"
وَقَطَّعْناهُمُ [الأعراف: 160] أي: فرقناهم
أَسْباطًا السبط في بني إسرائيل كالقبيلة في العرب، وانتصابه على البدل من
اثْنَتَيْ عَشْرَةَ لا على التمييز، فإن تمييز اثنتي عشرة لا يكون إلا بمفرد، وقال الزمخشري: على التمييز

لأن كل قبيلة أسباطٌ لا سِبطٌ."
يقول: "الأسباط، السبط في بني إسرائيل كالقبيلة في العرب" والسبط معلومٌ أنه يقال لولد الولد، يعني صاروا اثنتي عشرة أمة، من اثني عشرة ولدًا، وهنا: وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا [الأعراف: 160] المقصود به القبائل، أو بمنزلة القبائل، كل سبط يرجع إلى أحد أولاد يعقوب - عليه الصلاة، والسلام -.
يقول: "وانتصابه أسباطًا على البدل من اثنتي عشرة لا على التمييز، فإن تمييز اثنتي عشرة لا يكون إلا بمفرد" وكذلك أيضًا لكون المعدود أسباطًا مذكرًا، فكان التركيب: اثني عشر، ويحتمل أن يكون بدل من التمييز بالـمُقدَّر، يعني ليس تمييز اثنتي عشرة، وإنما التمييز الـمُقدَّر اثنتي عشرة، يعني فرقة، أو أمة، لكن الأصل عدم التقدير.
"قوله تعالى: فَانْبَجَسَتْ [الأعراف: 160] أي: انفجرت، إلا أن الانبجاس أخف من الانفجار، وقال القزويني: الانبجاس أول الانفجار."
البجس: انشقاق في قِربة، أو حجر، أو أرض ينبع منها ماء، فهنا يقول: "أي انفجرت، إلا أن الانبجاس أخف من الانفجار" ونقل عن الغزنوي: أنه أول الانفجار، وفي سورة البقرة: فَانفَجَرَتْ [البقرة: 60] فهذا توجيه لهذا الموضع من المتشابه اللفظي، يعني لماذا قال هنا: فَانْبَجَسَتْ وهناك قال: فَانفَجَرَتْ؟ فيقولون: عُبِّر بالانبجاس باعتبار أنه أول الانفجار، ثم بعد ذلك اشتد، وقوي فعُبِّر عنه بالانفجار في سورة البقرة، فأصحاب المتشابه اللفظي يذكرون في ذلك أشياء، كأن يقولون: مثلاً أنه في سورة البقرة كان يعدد النعم عليهم، فكان اللائق ذكر الانفجار، وهنا يذكر مساوءهم، وما جازاهم به، وما عاقبهم، وما كان منهم من العنت مع نبي الله موسى - عليه الصلاة، والسلام - فقال: فَانْبَجَسَتْ [الأعراف: 160] - والله أعلم -.
"قوله تعالى: وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ [الأعراف: 160] وما بعده إلى قوله: بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ [الأعراف: 162] مذكور في البقرة."
الغمام مضى أنه سحاب أبيض، سُمي بذلك باعتبار أنه يغم السماء، أي يغطيها، فأصل الغم ستر الشيء، وهذا حينما كانوا في التيه، فكان يظللهم الغمام، من حر الشمس، وينزل عليهم المن، والسلوى، ومع ذلك عتو.
"تنبيه: وقع اختلاف في اللفظ بين هذا الموضع من هذه السورة، وبين سورة البقرة: كقوله: (انفجرت) و(انبجست) وقوله: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا [البقرة: 58] وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا [الأعراف: 161] وقوله: وَكُلُوا [الأعراف: 161] بالواو، وفَكُلُوا [البقرة: 58] بالفاء.
فقال الزمخشري: لا بأس باختلاف العبارتين إذا لم يكن هنالك تناقض
وعللها شيخنا الأستاذ أبو جعفر ابن الزبير في كتاب ملاك التأويل
وصاحب الدرة
بتعليلات منها: قوية، وضعيفة، فيها طول، فتركناها لطولها."
هذه التي يسمونها بالمتشابه اللفظي، وتوجيه المتشابه اللفظي؛ لماذا قال هنا كذا، وهناك كذا، ومثل هذا يعتني به مثل الغرناطي، في (ملاك التأويل) وهو مطبوع في مجلدين، وكذلك أيضًا الإسكافي في (درة التنزيل، وغرة التأويل) وهو مطبوع، وكذلك الكرماني في الكلام على المتشابه في (البرهان) فهؤلاء يعتنون بهذا الجانب، وكذلك أيضًا زكريا الأنصاري، وأصحاب التفسير البلاغي، كالطاهر بن عاشور، وكذلك أيضًا صاحب البحر المحيط أعني أبا حيَّان - رحمه الله - فيذكرون توجيهات لهذا، وما يذكره أحيانًا صاحب البحر المحيط نحو ذلك وجيهة، وقصيرة.
وأما ما يذكره هؤلاء أعني الغرناطي، والإسكافي، والكرماني، وزكريا الأنصاري، فهم أولاً: ينقل بعضهم عن بعض كثيرًا، الأمر الثاني: أنه يوجد في هذا الكتب تكلُّفات، وتطويل، بحيث أنه لا يكاد يتصور القارئ هذا التوجيه إلا بعناء، وصعوبة، وتحتاج كد الذهن معه حتى تصل إلى فهم ما يريد، فهذا تكلُّف، ولا حاجة إليه، لكن إن كانت أشياء قد تكون ظاهرة، وجميلة، ورائقة فلا بأس.
