في قوله - تبارك وتعالى -: سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ قال: أي سلطها عليهم، هذا هو الذي أيضًا فسرها به بعض السلف كمقاتل، ولفظ التسخير هنا فسره بالتسليط، وبعضهم فسر ذلك بالإرسال، أرسلها عليهم، وبعض أصحاب المعاني الذين ينظرون إلى اللفظ مثل الزجاج قال: سخرها عليهم بمعنى أنه أقامها عليهم كما شاء، يعني نظر إلى لفظ التسخير أنه استعمال الشيء بالاقتدار، التصرف به، فهذا التسخير من الله هو الذي يملك هذه الريح، وهو الذي يرسلها عذابًا على من يشاء، ويرسلها رحمة، فسلطها عليهم هذه المدة التي ذكرها هذا معنى سخرها عليهم، وهذه الأقوال متقاربة يعني قول من قال: إنه أرسلها، أو هنا يعني أنه سلطها، كل ذلك يرجع إلى شيء واحد - والله تعالى أعلم -.
سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا يقول: كوامل، متتابعات، مشائيم، لاحظ هنا ذكر في تفسير الحسوم ثلاثة أشياء: أنها كاملة لا نقص فيها، ومتتابعة، وأنها مشائيم، ثم ذكر قول هؤلاء من السلف: إنها متتابعات، وهذا الذي ذهب إليه ابن جرير، قال: لإجماع الحجة، والإجماع عند ابن جرير هو قول أكثر المفسرين، يعني يطلق الإجماع على قول الجمهور، يقول: لا نستجيز مخالفته لإجماع الحجة مع أنه ينقل الخلاف فيه، فهنا أكثر أهل العلم يقولون: متتابعات، لكن هنا عن عكرمة، والربيع: مشائيم، كقوله: فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ، الآن ابن كثير لما عرض أقوال السلف انظروا إلى المعنى الذي فسرها هو به كوامل متتابعات مشائيم، فإن الحسوم يأتي بمعنى التتابع، الشيء الذي يتتابع أوله، وآخره، أو آخره مع أوله بانتظام من غير انقطاع يقال له ذلك، هذا في أصل هذه المادة في كلام العرب، فهذا المعنى الذي هو التتابع صحيح، وهو الذي فسره به الجمهور، مع أن بعضهم يقول: إنها حسوم بمعنى تحسمهم أي تفنيهم كما يقوله الزجاج: "حسومًا" أنها حاسمة لهم تفنيهم، وتذهبهم، وتهلكهم، وقريب من هذا قول من قال: إنها مأخوذة من قولك: حسمت الشيء؛ يعني إذا قطعته، وفصلته عن غيره، وأن الحسم هو الاستئصال، وأن السيف قيل له: حُسام؛ لأنه يقطع الخصم، ويحسمه، وينهي العدو، يحسم عداوته وما يريد أن يصل إليه بهذه العداوة، يعني أنها حسمتهم أي أذهبتهم، هذا - مثل قول الزجاج - قال به المبرد من أصحاب المعاني، فذهبوا بها إلى هذا من المعنى، الأولون قالوا: متتابعات وهو قول عامة أهل العلم، وأصحاب المعاني قالوا: إنها تحسمهم، تقول: حسمت الجرح، يعني قطعت الدم بما يكون ذلك به من نوع معالجة بشيء يوضع عليه مما يحرق أو غير ذلك من خياطة، ونحوها، فينقطع الدم، جعلوها قاطعة لهؤلاء، ومُذهبة لهم، ومفنية، وهذا القول الذي ذهب إليه أصحاب المعاني قد سُبقوا إليه، يعني ابن زيد من التابعين فسر "حسومًا" بأنها حسمتهم لم تُبق منهم أحدًا، قطعت دابرهم، فهذا منقول عن السلف، مع أنه جاء عن ابن زيد - أيضا - أنها حَسمت الأيامَ والليالي حتى استوفتها، ولهم كلام كثير في هذا لكن مرجع ذلك إلى الإسرائيليات، متى بدأت؟ ومتى انتهت؟ لكن هنا حسمت الأيام، والليالي: أنها بدأت من أول يوم من طلوع الشمس، وانتهت بغروب الشمس من آخر يوم.
