قوله - تبارك وتعالى -: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا الهنيء هو الذي لا تكدير فيه، أو معه، ولا تنغيص، يكون سائغًا من غير تكدير، هنيء، وقوله: بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ الباء هنا تدل على السببية، بما كنتم تعملون، بما أسلفتم في الأيام الخالية ونحو ذلك، هذا يدل على أن الأعمال سبب وهو لا ينافي قول النبي ﷺ في الحديث الذي أورده المؤلف: واعلموا أن أحدًا منكم لن يدخله عمله الجنة يعني لا يكون ذلك على سبيل الاستقلال، أي لا يدخل الجنة بسبب العمل مستقلًا به من غير رحمة الله ؛ لأن العمل لا يمكن أن يكافئ نعمة من نعم الله عليه، وهذا العمل لا يمكن أن يكافئ هذا النعيم المقيم في الجنة، ولكن الله - تبارك وتعالى - يمن على عباده، ويرحمهم؛ فيدخلون الجنة، فالعمل سبب، ولكنه سبب غير مستقل، فالمؤمن يعمل ولكنه لا يتكل على هذا العمل، ولا يغتر به، ولا يحصل له شيء من العجب، ولا يظن أنه إنما يدخل الجنة بسبب هذا الاجتهاد، والعمل الذي عمله في الدنيا، وإنما هو أحوج ما يكون إلى رحمة الله - تبارك وتعالى -، وهذه الآيات - هذا الموضع - من هذه السورة، وكل ما في هذه السورة، وكل ما في كتاب الله - تبارك وتعالى - فهو عبرة وعظة، ولكن الله - تبارك وتعالى - يخبرنا عن حقائق الآخرة، وما يكون فيها على سبيل التفصيل، وما يقوله الإنسان، وما يقال له، وما يصدر عنه في وقت غمرة من الفرح حينما يعطى الكتاب بيمينه، أو ما يقوله حينما يكون في غاية الحسرة إذا أخذ كتابه بشماله، فهذا يحتاج إلى تدبر، وطول نظر، واعتبار، فإن كل أحد سيأتي عليه ذلك اليوم الذي يقف فيه بين يدي الله ، ويأخذ كتابه إما بيمينه، وإما بشماله، فلا بدّ أن يكون واحداً من هؤلاء، إما أن يقول: هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيهْ، وإما أن يقول: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ، فهذا الذي يأخذ كتابه بيمينه يطير فرحًا يقول: هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيهْ، يقول للناس: هَاؤُمُ هذا يدل على الجمع، خذوا اقرءوا كتابيه، إني ظننت أني ملاق حسابي، وأنا أعمل لهذا اليوم، وكنت متيقنًا بحصوله، فلا تسأل عن حاله من تلك العيشة الطيبة الكريمة التي لا كدر فيها، ولا مرض، ولا اعتلال، ولا حزن، ولا همّ، ولا خوف، ولا موت، وإنما هو نعيم متجدد لا ينقضي، ولا ينقطع، هذه فرحة لا شك، وفوز عظيم لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ [سورة الصافات:61]، وكل ما يلقاه الإنسان من أنواع الاعتلال في هذه الحياة الدنيا هو ليس بشيء، إنما الاعتلال هناك في الآخرة، وكل ما يلقاه الإنسان من اللذات في هذه الحياة الدنيا هو لا شيء؛ إنما اللذة الحقيقية الكاملة هناك في الآخرة، وكلنا يعرف الحديث في أنعم أهل الدنيا حينما يغمس في النار غمسة فيقال له: هل رأيت نعيمًا قط؟ يقول: لا والله يا رب، ما رأيت نعيمًا قط[2]، ينسى كل هذا النعيم، أنعم إنسان يتقلب في ماذا؟ يسكن في ماذا؟ يأكل ماذا؟ أنعم إنسان لا يمد يده على شيء، يُخدم، يُحمل عن الأرض، لربما كان كنيفه من الذهب - أعزكم الله -، وسريره من الذهب، ويتمتع بألوان الطيبات المطعومات، والمشروبات، والخدم، والحشم، والمراكب الفارهة، والقصور، والحدائق، والإماء وما إلى ذلك، والزوجات، أنعم إنسان يملك الأحمر والأصفر، غمسة واحدة تنسيه ذلك، ويحلف أنه ما رأى نعيمًا قط، وأبأس إنسان تصور من هو أبأس إنسان في الدنيا من أولها إلى آخرها ما حاله في عافيته؟ أنواع الأسقام، والأمراض، والأذى، وأنواع الهموم، أنواع المشكلات، أنواع المعاناة الفقر ما يجد شيئًا يأكله، بائس لا يملك مقومات الحياة، تصور أبأس ما يمكن أن يتصوره العقل، انظر إلى صور البؤساء، مهما تصورت فهذا أكثر بؤسًا منهم، يغمس في الجنة غمسة واحدة فيقول الله له: هل رأيت بؤسًا قط؟ فيقول: لا، والله ما رأيت بؤسًا قط، إذاً البؤس والنعيم الذي في الدنيا ليس بشيء، الحياة هناك.
