"وقوله: هَمَّازٍ قال ابن عباس وقتادة: "يعني الاغتياب".
مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ يعني: الذي يمشي بين الناس، ويحرش بينهم، وينقل الحديث لفساد ذات البين، وهي: الحالقة.
وقد ثبت في الصحيحين من حديث مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس قال: "مر رسول الله ﷺ بقبرين، فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما: فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر: فكان يمشي بالنميمة[1] الحديث، وأخرجه بقية الجماعة في كتبهم، من طرق عن مجاهد به.
روى الإمام أحمد أن حُذَيفة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: لا يدخل الجنة قَتَّات[2] رواه الجماعة، إلا ابن ماجه".
قوله - تبارك وتعالى - في صفة هذا الحلاف المهين: هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ؛ هَمَّازٍ قال ابن عباس وقتادة: "يعني الاغتياب"، وإلى هذا ذهب ابن جرير - رحمه الله -.
وقد سبق الحديث عن الهمز، وعن اللمز في مواضع من آخرها: قوله - تبارك وتعالى -: وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ [الحجرات: 11]، وفي قوله - تبارك وتعالى -: وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ [الهمزة: 1].
وذكرنا أن الهمز يدل على فعل، ولهذا فسره بعضهم بالفعل، وأن اللمز يكون بالقول، وهذا ليس محل اتفاق، فبعضهم يعكس هذا.
وهنا تفسير الهماز بالمغتاب، وهو قول قريب.
وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ فذكَرَه مع النميمة، فهو غيّاب يغتاب الناس، ويسعى في الإفساد.
وبعضهم يقول: إن الهماز - كثير الهمز - الذي يذكر الناس في وجوههم، واللماز هو الذي يذكرهم في غيبتهم؛ يلمزهم، ولكن هذا وإن قال به جماعة من السلف كأبي العالية، والحسن، وعطاء بن أبي رباح؛ فإنه ليس محل اتفاق، بل بعضهم عكس هذا كما قال مقاتل، والله يقول: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ [التوبة:79] هنا لا يشترط أن يكون ذلك في غيبتهم، فإذا جاءوا بالصدقة - وهؤلاء حضور -، وكانت كثيرة قالوا: هذا مُراءٍ، وإن كانت قليلة قالوا: الله غني عن هذا وعن صدقته.
وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ [التوبة: 58] يعيب عطاء النبي ﷺ، وقسْمه بين الناس.
هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ يمشي بين الناس بالنميمة على سبيل الإفساد؛ هذا النمام، فذكْرُ المغتاب مع النمام لا شك أنهما مقترنان، فهذا الذي يغتاب الناس ويتكلم في أعراضهم هو أيضًا حينما يكون مقارفًا للنميمة، هو يفعل ذلك أيضًا من باب الغيبة وزيادة، يعني يذكرهم بما يكرهون على سبيل السعي فيهم وبينهم في الإفساد، فيسعى في الإفساد.
وفي قوله - تبارك وتعالى -: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء:36] ذكرنا هناك أن القفو الاتباع، ففسرها بعضهم بالغيبة أو بالنميمة؛ لأنها تقال من خلف الإنسان من القفا، في قفاه ليس في وجهه.
وذكرنا أن هذا من المعاني الداخلة في الآية، فهذا الذي يغتاب الناس يقفو ما ليس له به علم، وهذا الذي يسعى بالنميمة يقفو ما ليس له به علم، وهكذا كل من اشتغل بالباطل اعتقادًا، أو قولاً، أو عملاً؛ فهو ممن قفا ما ليس له به علم، فهؤلاء الذين يقعون في أعراض الناس، ويسعون بينهم في الإفساد، يحرشون بينهم، وهي سوق مستعرة لها ضرام عبر هذا الإعلام الجديد، الوقيعة في أعراض الناس، لا يترك أحداً إلا يُوسم بأقبح الأوصاف بالكذب، والبهت البين، فالله حسيبهم.
هؤلاء كم فرقوا من شمل، وكم هدموا من بناء، وكم أوقدوا من فتنة وشر بين الناس، وكم أفقدوا من ثقة بأهل الصلاح، والخير، وأهل العلم، فلا يتركون أحدًا إلا بهتوه.
فهؤلاء من يُنشئون هذا البهتان، والكذب، والغيبة، ومن يسعون فيه، ومن ينشرونه، كل هؤلاء يشتركون في هذا.
وهؤلاء أبعد ما يكونون عن التربية القرآنية، وعن الأخلاق الإسلامية، فضلاً عن أن يكون مثل هؤلاء يشتغلون، أو يصلحون لإقامة دنيا، أو دين، مثل هؤلاء الكذبة، هؤلاء السعاة والدعاة إلى الفتن والشرور، الذين لا يسلم أحد من كتاباتهم وألسنتهم - عليهم من الله ما يستحقون -، هؤلاء لا يمكن أن يقيموا عدلاً، ولا دينًا، ما أقاموه في أنفسهم، فكيف يقيمونه لغيرهم؟!.
فهؤلاء لا شك أنهم أغواهم الشيطان، واستزلهم، وصاروا بهذه المثابة، أسوأ الأخلاق، وأسوأ الكلام، وأسوأ العبارات، وأسوأ الأفعال تصدر عنهم - والله المستعان -.
- رواه البخاري، كتاب الوضوء، باب ما جاء في غسل البول، رقم (218)، ومسلم، كتاب الطهارة، باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه، رقم (292).
- رواه البخاري، كتاب الأدب، باب ما يكره من النميمة، رقم (6056)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان غلظ تحريم النميمة، رقم (105).