الثلاثاء 01 / ذو القعدة / 1446 - 29 / أبريل 2025
قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِى لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَٰطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ۝ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [سورة الأعراف:16-17].
يخبر تعالى أنه لما أنظر إبليس إلى يوم يبعثون واستوثق إبليس بذلك أخذ في المعاندة والتمرد فقال: فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الأعراف:16] أي: كما أغويتني.
قال ابن عباس - ا - : كما أضللتني، وقال غيره: كما أهلكتني لأقعدن لعبادك - الذين تخلقهم من ذرية هذا الذي أبعدتني بسببه - على صراطك المستقيم أي: طريق الحق وسبيل النجاة، لأضلنهم عنها لئلا يعبدوك ولا يوحدوك بسبب إضلالك إياي.

قوله - تبارك وتعالى - عن قول إبليس: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الأعراف:16] ذكر هنا قول ابن عباس : كما أضللتني، والقول الآخر: كما أهلكتني، والمعنى في هذا يرجع إلى شيء واحد؛ فإن الإغواء بمعنى الإضلال، ومن أضله الله فقد أهلكه، وهذا هو عين الهلكة والخسار كما هو معلوم، فهذا كله من اختلاف التنوع، ومثل هذا ظاهر من هذه اللفظة والله تعالى أعلم، فالإغواء هو الإضلال، ولا حاجة للتكلف في حمله على المحامل البعيدة، فالله يضلُّ من يشاء ويهدي من يشاء فكل ذلك بيده وراجع إلى مشيئته، يضل من أضله بعلم وحكمة ويهدي من هداه بعلم وحكمة، فهو يحكم لا معقب لحكمه، وهذا هو الواجب اعتقاده وهو الذي عليه أهل السنة والجماعة.
قوله: فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي [سورة الأعراف:16] يمكن أن تكون الباء هنا للسببية، يعني بسبب إغوائك لي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الأعراف:16].
قال مجاهد: صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ يعني الحق.
روى الإمام أحمد عن سبرة بن أبي الفاكه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن الشيطان قعد لابن آدم بطرقه، فقعد له بطريق الإسلام، فقال: أتسلم وتذر دينك ودين آبائك؟، قال: فعصاه وأسلم، قال: وقعد له بطريق الهجرة، فقال: أتهاجر وتدع أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كالفرس في الطِّوَل؟، فعصاه وهاجر[1].

قوله: كالفرس في الطوَل هذا من كلام إبليس، معناه أنه يقول له: كيف تهاجر وتدع أرضك وسماءك، وإنما المهاجر كالفرس في الطول؟، فهو يثبطه عن الهجرة.
والطِّوَل هو الحبل الذي يربط طرفه في الوتد والطرف الآخر بيد الفرس، فيجول هذا الفرس في حدود هذا الحبل – يجول في طوله - فلا يتعدى هذا النطاق، فالإنسان المهاجر يكون غريباً في البلد الذي هاجر إليه ويكون تحركه وتقلبه فيها قليلاًَ ولا يكون كأهلها الذين ينطلقون ويتصرفون كيف شاءوا؛ لأنه غريب وعلاقاته بالناس قليلة ومحدودة، ومعارفه قليلة وليس عنده من القرابات والعشيرة والتجارات وما أشبه ذلك مما يكون لأهل ذلك المحل، فالغريب يبقى كأنه يعيش في الظل، ولذلك فالشيطان يقول له: كيف تترك بلدك وتذهب إلى بلد أنت غريب فيه لا تتحرك إلا بنطاق محدود وربما تكون في بيتك فقط لا يعرفك أحد ولا قرابة لك ولا عشيرة ولا قبيلة؟.
​​​​​ثم قعد له بطريق الجهاد وهو جهاد النفس والمال، فقال: تقاتل فتقتل فتنكَح المرأة ويقسم المال؟، قال: فعصاه وجاهد وقال رسول الله ﷺ: فمن فعل ذلك منهم فمات كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، وإن قتل كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، وإن غرق كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، أو وَقَصته دابة كان حقاً على الله أن يدخله الجنة[2].
  1. سيأتي تخريجه عند تمامه.
  2. أخرجه النسائي في كتاب الجهاد - باب ما لمن أسلم وهاجر وجاهد (3134) (ج 6 / ص 21) وأحمد (16000) (ج 3 / ص 483) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (1652).

مرات الإستماع: 0

"قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي الباء للتعليل، وهي تتعلق بفعل قسم محذوف تقديره: أقسم بالله بسبب إغوائك لي لأغوين بني آدم، وما مصدرية، وقيل: استفهامية، ويبطله ثبوت الألف في "ما" مع حرف الجر."

