الثلاثاء 15 / ذو القعدة / 1446 - 13 / مايو 2025
وَسْـَٔلْهُمْ عَنِ ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِى كَانَتْ حَاضِرَةَ ٱلْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِى ٱلسَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ ۙ لَا تَأْتِيهِمْ ۚ كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا۟ يَفْسُقُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

قال : واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [سورة الأعراف:163].
هذا السياق هو بسط لقوله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ [سورة البقرة:65] الآية، يقول تعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: واَسْأَلْهُمْ، أي: واسأل هؤلاء اليهود الذين بحضرتك عن قصة أصحابهم الذين خالفوا أمر الله ففاجأتهم نقمته على صنيعهم واعتدائهم واحتيالهم في المخالفة، وحذِّر هؤلاء من كتمان صفتك التي يجدونها في كتبهم، لئلا يحلّ بهم ما حل بإخوانهم وسلفهم، وهذا القرية هي أيلة وهي على شاطئ بحر القلزم.

قوله – تبارك وتعالى - واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ [سورة الأعراف:163]، قال بعض أهل العلم: القرية هي طبرية، وقيل: هي مدين، وقيل: هي أيلة، والأهم من هذا هو أخذ العظة والعبرة من هذه القصة، ولا فائدة من البحث عن المبهمات، وقد ألف فيها السهيلي كتاباً، وجاء البلنسي وضمن في كتابه كلام السهيلي وزاد عليه أشياء كثيرة، ولكن الفائدة في مثل هذه الكتب قليلة.
ولا يُحتاج إلى ذكر المبهمات إلا لدفع تهمة مثلاً وهذا نادر، مثال ذلك ما جاء من طريق محمد بن زياد قال: "لما بايع معاوية لابنه، قال مروان: سنة أبي بكر وعمر، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر: سنة هرقل وقيصر، فقال: مروان هذا الذي أنزل الله فيه وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا [سورة الأحقاف:17] ، فبلغ ذلك عائشة، فقالت: كذب والله ما هو به ولو شئت أن أسمي الذي أنزلت فيه لسميته ..."[1].
قال محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس -ا في قوله تعالى: واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ [سورة الأعراف:163]،  قال: هي قرية يقال لها: أيلة بين مدين والطور، وكذا قال عكرمة ومجاهد وقتادة والسدي، وقوله: إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ، أي: يعتدون فيه ويخالفون أمر الله فيه لهم بالوصاة به إذ ذاك، إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً، قال الضحاك عن ابن عباس - ا - : أي ظاهرة على الماء.
كانت الحيتان تأتيهم ظاهرة منكشفة بينة، وأما ما ورد من بعض الأخبار الإسرائيلية، أنها كانت تأتي كالخراف، وتصل إلى أبوابهم، فمثل هذا الله أعلم به، ولا حاجة إليه.
قال ابن جرير: وقوله: وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [سورة الأعراف:163]، أي: نختبرهم بإظهار السمك لهم على ظهر الماء في اليوم المحرم عليهم صيده، وإخفائه عنهم في اليوم الحلال لهم صيده.

