هنا ذكر لهذه الريح صفتين صرصر، وعاتية فهنا قال: صَرْصَرٍ أي باردة، ونقل ذلك عن الضحاك، وهذا قال به جماعة من المفسرين قالوا: إن ذلك مأخوذ من الصِّر وهو البرد، رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ [سورة آل عمران:117] أي برد فهي ريح باردة، وبعضهم فسر ذلك بالصوت من الصرصرة؛ لشدة هذا الصوت الناتج عن هبوب هذه الريح، وابن جرير - رحمه الله - ذكر أن هذه الريح شديدة العصوف، عاصفة مع شدة بردها، "بريح صرصر" فهنا أيضًا لفظ الصرصر يدل على الصوت، والريح إذا اشتدت كان لها صوت، فهي ريح بهذه المثابة شديدة العصوف لها صوت، وهي باردة شديدة البرد، مع أن مجاهد - رحمه الله - قال: شديدة السموم.
هنا في قوله - تبارك وتعالى -: وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ لعله يطرق أسماعكم أن الريح إذا جاءت في القرآن فهي للعذاب بخلاف الرياح، لكن هذا ليس على هذا الإطلاق، هي التي يسمونها الكليات في القرآن، فهذا ليس على إطلاقه بدليل أن الله لما ذكر جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ [سورة يونس:22] قال قبله: وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ فوصفها بأنها طيبة، ثم قال بعده: جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ فهنا ذكر الريح بهذا اللفظ في الموضعين: الموضع الأول ريح طيبة تطيب بها نفوسهم، ويطيب بها سيرهم، ثم جاءت بعد ذلك الريح الأخرى، فليس كل ريح في القرآن للعذاب.
في قوله: عَاتِيَةٍ هنا قال: أي شديدة الهبوب، فيكون "صرصر" يعني باردة إذاً على قول هؤلاء، شديدة البرد، وعاتية شديدة الهبوب، قال قتادة: "عتت عليهم حتى نقبت عن أفئدتهم"، وقال الضحاك: عَاتِيَةٍ عتت عليهم بغير رحمة، ولا بركة، الشيء العاتي هو الخارج عن الطاعة، فبعضهم وجه ذلك إلى كونها قد عتت عليهم يعني لم يستطيعوا التحفظ منها، ولا الالتجاء إلى ما يتحصنون به، فهي عتت عليهم ما استطاعوا الاحتراز، والنجاة منها، وبعضهم وجه ذلك إلى كونها قد عتت على الخزنة من الملائكة - خزنة الريح -، وهذا منقول عن جمع من السلف - رحمهم الله -.
يقول: عَاتِيَةٍ قال علي وغيره: "عتت على الخزنة فخرجت بغير حساب"، وهذا هو الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله - لكن مثل هذا يحتاج إلى دليل، هذا من الأمور الغيبية، عتت على الخزنة الملائكة الموكلين بالريح، لكنها عاتية قوية، شديدة العصوف، والهبوب؛ لا يستطيعون ردها، ولا الاحتراز عنها باعتبار أصل المعنى "عتا" إذا كان خرج عن الطاعة، يعني أنه خرجت هذه الريح كما يقال عن السيطرة، وما أهون الخلق على الله، وما أضعف هؤلاء إذا عصوا أمره، فهؤلاء العتاة "عاد" الذين أعطاهم هذه القامات الممتدة، والأجسام القوية حتى صاروا بهذه المثابة؛ لما أهلكهم الله كأنهم أعجاز النخل، يعني أصول النخل التي ليس فيها العُسُب، أجسام ممتدة، طويلة ضخمة، هلكى صرعى، وقد قالوا قبل ذلك: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [سورة فصلت:15]، والله قد زادهم في الخلق بسطة، فكانوا بهذه المثابة، ما احتاجوا إلا هذا الهواء، فلما صار عاصفًا أهلكهم الله به، والذين قبلهم أهلكهم الله بالصوت، صيحة صاح بها الملك فماتوا، وهلكوا لم يحتملوا ذلك، وقوم نوح قبلهم أهلكهم الله بهذا الماء، فهذه ثلاثة أشياء أهلك بها هؤلاء الأمم المكذبة: الصوت، والماء، والهواء، ما احتاجوا إلى أكثر من هذا، صوت قوي يكفي لإهلاكهم، وإبادتهم، أو هذه الريح اللطيفة يشتد هبوبها، ثم بعد ذلك يكونون خبرًا بعد عين، أو هذا الماء حينما يحصل له اندفاع قوي فيتفجر من كل ناحية؛ فإنه يدمر كل شيء أمامه كما هو مشاهد، ففي هذا العصر أصبحت هذه الأشياء تُصور، ويراها الناس، هذا الماء يحطم كل ما في طريقه من المدن، وما فيها - والله المستعان -.