الباء للتعليل، يقول: تتعلق بقسم محذوف يعني بسبب إغوائك لي فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي بسبب إغوائك لي لأغوين بني آدم، ويمكن أن تكون الباء هذه للقسم، يعني: فأقسم بإغوائك لأقعدن لهم فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي أقسم بإغوائك فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي فما مصدرية تؤول بما بعدها بمصدر، تؤول مع الفعل بعدها بما أغويتني، بإغوائك، أقسم بإغوائك، وهي تتعلق بفعل قسم محذوف تقديره أقسم بسبب إغوائك.

الكلام ليس في الفاء، وإنما الكلام في الباء عدلوها كل النسخ كذلك، هذا غلط فبما أغويتني الفاء تأتي للتعليل لكن هنا الكلام للباء، يقول تتعلق بفعل قسم محذوف تقديره أقسم بالله بسبب لما ذكر سبب هذا واضح أنه هو التعليل يقصد الباء، ولا يقصد الفاء، الباء، وليس الفاء، وكما سبق أنه يمكن أن تكون الباء للقسم، وليست للتعليل فبإغوائك، أقسم بإغوائك لأقعدن.

يقول: "بسبب إغوائك لي لأغوين بني آدم" بما أغويتني يعني أضللتني، كما جاء عن ابن عباس - ا -[1] والغي هو جهل من اعتقاد فاسد، وهو يقابل الرشد، وما مصدرية بما أغويتني تؤول بما بعدها بمصدر، وقيل: استفهامية، ويبطله ثبوت الألف في ما مع حرف الجر فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي يعني: لو كانت استفهامية تحذف الألف، فيقال: فبم، لم فعلت ذلك بدون ألف، لم، فهذا وجه صحيح في بيان بطلان بعض الأقوال أنها خطأ في اللغة.

هنا هذا مثال على بعض المعاني، والتفسيرات التي مبناها على غلط لغوي عند المفسر يعني ترد بهذه الطريقة هذه من طرق الترجيح، طرق الترجيح كثيرة جدًا غير قواعد الترجيح، طرق الترجيح في التفسير، فمنها هذا النوع، أن يكون أحد الأقوال قد بني على معنى غير صحيح في اللغة، فلو كانت "ما" هذه استفهامية، ففيها ألف ما بما أغويتني، يعني: بماذا أغويتني، هذا يُفسد المعنى هذا بالإضافة إلى وجود الألف فبما، لو كانت استفهامية لقال فبم أغويتني.

"قوله تعالى: صِرَاطَكَ يريد: طريق الهدى، والخير، وهو منصوب على الظرفية."

وهو منصوب على الظرفية، أو لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ الصراط صار ظرفًا للقعود، وموضعًا له، أو منصوب على نزع الخافض حرف الجر على، والتقدير: لأقعدن لهم على صراط، لو كانت على موجودة لقال على صراطك، فلما نزع حرف الجر انتصب الفعل، فلأقعدن لهم صراطك، أو على أنه مفعول به لفعل أقعدن، على تضمين الفعل قعد معنى فعل متعدٍ؛ لأن قعد هذا فعل قاصر، يكون التقدير: لألزمن صراطك المستقيم بقعودي عليه لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ فصراطك هنا منصوب يحتمل هذه الأوجه من الإعراب في نصبه، لأقعدن لهم صراطك، والمقصود بالصراط هنا طريق الهدى، والخير، يعني هو الإسلام، وشرائعه.

ويدل على هذا الحديث المشهور: إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه، فقعد له بطريق الإسلام، فقال: تسلم، وتذر دينك، ودين آبائك، وآباء أبيك، فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة، فقال: تهاجر، وتدع أرضك، وسماءك، وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول، فعصاه فهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد، فقال: تجاهد فهو جهد النفس، والمال، فتقاتل فتقتل، فتنكح المرأة، ويقسم المال، فعصاه فجاهد، فقال رسول الله ﷺ: فمن فعل ذلك كان حقا على الله أن يدخله الجنة، ومن قتل كان حقا على الله أن يدخله الجنة، وإن غرق كان حقا على الله أن يدخله الجنة، أو وقصته دابته كان حقا على الله أن يدخله الجنة[2] فالوقص كسر العنق، وقصته دابة، فهذا يفسر ما جاء في الآية: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ

  1. تفسير الطبري (12/332).
  2. أخرجه النسائي، كتاب الجهاد، ما لمن أسلم، وهاجر، وجاهد، رقم: (3134) وأحمد، رقم: (15958).