الثلاثاء 15 / ذو القعدة / 1446 - 13 / مايو 2025
وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ۙ ٱللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ۖ قَالُوا۟ مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله تعالى - عند تفسير قوله تعالى: وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ۝ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ۝ فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [سورة الأعراف: 164- 166].
يخبر تعالى عن أهل هذه القرية أنهم صاروا إلى ثلاث فرق، فرقة ارتكبت المحذور واحتالوا على اصطياد السمك يوم السبت، وفرقة نهت عن ذلك واعتزلتهم، وفرقة سكتت فلم تفعلْ ولم تنهَ ولكنها قالت للمنكِرة: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا، أي: لم تنهون هؤلاء وقد علمتم أنهم قد هلكوا واستحقوا العقوبة من الله؟ فلا فائدة في نهيكم إياهم، قالت لهم المنكِرة: مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ، أي: فيما أخذ علينا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ يقولون: ولعلهم لهذا الإنكار يتقون ما هم فيه ويتركونه، ويرجعون إلى الله تائبين، فإذا تابوا تاب الله عليهم ورحمهم، قال تعالى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ: أي فلما أبى الفاعلون قبول النصيحة، أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا : أي ارتكبوا المعصية بعذاب بئيس، فنصّ على نجاة الناهين وهلاك الظالمين وسكت عن الساكتين؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فهم لا يستحقون مدحاً فيمدحوا ولا ارتكبوا عظيماً فيذموا.
وعن عكرمة عن ابن عباس - ا - في الآية، قال: ما أدري أنجا الذين قالوا: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أم لا؟، قال: فلم أزل به حتى عرّفته أنهم قد نجوا، فكساني حلة.
وقوله تعالى: وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ، فيه دلالة بالمفهوم على أن الذين بقوا نجوا، وبئيس معناه في قول مجاهد: الشديد، وفي رواية أليم، وقال قتادة: موجع، والكل متقارب، والله أعلم.
وقوله: خَاسِئِينَ: أي ذليلين حقيرين مهانين.

فقوله - تبارك وتعالى - : وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا، المشهور الذي عليه عامة المفسرين هو ما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - : أنهم انقسموا إلى ثلاث طوائف، ومن أهل العلم من يقول بأن هؤلاء هم أهل المنكر، قالوا للذين نصحوهم وأنكروا عليهم: إذا كنتم تقولون: إن الله سيعذبنا فلما تتعبون أنفسكم، لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا، فأجابوهم: مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ فهذا القول وإن قال به بعض أهل العلم إلا أنه قول مرجوح، وظاهر القرآن يدل على خلافه؛ لأن الله قال: وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا فلو كان هذا قول الطائفة الثانية وأنهم انقسموا إلى فرقتين، لكان التعبير بغير هذا، والله تعالى أعلم.
ثم إنه قال: وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [سورة الأعراف: 174]، فلو كان هؤلاء يتحدثون عن أنفسهم حينما قالوا: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ لقال: ولعلكم ترجعون، وفي وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ، لقال: ولعلكم تتقون، ولكنه قال: وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ.
وقوله: قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ يقول الحافظ: أي فيما أخذ علينا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ هذا القول تضمن فائدة من فوائد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي أن الإنسان حينما يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فإن ذلك لانتفاع الناس الذين يأمرهم وينهاهم، وقد لا ينتفعون، ولكنه يلقي بالتبعة هو أيضاً ويقوم بما أوجب لله عليه، قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ فإنها لا تبرأ الذمة ولا يسلم الإنسان من التبعة إذا قصر، وتضمن حكماً وهو: أن الإنسان يأمر وينهى حتى لو كان لا يرجو انتفاع المأمور والمنهي، إعذاراً إلى الله ، وإقامة للحجة على الخلق، وإحياء لهذه الشعيرة، ودفعاً لاندراس العلم، وظهور الجهل، وإلف المنكر، وإبقاء لحيوية القلب تجاه المنكر، والقيام بالعبودية لله - تبارك وتعالى - في هذا المقام، والإنسان سيحاسب على تركه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ هو مأمور به لقول رسول الله ﷺ: من رأى منكم منكراً فليغيره بيده[1]، وأما قوله - تبارك وتعالى - : فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى [سورة الأعلى: 9]، فقد لا يكون حجة للقول بأنه إن لم يرجُ الانتفاع لا يجب عليه التذكير والأمر والنهي فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى من أهل العلم من يقول: إنه ذكر أشرف الأمرين؛ ليدل به على الآخر، أي: فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى وإن لم تنفع، اكتفى بأحد الأمرين ليدل على ما يقابله، فالراجح أن الإنسان يجب عليه أن يأمر وينهى وإن لم يرجُ انتفاع المأمور والمنهي.
وقوله: مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ هذه قراءة حفص عن عاصم بالنصب، وقرأه الباقون بالرفع مَعْذِرَةٌ إِلَى رَبِّكُمْ، فعلى قراءة النصب يكون "معذرةً" مصدراً، أي: فعلنا ذلك معذرةً، وعلى القراءة الأخرى قراءة الجمهور يكون على تقدير مبتدأ، يعني: موعظتنا معذرةٌ إلى الله.
  1. رواه مسلم برقم(49)، كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان وأن الإيمان يزيد وينقص وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان.

مرات الإستماع: 0

"قوله تعالى: وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً [الأعراف: 164] الآية.

