"قال تعالى: فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ [القلم: 8- 16].
يقول تعالى: كما أنعمنا عليك، وأعطيناك الشرع المستقيم، والخلق العظيم: فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ قال ابن عباس: "لو تُرَخِّص لهم فَيُرَخِّصون"، وقال مجاهد: "ودوا لو تركن إلى آلهتهم، وتترك ما أنت عليه من الحق"".
قوله - تبارك وتعالى -: فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ من هؤلاء؟
الكفار يدخلون في ذلك دخولاً أوليًّا أصليًّا، لا تطع الكفار كما قال الله - تبارك وتعالى -: وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ [الأحزاب:1]، فالكفار في الظاهر والباطن، والكفار في الباطن - وهم أهل النفاق - لا تطعهم: فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ لا تطعهم فيما يشيرون به، ولا تطعهم فيما يطلبون من التنازل عن الحق، والتخلي عنه، أو عن بعضه، فهم لا يفتئون يحاربون من دعا إلى الحق، أو اتبعه كما قال الله - تبارك وتعالى -: وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]، وقال: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ [البقرة:217]، فالقتال جعله لغاية: حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ القتال إلى الردة، وأما الرضا فلا يتحقق إلا باتباع ملة هؤلاء الكفار، فهما غايتان: ترك القتال بأن يرتد المسلمون عن دينهم، ولا يتحقق بهذا رضاهم حتى تتبع ملة هؤلاء، يتبع ملة من؟ اليهود، والنصارى.
إذا اتبع ملة اليهود لن ترضى النصارى، وإذا اتبع ملة النصارى لن ترضى اليهود.
فقوله: فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ هذا يشير إلى قرينة تدل على معنى ما ذكر من قول مجاهد: "تركن إلى آلهتهم، وتترك ما أنت عليه من الحق" وهكذا ما نقله عن ابن عباس: "لو ترخص لهم فيرخصون" يعني تتنازل عن بعض الحق، وهم بالمقابل يقدمون تنازلاً، تلتقون معه في منتصف الطريق، فيترك المؤمن ما أمره الله به طلبًا لرضاهم، وللالتقاء معهم.
وهذه طريقة أهل النفاق، فهم يريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً، ويزعمون في هذا الإفساد أنهم يريدون الإصلاح وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:11] يقولون: إِن أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا [النساء: 62] نوفق بين هؤلاء وهؤلاء، نلتقي في حل وسط.
والوسط ليس دائمًا يكون محمودًا، وإنما لزوم الحق هو الوسط، وإلا فالوسط قضية نسبية، لا يقال دائمًا: إن الوسط هو الصواب والحق، فالتوسط بين المؤمنين والكافرين هذا سبيل المنافقين، فهم يأخذون من هذا بطرف، ومن هذا بطرف، فيكونون كالغنم العائرة بين الغنمين.
فهذا المعنى الذي ذكر هنا في "تدهن" لا منافاة فيه، وأصل الإدهان هو الملاينة.
وابن جرير - رحمه الله - لما تكلم على معناه ربط ذلك بالدهن؛ لأن الدهن يلين الشيء: لَوْ تُدْهِنُ تلين معهم، ولهذا فسر بالمسامحة، والمداراة، ويقصدون بها التنازل، والتغاضي عن الحق، وعباراتهم تدور حول هذا كقول الفراء: "لو تلين، فيلينوا لك"،وقول الضحاك والسدي: "ودوا لو تكفر فيتمادوا على الكفر فيدهنون"، وقول الربيع: "لو تكذَّب فيكذِّبون"، وقول قتادة: "لو تذهب عن هذا الأمر، فيذهبون معك"، وقول الحسن: "لو تصانعهم في دينك، فيصانعوك"، وقول مجاهد: "لو تركن إليهم، وتترك ما أنت عليه من الحق؛ فيمالونك"، وهكذا قول ابن قتيبة: "أرادوه أن يعبد آلهتهم مدة، ويعبدوا الله مدة"، وبنحوه قال ابن جرير -رحمه الله.
هذا كله يرجع إلى شيء واحد، ولهذا جاءت سورة التوحيد، والإخلاص: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ [الكافرون: 1- 2] هذه في توحيد الإلهية، تبرأ منهم، ومن آلهتهم، ومن معبوداتهم، وعباداتهم: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون: 3- 6].
هذه مفاصلة كما ذكرنا في الكلام على هذه السورة قول من قال: إن الجملتين الأوليين: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ أي: في الحاضر الآن، ولا أنا في المستقبل سأتحول إلى عبادة آلهتكم: وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ، وبعضهم عكس المعنى، قال: إن الأُوليين في المستقبل، والأُخريين في الحاضر، وقد سبق الكلام على هذا.
فالمقصود: أن قوله - تبارك وتعالى -: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ يعني تترك ما أنت عليه، تتنازل، تركن إليهم، فهم أيضًا في المقابل يمالئونك بمعنى أنهم عندها سيقابلونك بالقبول، والممالأة، والموافقة، فيكون ذلك من الطرفين يعني تكون مقبولاً عندهم إذا تركت الحق، أو بعض الحق الذي دعوتهم إليه.
ممكن أن تتنازل وتقدم لهم دعوة لا تضايقهم، ليس فيها دعوة إلى توحيد الله والإيمان، وليس فيها إبطال للشرك، ولمعبوداتهم، فهذا الذي أقامهم وأقعدهم، ممكن أن تدعوهم إلى أمور مشتركة يوافقونك عليها من الكلام على قضايا من الكرم، وصلة الرحم، وترك الفواحش وما إلى ذلك؛ مثل الآن ما يسمى بـ"دعوة القيم" القضية مشتركة بين الجميع، لا تنبع من التوحيد، والإيمان، يمكن أن تقدَّم في البلاد الشيوعية، تقدم عند اليهود، عند النصارى، والطوائف، عند الوثنيين، سيتقبلون هذا، ويرفعون هذا الشعار، لكن حينما يُدعون إلى التوحيد الذي ينبع منه كل قول كريم، وكل فعل كريم؛ هذه هي دعوة الرسل - عليهم الصلاة والسلام -.
لكن هؤلاء الذين يدعون إلى القيم يزعمون أن التوحيد من القيم، هم يقولون هذا، و"القيم" أصلاً ليس لها أصل في اللغة، اجرد كتب القواميس والمعاجم لن تجد لها أصلاً، ولا في كلام أهل العلم المعتبرين، وإنما هي لفظة كأنها مولدة في العصر الحديث، غير واضحة المعنى.
فالقيم ما هي؟
فكل أناس لهم قيم، كل أمة لها قيم، كل ديانة، كل أهل ملة لهم قيم تخصهم، فإذا قالوا: إن التوحيد هذا من القيم، الإيمان من القيم، فتكون غاية ما هنالك أننا استبدلنا الذي هو أدنى بالذي هو خير الإيمان بضع وسبعون شعبة[1]، - والله أعلم -.
- رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب شعب الإيمان، رقم (35).