يخبر تعالى أنه لما أنظر إبليس إلى يوم يبعثون واستوثق إبليس بذلك أخذ في المعاندة والتمرد فقال: فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الأعراف:16] أي: كما أغويتني.
قال ابن عباس - ا - : كما أضللتني، وقال غيره: كما أهلكتني لأقعدن لعبادك - الذين تخلقهم من ذرية هذا الذي أبعدتني بسببه - على صراطك المستقيم أي: طريق الحق وسبيل النجاة، لأضلنهم عنها لئلا يعبدوك ولا يوحدوك بسبب إضلالك إياي.
قوله - تبارك وتعالى - عن قول إبليس: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الأعراف:16] ذكر هنا قول ابن عباس : كما أضللتني، والقول الآخر: كما أهلكتني، والمعنى في هذا يرجع إلى شيء واحد؛ فإن الإغواء بمعنى الإضلال، ومن أضله الله فقد أهلكه، وهذا هو عين الهلكة والخسار كما هو معلوم، فهذا كله من اختلاف التنوع، ومثل هذا ظاهر من هذه اللفظة والله تعالى أعلم، فالإغواء هو الإضلال، ولا حاجة للتكلف في حمله على المحامل البعيدة، فالله يضلُّ من يشاء ويهدي من يشاء فكل ذلك بيده وراجع إلى مشيئته، يضل من أضله بعلم وحكمة ويهدي من هداه بعلم وحكمة، فهو يحكم لا معقب لحكمه، وهذا هو الواجب اعتقاده وهو الذي عليه أهل السنة والجماعة.
قوله: فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي [سورة الأعراف:16] يمكن أن تكون الباء هنا للسببية، يعني بسبب إغوائك لي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الأعراف:16].
روى الإمام أحمد عن سبرة بن أبي الفاكه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن الشيطان قعد لابن آدم بطرقه، فقعد له بطريق الإسلام، فقال: أتسلم وتذر دينك ودين آبائك؟، قال: فعصاه وأسلم، قال: وقعد له بطريق الهجرة، فقال: أتهاجر وتدع أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كالفرس في الطِّوَل؟، فعصاه وهاجر[1]
قوله: كالفرس في الطوَل هذا من كلام إبليس، معناه أنه يقول له: كيف تهاجر وتدع أرضك وسماءك، وإنما المهاجر كالفرس في الطول؟، فهو يثبطه عن الهجرة.
والطِّوَل هو الحبل الذي يربط طرفه في الوتد والطرف الآخر بيد الفرس، فيجول هذا الفرس في حدود هذا الحبل – يجول في طوله - فلا يتعدى هذا النطاق، فالإنسان المهاجر يكون غريباً في البلد الذي هاجر إليه ويكون تحركه وتقلبه فيها قليلاًَ ولا يكون كأهلها الذين ينطلقون ويتصرفون كيف شاءوا؛ لأنه غريب وعلاقاته بالناس قليلة ومحدودة، ومعارفه قليلة وليس عنده من القرابات والعشيرة والتجارات وما أشبه ذلك مما يكون لأهل ذلك المحل، فالغريب يبقى كأنه يعيش في الظل، ولذلك فالشيطان يقول له: كيف تترك بلدك وتذهب إلى بلد أنت غريب فيه لا تتحرك إلا بنطاق محدود وربما تكون في بيتك فقط لا يعرفك أحد ولا قرابة لك ولا عشيرة ولا قبيلة؟.
- سيأتي تخريجه عند تمامه.
- أخرجه النسائي في كتاب الجهاد - باب ما لمن أسلم وهاجر وجاهد (3134) (ج 6 / ص 21) وأحمد (16000) (ج 3 / ص 483) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (1652).