افترقت بنو إسرائيل ثلاث فرق: فرقة عصت بالصيد يوم السبت، وفرقة نهت عن ذلك، واعتزلت، وفرقة سكتت، واعتزلت، فلم تنه، ولم تعص، وإن هذه الفرقة لما رأت مجاهرة الناهية، وطغيان العاصية قالوا للفرقة الناهية: لم تعظون قومًا يريد الله أن يهلكهم، أو يعذبهم، فقالت الناهية: ننهاهم معذرة إلى الله، ولعلهم يتقون، فهلكت الفرقة العاصية، ونجت الناهية، واختُلِفَ في الثالثة هل هلكت لسكوتها، أو نجت لاعتزالها، وتركها العصيان."

هو كما ذكر المؤلف - رحمه الله - وان الذين قالوا: لِمَ تَعِظُونَ هم من سكتوا؛ لأنهم قد أيسوا منهم، مع أن بعضهم قال بأن القائل ذلك: لِمَ تَعِظُونَ هم أهل الاعتداء، يعني بما أنكم تزعمون أن الله معذبنا فلم تعظوننا، لكن هذا بعيد، هذا غير صحيح.

يقول: فقالت الفرقة الناصحة: مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ والتقدير نصحنا، أو وعظنا معذرةً، يعني من أجل الإعذار إلى الله - تبارك، وتعالى - ولعلهم ينتفعون بذلك.

وذكر الاختلاف في نجاة الفرقة التي لم تأمر، ولم تنه، ولم تقع في المعصية، هل نجوا، أو هلكوا.

بعض أهل العلم قال: بأنهم نجوا، وهذا جاء عن ابن عباس - ا - وجاء عن عكرمة أن ابن عباس - ا - كان مترددًا متوقفًا في هذه الفرقة هل نجت، أو لا، وأنه ما زال به حتى تبين له أنهم قد نجوا[1].

وعلل ذلك الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله -[2] يعني أنهم نجوا لكونهم كرهوا فعلهم، وقام بفرض الكفاية غيرهم، يعني فرقة قامت بالأمر، والنهي، والإنكار، فتحقق فرض الكفاية، وهم لم يقعوا في نفس المعصية، فكيف يُعذَّبون معهم، لكن الله قال: أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ [الأعراف: 165] هنا هم ما نهوا، فيبقى هذا السؤال، هل نجوا، أو لا، لأن الذي خصه الله بالنجاة هم الذين كانوا ينهون عن السوء، وسكت عن هؤلاء الساكتين، فالذين قالوا: بأنهم نجوا قالوا سكت عنهم، نوه بالذين أنكروا، وذكر نجاتهم، وأن هؤلاء سكتوا فسكت عنهم، يعني ما استحقوا التنويه بذكر نجاتهم، وذكر عقوبة المعتدين - والله أعلم -.

ويبقى على كل حال كون أن هؤلاء قاموا بفرض الكفاية هذا يشكل عليه يعني ما ذكره الشيخ الأمين - رحمه الله - أنه إذا كان المنكر لا يزال فإنه لا يكفي إنكار البعض، فيجب متابعة الإنكار حتى يزول، يعني لا تبرأ الذمة، طالما أن المنكر قائم، هذا أمر، والأمر الثاني، وهو أن هؤلاء سكتوا لأنهم قد يئسوا من هدايتهم، والعلماء مختلفون، هل يجب الإنكار في حال اليأس، أو لا؟

هذه مسألة معروفة، فالذين يقولون لا يجب يحتجون بقوله تعالى مثلاً: فَذَكِّرْ إن نَفَعَتِ الذِّكْرَى [الأعلى: 9] مفهوم المخالفة إن لم تنفع فلا تذكر.

والذين يقولون يجب يقولون: أن هذا من باب الاكتفاء فَذَكِّرْ إن نَفَعَتِ الذِّكْرَى أي وإن لم تنفع، بأي اعتبار؟ باعتبار أنه ذكر أشرف الحالين لتدل على الأخرى، ذكر إن نفعت الذكرى، أو لم تنفع، وأن النصوص الواردة في الإنكار لم يرد فيها مثل هذا التفصيل، يعني أنه إن لم تنفع إن كان يائسًا فلا يجب عليه أن يأمر، بل يبقى هناك إبراء الذمة، وإقامة الحجة، وكذلك أيضًا إظهار الحكم الشرعي بحيث لا يندرس مع الوقت، ويظن الناس أن المنكر من المعروف إلى غير ذلك من المصالح الشرعية، فحتى محل اليأس فيجب الإنكار هذا هو الراجح مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ من أجل الإعذار إلى الله سيقوم بما يجب عليه يبرئ ذمته، فينجو من العذاب، ويبقى أيضًا الحق معلومًا، وظاهرًا لا خفاء فيه، ولا يلتبس بالباطل، فإذا سكت الناس فإنه لا يلبث أن ينشأ جيل على المنكر، ويعتقدون أنه من المعروف - والله المستعان -.

على كل حال ابن عباس - ا - فيما أشرت إليه من توقفه أولا في نجاتهم، ونحو هذا يقول: ما أدري أنجى الذين قالوا: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا [الأعراف: 164] أم لا؟ يقول عكرمة فلم أزل به حتى عرفته أنهم قد نجوا كساني حلة، يعني مكافأةً له. 

  1. تفسير ابن كثير (3/494).
  2. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (4/222).