يخبر تعالى عن أهل هذه القرية أنهم صاروا إلى ثلاث فرق، فرقة ارتكبت المحذور واحتالوا على اصطياد السمك يوم السبت، وفرقة نهت عن ذلك واعتزلتهم، وفرقة سكتت فلم تفعلْ ولم تنهَ ولكنها قالت للمنكِرة: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا، أي: لم تنهون هؤلاء وقد علمتم أنهم قد هلكوا واستحقوا العقوبة من الله؟ فلا فائدة في نهيكم إياهم، قالت لهم المنكِرة: مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ، أي: فيما أخذ علينا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ يقولون: ولعلهم لهذا الإنكار يتقون ما هم فيه ويتركونه، ويرجعون إلى الله تائبين، فإذا تابوا تاب الله عليهم ورحمهم، قال تعالى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ: أي فلما أبى الفاعلون قبول النصيحة، أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا : أي ارتكبوا المعصية بعذاب بئيس، فنصّ على نجاة الناهين وهلاك الظالمين وسكت عن الساكتين؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فهم لا يستحقون مدحاً فيمدحوا ولا ارتكبوا عظيماً فيذموا.
وعن عكرمة عن ابن عباس - ا - في الآية، قال: ما أدري أنجا الذين قالوا: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أم لا؟، قال: فلم أزل به حتى عرّفته أنهم قد نجوا، فكساني حلة.
وقوله تعالى: وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ، فيه دلالة بالمفهوم على أن الذين بقوا نجوا، وبئيس معناه في قول مجاهد: الشديد، وفي رواية أليم، وقال قتادة: موجع، والكل متقارب، والله أعلم.
وقوله: خَاسِئِينَ: أي ذليلين حقيرين مهانين.
فقوله - تبارك وتعالى - : وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا، المشهور الذي عليه عامة المفسرين هو ما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - : أنهم انقسموا إلى ثلاث طوائف، ومن أهل العلم من يقول بأن هؤلاء هم أهل المنكر، قالوا للذين نصحوهم وأنكروا عليهم: إذا كنتم تقولون: إن الله سيعذبنا فلما تتعبون أنفسكم، لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا، فأجابوهم: مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ فهذا القول وإن قال به بعض أهل العلم إلا أنه قول مرجوح، وظاهر القرآن يدل على خلافه؛ لأن الله قال: وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا فلو كان هذا قول الطائفة الثانية وأنهم انقسموا إلى فرقتين، لكان التعبير بغير هذا، والله تعالى أعلم.
ثم إنه قال: وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [سورة الأعراف: 174]، فلو كان هؤلاء يتحدثون عن أنفسهم حينما قالوا: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ لقال: ولعلكم ترجعون، وفي وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ، لقال: ولعلكم تتقون، ولكنه قال: وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ.
وقوله: قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ يقول الحافظ: أي فيما أخذ علينا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ هذا القول تضمن فائدة من فوائد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي أن الإنسان حينما يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فإن ذلك لانتفاع الناس الذين يأمرهم وينهاهم، وقد لا ينتفعون، ولكنه يلقي بالتبعة هو أيضاً ويقوم بما أوجب لله عليه، قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ فإنها لا تبرأ الذمة ولا يسلم الإنسان من التبعة إذا قصر، وتضمن حكماً وهو: أن الإنسان يأمر وينهى حتى لو كان لا يرجو انتفاع المأمور والمنهي، إعذاراً إلى الله ، وإقامة للحجة على الخلق، وإحياء لهذه الشعيرة، ودفعاً لاندراس العلم، وظهور الجهل، وإلف المنكر، وإبقاء لحيوية القلب تجاه المنكر، والقيام بالعبودية لله - تبارك وتعالى - في هذا المقام، والإنسان سيحاسب على تركه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ هو مأمور به لقول رسول الله ﷺ: من رأى منكم منكراً فليغيره بيده[1]، وأما قوله - تبارك وتعالى - : فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى [سورة الأعلى: 9]، فقد لا يكون حجة للقول بأنه إن لم يرجُ الانتفاع لا يجب عليه التذكير والأمر والنهي فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى من أهل العلم من يقول: إنه ذكر أشرف الأمرين؛ ليدل به على الآخر، أي: فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى وإن لم تنفع، اكتفى بأحد الأمرين ليدل على ما يقابله، فالراجح أن الإنسان يجب عليه أن يأمر وينهى وإن لم يرجُ انتفاع المأمور والمنهي.
وقوله: مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ هذه قراءة حفص عن عاصم بالنصب، وقرأه الباقون بالرفع مَعْذِرَةٌ إِلَى رَبِّكُمْ، فعلى قراءة النصب يكون "معذرةً" مصدراً، أي: فعلنا ذلك معذرةً، وعلى القراءة الأخرى قراءة الجمهور يكون على تقدير مبتدأ، يعني: موعظتنا معذرةٌ إلى الله.
- رواه مسلم برقم(49)، كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان وأن الإيمان يزيد وينقص وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان.