تأمل هنا لما قال: فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ من الكفار، والمنافقين قال: وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ.
الحلاف هو كثير الحلف، وإنما يُكثر الحلف؛ لأنه مهزوز، ضعيف، لا يثق بنفسه، ولا أنه يصدق، ولا يقبل ما يقول، فيضطر إلى تأكيد كل ما يقول بالحلف، فهو كثير الحلف، وهذا لا شك أنه يؤدي إلى ابتذال اسم المعبود ، ولهذا جاء في كتاب التوحيد: "باب ما جاء في كثرة الحلف"؛ لأن كثرة الحلف فيه نوع استخفاف، وابتذال.
فهنا لما ابتذل اسمَ الله ، وجعله على طرف لسانه؛ جوزي بعقوبة تليق بمثله، أو وُصف بما يليق بمثله: وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ، ووصفه هنا بذلك: مَّهِينٍ لأنه أهان اسم الله بكثرة جريه على لسانه، يحلف على ما يستحق، وما لا يستحق: قسمًا بالله، والله، في لحظات، وليس في الساعة الواحدة، في لحظات تحسب له أيمانًا متتابعة متعاقبة على قضايا تافهة، بين كل جملة وجملة قسم وهو يتكلم مع الناس، فهذا ابتذال لاسم الله ، وكما جاء عن النخعي: "أنهم كانوا يؤدبون الصبيان على الحلف"، يؤدب الصبي، ويضرب؛ ليعظم اسم الله ، ولا يكون ذلك خفيفًا على لسانه.
والذين يكثرون الحلف في القرآن يعني ما جاء من ذكر قوم يكثرون الأيمان في القرآن إنما كان ذلك في صفة المنافقين: إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ [المنافقون:1] هنا الشهادة هذه بمعنى القسم نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ، وكذلك: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً [المنافقون:2] فصار ذلك عادة متكررة لهم، راسخة فيهم، حتى إنهم يبعثون يوم القيامة يحلفون: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ [المجادلة:18] استمرءوا هذا الأمر، فيقومون من قبورهم يوم القيامة يحلفون، وهذا في غاية القبح.
كيف صار هؤلاء بهذه المثابة؟ ويحسبون أن هذه الأيمان الكاذبة تنفعهم، وتُنفِّقهم عند الله في الآخرة؟!
فهذا يؤخذ منه عبرة وعظة: أن لا يكثر الإنسان الحلف، وأن لا يحلف إلا على شيء يستحق، ولا يستخف باسم الله .
وكثير الحلف فعله هذا مؤذن بأنه غير مطمئن لما يقول، وغير مطمئن إلى تصديق الناس لكلامه، فيضطر إلى توكيده بالحلف وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ، مهِينٍ من المهانة، وبعضهم يفسرها بالقلة في الرأي، وضعف الرأي، والتمييز، وبعضهم - كمجاهد - يقول: "الكذاب هو المهين"، وبعضهم يقول: "المكثار من الشر" كما يقوله قتادة والحسن، وبعضهم يقول: "هو العاجز الفاجر"، وبعضهم يقول: "هو الحقير عند الله"، وقول من قال: "الذليل بمعناه"، وبعضهم يقول: "الوضيع"، وهذا يرجع إلى معنى متقارب، فإن الكذاب وضيع.
كثير الحلف بالكذب هذا مكثار من الشر، فعله هذا مؤذن بأنه لا عقل له، ولا قدر، ولا تمييز، ولا رأي، فهو ذليل فاجر، عاجز، يلجأ إلى الحلف.