قوله: وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ [سورة الأعراف:163]،  أصل معنى السبت القطع، فقد حرم الله عليهم العمل يوم السبت فصاروا يحتالون، فيضعون الشباك يوم الجمعة ويأخذونها يوم الأحد، وهذا من الحيل، ولهذا مسخهم الله إلى قردة، وقد ذكر الحافظ ابن القيم - رحمه الله - أن القرد فيه شبه بالإنسان إلا أنه في هيئة وصورة بشعة وهو يختلف عنه أصلاً ووصفاً، وهؤلاء مسخوا الأحكام الشرعية وجاءوا بالمحرم بصورة فيها شبه من الحكم الشرعي، مع أنه يخالفه في أصله وفي وصفه.
 وتحريم العمل يوم السبت مختص باليهود، ولذلك ذكر شيخ الإسلام في الاقتضاء بالكلام على الأعياد والتشبه، بأنه لا يجوز للمسلمين مضاهاة اليهود بترك العمل يوم الجمعة، وليس معنى ذلك ألا يكون يوم الجمعة أجازة رسمية، لكن المحرم ترك العمل فيه بالكلية كما تترك اليهود العمل في يوم السبت بالكلية.
وليس لنا أن نضع الأجازة في يوم السبت؛ لأن هذا الفعل مضاهاة لليهود في تعظيمهم لهذا اليوم، والمصلحة الدينية مقدمة على المصلحة الدنيوية.
كَذَلِكَ نَبْلُوهُم نختبرهم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ يقول: بفسقهم عن طاعة الله وخروجهم عنها، وهؤلاء قوم احتالوا على انتهاك محارم الله، بما تعاطوا من الأسباب الظاهرة التي معناها في الباطن تعاطي الحرام، وقد روى الفقيه الإمام أبو عبد الله بن بطة - رحمه الله - عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل[2]، وهذا إسناد جيد.
  1. سنن النسائي الكبرى، كتاب التفسير، باب قوله: وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا [سورة الأحقاف:17] (6/458)، برقم: (11491)، وأصل الحديث في البخاري من حديث يوسف بن ماهك قال: كان مروان على الحجاز استعمله معاوية، فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه، فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئا، فقال: خذوه فدخل بيت عائشة فلم يقدروا، فقال مروان: إن هذا الذي أنزل الله فيه وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لكما أتعدانني [سورة الأحقاف:17] ، فقالت عائشة من وراء الحجاب: "ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن إلا أن الله أنزل عذري" رواه البخاري، كتاب التفسير، بَاب وَالَّذِي قال لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وقد خَلَتْ الْقُرُونُ من قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فيقول ما هذا إلا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [سورة الأحقاف:17]   (4 / 1827) برقم: (4550). 
  2. أخرجه ابن بطة في إبطال الحيل (1 / 47)، وصححه الألباني في الإرواء (5 / 375).

مرات الإستماع: 0

"قوله تعالى: وَاسْأَلْهُمْ [الأعراف: 163] أي اسأل اليهود على جهة التقرير، والتوبيخ عَنِ الْقَرْيَةِ [الأعراف: 163] قيل: هي أيله، وقيل: هي طبرية، وقيل: مدين."

يقول: عن القرية قيل هي أيله، هذا مروي عن جماعة من السلف كعكرمة، وقتادة، والسدي، ومجاهد[1] واختاره الحافظ ابن كثير - رحمه الله -[2] وأيله هي التي تعرف اليوم بالعقبة، على ساحل البحر الأحمر، شمالاً شمال البحر الأحمر، العقبة أيله وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ [الأعراف: 163] يعني أنها قرية، أو مدينة ساحلية، وقيل هي طبرية، وقيل مدين، وقيل مقناة، على كل حال مثل هذا لا حاجة إليه، يعني هذا الاشتغال بالتحليل لو كان فيه فائدة لذكره الله هذا الذي يسمونه المبهمات في القرآن، وقد مضى الحديث عن شيءٍ من هذا، وبعض المصنفات فيه، فالاشتغال بمثل هذا هو من فضول العلم، ليس من مُلَحِهِ، ولا من صلبه.

"قوله تعالى: حاضِرَةَ الْبَحْرِ [الأعراف: 163] أي قريبة منه، أو على شاطئه.

إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ [الأعراف: 163] أي: يتجاوزون حدّ الله فيه، وهو اصطيادهم يوم السبت، وقد نهوا عنه."

كما قال الله : وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ [النساء: 154] وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ [البقرة: 65].

وفي الحديث حديث أبي هريرة مرفوعًا إلى النبي ﷺ: لا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَ الْيَهُودُ، فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ[3].

"وموضع إذ بدل من القرية، والمراد أهلها، وهو بدل اشتمال، أو منصوب بكانت، أو بحاضرة."

