكان ﷺ أحسن الناس خلقًا، ولا مَسسْتُ خزًّا، ولا حريرًا، ولا شيئًا كان ألين من كف رسول الله ﷺ، ولا شَمَمْتُ مسكًا، ولا عطرًا؛ كان أطيب من عَرَق رسول الله ﷺ"[3].

وروى البخاري عن البراء يقول: كان رسول الله ﷺ أحسن الناس وجهًا، وأحسن الناس خلقًا، ليس بالطويل البائن، ولا بالقصير[4].

والأحاديث في هذا كثيرة، ولأبي عيسى الترمذي في هذا كتاب: "الشمائل".

روى الإمام أحمد عن عائشة - ا - قالت: ما ضرب رسول الله ﷺ بيده خادمًا له قط، ولا امرأة، ولا ضرب بيده شيئًا قط؛ إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا خُيِّر بين شيئين قط إلا كان أحبهما إليه أيسرهما حتى يكون إثمًا، فإذا كان إثمًا كان أبعد الناس من الإثم، ولا انتقم لنفسه من شيء يؤتى إليه إلا أن تنتهك حرمات الله، فيكون هو ينتقم لله .[5]

وروى الإمام أحمد: عن أبي هُرَيرة قال: قال رسولُ الله ﷺ: إنما بُعِثتُ لأتمم صالح الأخلاق[6] تفرد به".

هنا قوله - تبارك وتعالى -: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ هذا الخلق كما جاء عن ابن عباس - ا -: "لعلى دين عظيم، وهو الإسلام".

ثم ذكر من قال بهذا من السلف، وهذا الذي عزاه الواحدي لأكثر المفسرين: على دين عظيم، وهو دين الإسلام.

وحقيقة الخُلق هو ما يأخذ الإنسان به نفسه من الأدب، هذا هو الخلق بما يقرب معناه ما يأخذ الإنسان به نفسه من الأدب.

هذا القول: إنه على دين عظيم هو الإسلام، وقول عائشة - ا -: "إن خلقه القرآن"، وهكذا قول قتادة: "هو ما كان يأتمر به من أمر الله، وينتهي عما نهاه الله عنه".

كل هذه الأقوال بالإضافة إلى قول من قال: "إنه طبع على الطبع الكريم" كما يقوله بعض المفسرين، واختاره الماوردي.

هذه الأقوال غير متنافية، يعني من يقول: إن ذلك يعني الإسلام، أو القرآن، فإن القرآن هو الذي فيه تفاصيل، وأحكام شرائع الدين.

وهكذا قول من قال: ما كان يأتمر به مما أمره الله به، وينتهي عما نهاه الله عنه، فهذا هو الامتثال للقرآن، والتطبيق لشرائع الإسلام، فكل هذا يرجع إلى شيء واحد، فإذا تخلق بهذا، وامتثل؛ فإنه لا يصدر عنه إلا كل فعل جميل، وكل قول جميل، لا يصدر عنه إلا هذا، فهذا لا يخرج عن معنى الخُلق المعروف، وحينما تجد أن ذلك يعني القرآن، أو شرائع الإسلام، أو نحو هذا؛ فهذا هو الخلق، الخلق من أين يؤخذ؟

يؤخذ من الإسلام، وشرائع الإسلام، من القرآن، فهذا لا إشكال فيه، فهذه الأقوال ليست خارجة عن هذا المعنى، ولهذا عبارة ابن كثير - رحمه الله - واضحة، يقول: ومعنى هذا: أنه - عليه الصلاة والسلام - صار امتثالُ القرآن أمرًا ونهيًا - تأمل العبارة كيف تنتظم الأقوال - قال: صار سجيةً له، وخلقًا تطبَّعه، وترك طبعه الجبلي، فمهما أمره القرآن فعله، ومهما نهاه عنه تركه، هذا مع ما جبله الله عليه من الخلق العظيم من الحياء، والكرم، والشجاعة ... إلى آخره، فهذا الخلق الذي يتبادر إلى الذهن هو المراد، لكن حينما يقال: هو الإسلام؛ فلأن الخلق إنما هو ما قرره الإسلام، وشرعه، فيكون بفعل ما أمره به، وترك ما نهاه عنه، وهذا هو امتثال القرآن: العمل به، واتباعه.