وأما قول من قال: إن ذلك بمعنى الشؤم أن "حسومًا" بمعنى مشئومة فهذا أيضًا قال به جماعة كالليث، لكن يمكن أن يُرجع هذا إلى ما ذُكر قبل من أنها قطعت الخير عنهم، يعني يرجع إلى معنى القطع لكنه قطع الخير، وقع بهم الشرّ، حَسمت الخيرَ عن هؤلاء كما قال الله : فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ فسروا الحسوم بهذا، ولا بأس إذا كان ذلك على سبيل الإخبار لا سب الدهر، يعني وصف اليوم، أو الليلة، أو الساعة، أو السنة؛ بأن ذلك اليوم نحس أي أنه يوم عصيب، وأنها ساعة عصيبة؛ هذا لا إشكال فيه على سبيل الخبر، فالله هنا أخبر عن هذه الأيام، والليالي؛ بأنها نحسات، ولوط ﷺ لما جاءه قومه يهرعون إليه قال: هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ [سورة هود:77] فلا بأس بهذا على سبيل الإخبار، والوصف، أما إذا قيل ذلك على سبيل سب الدهر؛ فهذا لا يجوز، هذا الفرق بين المقامين، الفرق بين الإخبار، وبين سب الدهر.
هنا "حسومًا" جاءت منصوبة باعتبار أنها نصبت على الحال أي ذات حسوم، مع أنه يحتمل أن تكون منصوبة على المصدر بفعل مقدر: "سبع ليال وثمانية أيام حسومًا" يعني تحسمهم حسومًا - والله أعلم -.
وابن كثير - رحمه الله - حاول أن يجمع بعض هذه المعاني التي قيلت في تفسير "حسومًا"، قال: ويقال: إنها التي تسميها الناس الأعجاز، وكأن الناس أخذوا ذلك من قوله تعالى: فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ هذا احتمال، وليس بشيء ثابت أن الأيام التي يقال لها: الأعجاز بناء على ما ذكره الله "كأنهم أعجاز نخل خاوية".
فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى الخطاب هنا "ترى" لكل من يصلح له على تقدير لو أنه كان موجودًا، وحاضرًا؛ حينها لرأى ذلك فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى - نسأل الله العافية - صرعى يعني موتى، كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ أعجاز النخل يعني أصول النخل، هل رأيتم أصول النخل الجذوع حينما تكون ملقاة هكذا من غير عُسُب؟ أعني الجذع نفسه، هؤلاء في طولهم، وضخامتهم؛ بهذه المثابة، وصفهم الله بهذا كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ لضخامتهم، فما أغنت عنهم تلك القوة، وما دفعت عنهم بأس الله - تبارك وتعالى -.
هنا قوله: خَاوِيَةٍ عن ابن عباس: "خربة"، وقال غيره: "بالية"؛ المعنى واحد، خربة، وبالية كل ذلك يرجع إلى معنى واحد، خَاوِيَةٍ يعني أنها يابسة ميتة، فهؤلاء قد فارقت أرواحهم أجسادهم؛ فصاروا بمثابة النخل التي قد صارت بالية، ويقول هنا: النبي ﷺ قال: نصرت بالصَّبا، وأهلكت عاد بالدَّبور، الصبا هي الريح التي تهب من المشرق، والدبور هي الريح التي تهب من الغرب، والتي نُصر بها النبي ﷺ يوم الأحزاب (الصبا)، وأهلكت عاد بالدبور، فهذه رياح يصرفها الله ، سخرها عليهم فتكون نصرًا لأهل الإيمان، تهب من جهة وناحية كالمشرق، وتكون عذابًا على أقوام، يصرفها الله كما شاء في العذاب، والرحمة، وتكون لهؤلاء رحمة، وعلى هؤلاء عذابًا.
- رواه البخاري، أبواب الاستسقاء، باب قول النبي ﷺ: نصرت بالصبا، برقم (1035)، ومسلم، كتاب صلاة الاستسقاء، باب في ريح الصبا والدبور، برقم (900).