يعني مثلاً في قوله: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا [الكهف: 78] ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا [الكهف: 82] لماذا قال هنا: تَسْتَطِع وتَسْطِع؟ فهذا يقولون: بأن ذلك لما خفي عليه علمه ثقل عليه، فزيد فيه الحرف تَسْتَطِع فلما عرفه خفَّ ذلك عليه، فقال: ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع بعد ما عرف علة هذا، كأنه حِملٌ وضعه عن عاتقه، وهذا معروف أن الإنسان حينما يتحير في شيء يثقل عليه، فإذا عرف خفَّ ذلك عليه، فمثل هذا لا بأس.
وهكذا في مثل قول الخضر: فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا [الكهف: 82] فَأَرَادَ رَبُّكَ [الكهف: 82] يُوجه بأنه أضاف العيب إلى نفسه، أما التكميل، والتتميم، وبلوغ الأشد، وأخذ المال، والكنز، ونحو ذلك، فهذا أضافه إلى الله .
ومثله: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [الفتحة: 7] فهنا جاء بما لم يُسم فاعله غَيْرِ الْمَغْضُوبِ وَلَا الضَّالِّينَ أضاف ذلك إليهم، والهدى، والضلال من الله لكن صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفتحة: 7] فأضاف الإنعام إليه، فهذا لا إشكال، باعتبار أن ذلك من قبيل الأدب في العبارة، وهذا له نظائر، وهي لطيفة، وجميلة، وإن كان لا يُقطع بمثل هذه الملاحظ البلاغية.
لكن ما كان متكلفًا بصعوبة، ويبدأ أحيانًا يذكر الآيات قبلها، وتتحدث عن ماذا حتى يقال: لماذا عبَّر بهذه العبارة هنا، وفي الموضع الآخر؟ مما لا يخطر في البال، فهذا تكلُّف يُترك، ولا يُشتغل به.
فهذه الكتب التي أشرت إليها آنفًا فيها أشياء مفيدة، وفيها تكلُّفات كثيرة، فإذا رأيت التطويل في تأويل المتشابه، فأعلم أنه تكلُّف لا حاجة إليه.
ومما يذكرونه في فَانْبَجَسَتْ وفَانفَجَرَتْ هو ما أشرت إليه قبل قليل، فالانبجاس ابتداء الانفجار، والانفجار بعده، وغاية له، وبعضهم يقول: لما كان في سورة الأعراف طلب بني إسرائيل من موسى السقيا، قال: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ [الأعراف: 160] ولما كان في سورة البقرة طلب موسى من ربه، قال: وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ [البقرة: 60] فطلبهم ابتداء، وناسبه الابتداء: الانبجاس، فهم الذين طلبوا، وطلب موسى - عليه الصلاة، والسلام - هو غاية لطلبهم، فلما طلبوا منه سأل الله، وهو المذكور في البقرة، فناسب ذكر الانفجار الذي هو غاية الانبجاس، فهذا توجيه، ولا بأس به، وهو مما يُستملح، ومن مُلح العلم، وليس من صلبه، ولا يتوقف عليه المعنى، والتفسير - والله تعالى أعلم -.
وهكذا في قوله: كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة: 172] أسند الرزق إلى ضمير جمع العظمة للتأكيد تنبيهًا على ما يجب من شكره تعالى على ذلك كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وهكذا في قوله: وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [النحل: 118] قدّم المفعول لإفادة القصر، فهذا كله مما يذكره أصحاب التفسير البلاغي - والله أعلم -.
لكن كل ما كان متكلَّفًا من هذه التوجيهات البلاغية، سواء في المتشابه اللفظي، أو في غيره، فإنه ينبغي الإعراض عنه؛ لئلا يكون الإنسان قائلاً على الله، وعلى كتابه بلا علم، ولا سيما ما عُلِم أنه ورد مرة واحدة، كبعض قصص الأنبياء، والقصص المذكورة في القرآن التي تكرر ذكرها، فهذه حينما يُقارن لماذا قال هنا كذا؟ ولماذا قال هنا كذا؟ أحيانًا تكون نفس العبارة التي قالها النبي في مقامٍ واحد، فهذا باعتبار أن ذلك منقولٌ بالمعنى؛ لأنه كان بغير العربية، يعني مثل ما حصل من الكلام بين إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام - والملائكة - عليهم السلام - فهذا حصل مرة واحدة في موقف، وهي القصة المعروفة، حينما أرسلوا إلى قوم لوط لإهلاكهم، فأتوا على إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام - قبل ذلك، في الكلام الذي حصل، والبشارة التي حصلت، وما قالت امرأته، ونحو هذا، فهذا باعتبار أنه منقولٌ بالمعنى، فالتكلُّف أحيانًا لماذا قال هنا كذا؟ ولماذا قال هنا كذا؟ هي عبارة واحدة قيلت، لكن هذا منقولٌ بمعناه، والنقل لا شك أنه نقل كلام غير العربي إلى العربية، والعكس، لا بد أن يكون نقل بالمعنى، وليس بحروفه؛ ولهذا يتفاوت، فتارةً يذكر بعض ما يليق من التفاصيل بالقصة، والسياق الذي ذُكِرَ في السورة، وتارةً يذكر زيادةً، أو نحو ذلك في موضعٍ آخر يليق بالمقام - والله أعلم -.
وبعض هذه اللفتات جميلة جدًا، ولكن يرد عليها ما يشكل عليها، يقول ابن القيم - رحمه الله - مثلاً في قوله تعالى: فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ [الذاريات: 29] هذا يؤخذ منه أدب المرأة المسلمة في الحديث مع الرجال، فعبَّرت بعبارتين فقط، كل واحدة كافية لانتفاء الحمل عجوز فالعجوز لا تحمل، وعقيم فالعقيم لا تلد، لكن في الموضع الآخر قالت: قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ [هود: 72] فهذا كلام طويل، وهو نفس الموقف.