الحافظ ابن القيم - رحمه الله - تكلم على هذا المعنى كلامًا جيدًا، وربطه بموضوع القسم قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ وهذه من أعظم آيات نبوته، ورسالته؛ لمن منحه الله فهمًا، ولقد سئلت أم المؤمنين عن خلقه ﷺ فأجابت بما شفى، وكفى، فقالت: "كان خلقه القرآن" فهمّ سائلها أن يقوم لا يسألها شيئًا بعد ذلك، ومن هذا قال ابن عباس وغيره: أي على دين عظيم، وسمي الدين خلقًا؛ لأن الخلق هيئة مركبة من علوم صادقة، وإيرادات زاكية، وأعمال ظاهرة وباطنة، موافقة للعدل، والحكمة، والمصلحة، وأقوال مطابقة للحق، تصدر تلك الأقوال، والأعمال؛ عن تلك العلوم، والإيرادات، فتكتسب النفس بها أخلاقًا هي أزكى الأخلاق، وأشرفها، وأفضلها، فهذه كانت أخلاق رسول الله ﷺ المقتبسة من مشكاة القرآن، فكان كلامه مطابقًا للقرآن تفصيلاً له، وتبيينًا، وعلومه علوم القرآن، وإرادته، وأعماله ما أوجبه وندب إليه القرآن، وإعراضه، وتركه لما منع منه القرآن، ورغبته فيما رغب فيه، وزهده فيما زهد فيه، وكراهته لما كرهه، ومحبته لما أحبه، وسعيه في تنفيذ أوامره، وتبليغه، والجهاد في إقامته، فترجمت أم المؤمنين لكمال معرفتها بالقرآن، وبالرسول ﷺ، وحسن تعبيرها عن هذا كله بقولها: "كان خلقه القرآن" وفهم هذا السائل لها عن هذا المعنى، فاكتفى به، واشتفى.

فإذا كانت أخلاق العباد، وعلومهم، وإراداتهم، وأعمالهم؛ مستفادة من القلم، وما يسطرون، وكان في خلق القلم، والكتابة؛ إنعام عليهم، وإحسان إليهم، إذ وصلوا به إلى ذلك، فكيف ينكرون إنعامه، وإحسانه على عبده، ورسوله؛ الذي أعطاه أعلى الأخلاق، وأفضل العلوم، والأعمال، والإرادات التي لا تهتدي العقول إلى تفاصيلها من غير قلم، ولا كتابة؟، فهل هذا إلا من أعظم آيات نبوته، وشواهد صدق رسالته؟

وسيعلم أعداؤه المكذبون له أيّهم المفتون هو أم هم؟

وقد علموا هم والعقلاء ذلك في الدنيا، ويزداد علمهم في البرزخ، وينكشف، ويظهر كل الظهور في الآخرة، بحيث تتساوى أقدام الخلائق في العلم به.

  1. رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب جامع صلاة الليل، ومن نام عنه أو مرض، رقم (746).
  2. كتاب الأدب، باب حسن الخلق والسخاء، وما يكره من البخل، رقم (6038)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب كان رسول الله ﷺ أحسن الناس خلقا، رقم (2309).
  3. رواه البخاري، كتاب المناقب، باب صفة النبي ﷺ، رقم (3561)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب طيب رائحة النبي ﷺ ولين مسه، رقم (2330).
  4. رواه البخاري، كتاب المناقب، باب صفة النبي ﷺ، رقم (3549)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب في صفة النبي ﷺ وأنه كان أحسن الناس وجهًا، رقم (2337).
  5. رواه أحمد، رقم (25956) وقال محققو المسند: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
  6. رواه أحمد، رقم (8952) وقال محققو المسند: "صحيح، وهذا إسناد قوي، رجاله رجال الصحيح غير محمد بن عجلان،   فقد روى له مسلم متابعة، وهو قوي الحديث".