"فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ [الأعراف: 133] رُوي أنه كان مطرًا شديدًا دائمًا مع فيض النيل، حتى هدم بيوتهم، وكادوا يهلكون، وامتنعوا من الزراعة، وقيل: هو الطاعون".
قال: "فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ [الأعراف: 133] روي: أنه كان مطرًا شديدًا دائمًا" هذا مروي عن ابن عباس - ا -.
قال: "مع فيض النيل" وذهب أبو جعفر ابن جرير - رحمه الله - إلى أنه أمرٌ من الله، طاف بهم فالطوفان مما يطوف بالناس، وجوَّز أن يكون ذلك بمعنى: المطر الشديد، أو الموت الذريع، وهما روايتان عن ابن عباس - ا - وجمع بينهما مجاهد، فقال: إنه الماء الكثير، وأيضًا الموت الكثير.
وعلى كل حال، فالطوفان يُطلَق على كل حادثةٍ محيطة بالإنسان، لكن صار متعارفًا في عُرف الاستعمال الغالب: بالماء الكثير، كما، وقع لقومِ نوح - عليه الصلاة، والسلام -.
يقول: "فدخل بيوتهم، وأتلف زروعهم" وبهذا المعنى الأخير قال جماعة: كقتادة، وسعيد بن جبير، والسُدِّي واختاره من المعاصرين: الطاهر بن عاشور والشيخ عبد الرحمن السعدي والشيخ محمد الأمين الشنقيطي ونسبه إلى الجمهور من المفسرين، يعني أرسل الله عليهم الطوفان، يعني الماء الكثير، سواء كان بمطرٍ كثير متتابع، مع فيض النيل مثلاً؛ وذلك باعتبار أنه المتبادِر عند الإطلاق، وإلا فالطوفان ما يطوف بالإنسان، أو ما يطوف بالناس، سواء كان من قبيل الماء الكثير المتناهي في الكثرة، الذي يُغرِق، ويُتلِف، أو كان ذلك باعتبار الطواعين، أو الأوبئة العامة، ونحو ذلك، لكن هذا هو المتبادر، وهو الذي جاء في القرآن، والقرآن يُفسِّر بعضه بعضًا، وقد جاء في ذكر خبر قوم نوح: فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ [العنكبوت: 14] ولا شك أن الذي وقع لقوم نوح هو الماء الكثير، فكان الماء منهمرًا من السماء، وتفجرت الأرض عيونًا، فالتقى الماء النازل من السماء، مع النابع من الأرض، فأغرق من عليها، ولم يبق إلا من في السفينة.
"قوله تعالى: وَالْجَرادَ [الأعراف: 133] هو المعروف، أكل زروعهم، وثمارهم، حتى أكل ثيابهم، وأبوابهم، وسقف بيوتهم".
ومعروف أن الجراد يأكل كل شيء، بلا استثناء، كل شيء، لا يُبقي، ولا يذر.
"قوله تعالى: وَالْقُمَّلَ [الأعراف: 133] قيل: هي صغار الجراد، وقيل: البراغيث، وقيل: السوس، وقُرئ: القَمل بفتح القاف، والتخفيف، فهي على هذا القمل المعروف، وكانت تتعلق بلحومهم، وشعورهم".
يقول: "وَالْقُمَّلَ [الأعراف: 133] قيل: هي صغار الجراد" يعني الذي لا أجنحة له، وهذا مروي عن جماعة من السلف: كابن عباس - ا - والسدِّي، وقتادة، ومجاهد، وسعيد بن جبير في رواية، وعطاء الخراساني: أنه صغار الجراد الذي لا أجنحة له، ويسميه العامة: خيفان، وهذا الجراد الذي لا أجنحة له أعظم ضررًا، وأكثر نقمةً من الجراد الكبير، الذي له أجنحة؛ وذلك أنهم كانوا إذا وقع الجراد قام الجميع، ونهضوا، يضربون بالطبول، من أجل تنفير الجراد عن زروعهم، وأرضهم، فيقرعون بالمقارع، ونحو ذلك، ويتحرك الجميع، الصغار، والكبار لهذا الشأن.
لكن هذا الجراد الصغير الذي لا أجنحة له، لا يطير، يسمونه الدبى، فهو يلتهم كل شيء، ولا ينتقل، وهو من الكثرة بحيث إذا نزل يحجب الشمس من كثرته، فينزل على الأشجار، ونحو ذلك، فإذا نزل مثلاً في الليل، فإذا أصبحوا وجدوا النخيل على سبيل المثال هذه التي لا يتحات ورقها يجدونها عُسبًا بلا جريد، فهكذا يفعل الجراد، فهو يلتهم كل شيء، ويفتك بكل شيء، فيُنفِّرونه مباشرةً إذا علموا به، لكن يبقى هذا الدبى لا يطير، فهو يمشي، ويأكل طول الوقت، والجراد لا يتوقف عن الأكل، فهذا القول الأول: وهو أن القُمَّل: صغار الجراد.
"وقيل: البراغيث" وهذا مروي عن ابن زيد والبراغيث معلوم أنها تُؤذي، وتكون سببًا لنقل بعض الأمراض.
"وقيل: السوس" يعني الذي يقع في الحنطة مثلاً، وهو رواية عن ابن عباس - ا - وهذا كأنه بمعنى قول من قال: دواب سود صغار مثل السوس، وهو الذي يقع في الحنطة، والأرز، ويسميه العامة الآن: قُمِّيلة، فتفتت هذه الحبوب، وأهل البادية كانوا لا يعرفون الأرز في هذه الأرض سابقًا، بينما هو في الشرق في الهند، وما وراءه من البلاد الشرقية، فأول ما جاء الأرز، وكان الناس يأكلون الحنطة، فكان أهل البادية يأنفون منه، ويُسمونه قملان، ويقصدون بذلك أنه فيه هذه الدواب الصغيرة السوداء، يعني هي أصغر من الذر.