يقول بدلٌ من القرية، والمراد أهلها؛ لأن القرية تطلق على البنيان، وتطلق على السكان، أهل القرية، يقول: وهو بدل اشتمال، بدل الاشتمال هو بدل الشيء مما يشتمل عليه، بدل الاشتمال مُعتَرِفٌ أن البدل منه: ما هو البدل كل من كل، أو بدل بعض من بعض، أو بدل اشتمال هذا، أو بدل الغلط يعني كأنه يستدرك، هذه الأربعة أنواع المعروفة في البدل، يكون التقدير على هذا: واسألهم عن أهل القرية، يعني يكون المعنى، واسألهم عن أهل القرية وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ يعني أهل القرية وقت عدوانهم في السبت، وهذا ليس محل اتفاق على كل حال، مثل أبي حيان يعترض على هذا، ويقول: أو منصوبٌ بـ كانت، أو بـ حاضرة، يعني باعتبار أن إذ ظرف للحاضرة كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ.

"قوله تعالى: إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً [الأعراف: 163] كانت الحيتان تخرج من البحر يوم السبت حتى تصل إلى بيوتهم ابتلاء لهم إذ كان صيدها محرمًا عليهم في يوم السبت، وتغيب عنهم في سائر الأيام."

إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ الحيتان: السمك، وبعضهم يخصه بالعظيم من السمك كما هو الدارج الآن إذا قيل الحوت تتوجه الأذهان إلى العظيم من السمك، وإلا فأصله من الاضطراب، والروغان، السمك هذا حاله، لذلك يقول: هو مضطرب، مستمر دائمًا غير مستقر، ولهذا يقال: حاوتني فلان يعني راوغني مراوغة الحوت، المحاوته، المراوغة، السمك كثير الحركة، والاضطراب، ولا يفتر من ذلك.

"وسبتهم مصدر من قولك: سبت اليهودي يسبت إذا عظَّم يوم السبت."

أصل السبت يأتي بمعنى القطع، كانوا ينقطعون من أشغالهم، ينقطعون من أعمالهم، فيسبتون، يعني يُفسَّر: يعظمون السبت فينقطعون فيه عن الأعمال، فكان يحرم عليهم العمل يوم السبت، فهذا أحد معانيه، يعني في أصله السبت، ويأتي بمعنى هذا، ويأتي بمعنى الفرس الذي لا يُسبق، والعَالِم الذي لا يجارى، ونحو هذا.

لكن هنا السبت القطع، ينقطعون عن الأعمال، والأشغال، يعني الدنيوية، يقول: مصدر من قولك: سبت اليهودي يسبت إذا عظَّم يوم السبت، يعني هو عظَّم يوم السبت بالتجرد فيه للعبادة، وبعضهم يقول هم اسم لليوم إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ يعني يوم السبت فأضافه إليهم لاختصاصهم بأحكامٍ فيه يَوْمَ سَبْتِهِمْ.

"ومعنى شُرَّعا: ظاهرة قريبة منهم يقال: شرع منا فلان إذا دنا."

وجاء عن ابن عباس - ا - ظاهر على الماء، وذكر بعضهم أنها تصل إلى أبواب بيوتهم، وهذا قد يكون فيه مبالغة، فالله أعلم، تأتيهم شُرَّعا: ظاهرة على الماء قريبة الأخذ.

"وإذ في قوله إِذْ تَأْتِيهِمْ منصوب بـ يعدون، أو بدل من إذ يعدون."

يقول: إذ في قوله إِذْ تَأْتِيهِمْ منصوبٌ بـ يعدون، يعدون إذ تأتيهم، أو بدل من إذ يعدون، منصوب بـ يعدون، يعدون إذ تأتيهم، أو بدل من إذ يعدون الأول. 

  1. تفسير ابن كثير (3/493). 
  2. المصدر السابق.
  3. إبطال الحيل لابن بطة (ص: 47).