فإذا أخذ الإنسان كتابه بيمينه فهذه الفرحة التي لا تقادر، لا تسأل عن حاله، والله لا يمكن أن يتصور هذا المقام والموقف، وما يكون فيه، والآخر الذي أخذ بالشمال لا يمكن أن تحصل هناك مراجعة، أو شفاعة، أو محاولات ينتج عنها أن يعاد أخذ الكتاب باليمين، انتهى، أخذ الكتاب بالشمال يعني هو من أهل الشمال، فهو عرف نفسه، وعرف مصيره في هذا الاعتبار، إذا كان الأمر كذلك فنحن منذ خرجنا من بطون أمهاتنا ونحن أيها الأحبة مثل الرصاصة إذا انطلقت بلا توقف، هذه الأنفاس لا تتوقف، والعمر يتناقص، العمر المحدود يبدأ بالعد التنازلي حتى تأتي لحظة النهاية، ويموت الإنسان، فنحن منطلقون هكذا، نسير كأن الإنسان يجري مسرعًا ليأخذ كتابه بيمينه، أو ليأخذ كتابه بشماله، هي هكذا، وما السبب الذي يجعل هذا الإنسان يأخذ الكتاب باليمين أو بالشمال بعد لطف الله، ورحمته، وفضله عليه؟ هي هذه الأكساب، والأعمال التي يزاولها، هي أعماله، كلامه، ما يصدر عنه من صلاة، وصيام ونحو ذلك، هؤلاء يقول لهم: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ، ولهذا مجاهد فسر بما أسلفتم في الأيام الخالية بأيام الصيام، وهو تفسير بالمثال، الصوم شاق، فالناس حوله يأكلون، ويشربون، وهو حبس نفسه عن ذلك يرجِّي الجزاء في ذلك اليوم عند الله - تبارك وتعالى -، فالصيام، والصلاة، الفرائض، ثم بعد ذلك النوافل، كف الأذى عن الناس، أذى اللسان أكثر ما يدخل الناس النار، أكثر ما يورد الناس الموارد، ويكبهم على مناخرهم في النار حصائد الألسن، فهذا كله يحتاج إلى أن يستعد له العبد، ويعمل لذلك اليوم الذي هو آتٍ لا محالة، فمن تيقن هذا أيها الأحبة هان عليه كل ما يلقى من فقر، ومن حاجة، ومن هم، ومما يفوته من هذه الدنيا، ومما يحصل له من أمراض، أو لولده أو نحو ذلك، كل ذلك يهون، قد يخفق الإنسان في عمل، قد يخفق في تجارة، قد يخفق في الجامعة؛ لكنه يتوجه إلى باب آخر، ويفتح عليه، يدرس في جامعة أخرى، يبقى بلا دراسة، ليس هذا هو نهاية المطاف، لكن هناك الإخفاق الحقيقي الذي لا يمكن أن يتوجه معه إلا إلى النار، مثل هذه يقصها الله كأننا نراها بهذا التفصيل، نسأل الله أن يجعلنا، وإياكم، ووالدينا، وإخواننا المسلمين؛ ممن يأخذ كتابه بيمينه.
- رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل، برقم (6467)، ومسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله - تعالى -، برقم (2818).
- رواه مسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب صبغ أنعم أهل الدنيا في النار وصبغ أشدهم بؤساً في الجنة، برقم (2807).