فبعضهم يقول: هي دواب سود، صغار، كما جاء في رواية عن سعيد بن جبير وجاء ذلك عن الحسن فهذا مثل قول من قال: بأنه السوس، الذي يقع في الحنطة نفسه، لكن هذا وصفها بأنها دواب سود صغار، فهو نفس المعنى، وليسا بقولينِ، فهذا من اختلاف التنوع.
لكن هذا يختلف عن قول من قال: إنها الدبى، أو أنها البراغيث.
وبعضهم يقول: هي القُراد، فالقردان معروفة، وهي نوع من الحشرات تشبه البراغيث، تكون في الأرض، فتكون الأرض أحيانًا كثيرة القراد، والذي جاء في قصيدة كعب بن مالك :
يَـمْشي الـقُرادُ عَـليْها ثُـمَّ يُزْلِقُهُ |
مِـنْـها لِـبانٌ وأقْـرابٌ زَهـالِيلُ. |
فالقراد يكون في الدواب - البهائم - ويكون غالبًا في مراقها، يعني في مسافط البهيمة، وناحية ملتقى اليد مع الجنب، يعني ناحية الإبط، والفخذ مع البطن، وأيضًا في باطن الإلية، في هذه المواضع الرقيقة، التي لا تستطيع أيضًا البهيمة أن تتوصل إليها، البهيمة تحك جسمها، لكن لا تستطيع أن تصل إلى هذه الأماكن، فتعيش فيها هذه على دمها، كما هو معروف، حتى الطيور، توجد فيها حشرات صغيرة قد تُرى بالعين، وقد لا تُرى بالعين المجردة أحيانًا حسب حجم الطائر، وحسب الحشرات التي فيه، حتى الدجاج، وغيره، لكن في الدجاج أين يقع؟ هي تحتك، تتنظف، وفي الطيور عمومًا تقع عند المنقار، في هذه الأماكن، بحيث لا يستطيع الطائر أن يصل إليها، وقد تتكاثر في جسمه كله.
المقصود أن القردان هذه معروفة في البهائم، وفي الغنم، والكبير يكون في الإبل، ويسمونه الحلمة، على هيئة الهيل، يميل إلى اللون الأخضر، هذه الحلمة تكون بقدر البنان من الخنصر، تقريبًا، أو أصغر قليلاً، يعني أكبر من الهيل، ومنتفخة، ومليئة بالدم، وتميل إلى اللون الأخضر، وهذه تكون في الإبل.
فهذا قول من قال: بأنها القردان، وجوَّز بعض أهل العلم كالنحَّاس أن تكون جميعًا أرسلت إليهم؛ لأن هذه كلها يقال لها: قُمَّل، فيمكن أن تكون أرسلت جميعًا عليهم.
ويمكن أن يُقَال: بأن كل ذلك جائز، بمعنى أنه يمكن أن يكون المراد به السوس، أو الدبى، أو البراغيث، أو غير ذلك مما يصدق عليه هذا اللفظ؛ لأنه ليس عندنا دليل على تحديد واحد منها، فإذا كان ذلك يُقَال له: قمل، وهؤلاء الذين فسروا، هم عصر الاحتجاج من العلماء من الصحابة، والتابعين فيمكن أن يكون المراد هذا، أو هذا، المقصود أن الله أرسل عليهم شيئًا من الدواب، ممن يتأذون به، وبعضهم يقول: صغار الذباب، وهو أكثر أذى من الكبار، يكاد يعلق به الإنسان.
وهنا يقول: "وقرئ القَمل، بفتح القاف، والتخفيف" هذا مروي عن الحسن البصري، لكنها قراءة غير متواترة.
يقول: "فهي على هذا القمل المعروف، وكانت تتعلق بلحومهم، وشعورهم" وهذا قال به عطاء - رحمه الله -.
وهذا، ولا شك أنه إذا كثر يُؤذي، كما قال النبي ﷺ لكعب بن عجرة عند ما رأى القمل يتناثر على، وجهه: ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى - أو ما كنت أرى الجهد بلغ بك ما أرى - تجد شاة؟ إلخ.
"قوله تعالى: وَالضَّفادِعَ [الأعراف: 133] هي المعروفة، كثرت عندهم حتى امتلأت بها فرشهم، وأوانيهم، وإذا تكلم أحدهم وثب الضفدع إلى فمه.
قوله تعالى: وَالدَّمَ [الأعراف: 133] صارت مياههم دمًا، فكان يستقي من البئر القبطي، والإسرائيلي في إناء واحد، فيخرج ما يلي القبطي دمًا، وما يلي الإسرائيلي ماءً".
هذا قول الجمهور: أن المقصود بالدم أن مياههم تحولت إلى دم، فإذا أراد أن يستقي، أو يشرب أحد من القبط صار دمًا، حتى ذكروا مرويات، وأخبار إسرائيلية، فقالوا: إنهم لم يجدوا ماء، فأصابهم عطش شديد، حتى أنه إذا استقى القبطي، والإسرائيلي يكون مما يلي القبطي الدم، وما يلي الإسرائيلي الماء، حتى زعموا أن المرأة، أو الرجل ربما أراد أن يشرب فلا يجد شيئًا، ولربما طلب من الإسرائيلي أن يمج الماء في فيه، ولا شك أنه إذا تحول الماء إلى دم، فهذا سيورثهم عطشًا، وشدة.
وجاء عن ابن زيد أن المقصود بالدم هنا الرُعاف فصار يكثر ذلك فيهم، لكن المشهور أن مياههم تحولت إلى دم، والله على كل شيءٍ قدير.