هذا السياق هو بسط لقوله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ [سورة البقرة:65] الآية، يقول تعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: واَسْأَلْهُمْ، أي: واسأل هؤلاء اليهود الذين بحضرتك عن قصة أصحابهم الذين خالفوا أمر الله ففاجأتهم نقمته على صنيعهم واعتدائهم واحتيالهم في المخالفة، وحذِّر هؤلاء من كتمان صفتك التي يجدونها في كتبهم، لئلا يحلّ بهم ما حل بإخوانهم وسلفهم، وهذا القرية هي أيلة وهي على شاطئ بحر القلزم.
قوله – تبارك وتعالى - واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ [سورة الأعراف:163]، قال بعض أهل العلم: القرية هي طبرية، وقيل: هي مدين، وقيل: هي أيلة، والأهم من هذا هو أخذ العظة والعبرة من هذه القصة، ولا فائدة من البحث عن المبهمات، وقد ألف فيها السهيلي كتاباً، وجاء البلنسي وضمن في كتابه كلام السهيلي وزاد عليه أشياء كثيرة، ولكن الفائدة في مثل هذه الكتب قليلة.
ولا يُحتاج إلى ذكر المبهمات إلا لدفع تهمة مثلاً وهذا نادر، مثال ذلك ما جاء من طريق محمد بن زياد قال: "لما بايع معاوية لابنه، قال مروان: سنة أبي بكر وعمر، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر: سنة هرقل وقيصر، فقال: مروان هذا الذي أنزل الله فيه وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا [سورة الأحقاف:17] ، فبلغ ذلك عائشة، فقالت: كذب والله ما هو به ولو شئت أن أسمي الذي أنزلت فيه لسميته ..."[1].
قال محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس -ا في قوله تعالى: واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ [سورة الأعراف:163]، قال: هي قرية يقال لها: أيلة بين مدين والطور، وكذا قال عكرمة ومجاهد وقتادة والسدي، وقوله: إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ، أي: يعتدون فيه ويخالفون أمر الله فيه لهم بالوصاة به إذ ذاك، إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً، قال الضحاك عن ابن عباس - ا - : أي ظاهرة على الماء.
كانت الحيتان تأتيهم ظاهرة منكشفة بينة، وأما ما ورد من بعض الأخبار الإسرائيلية، أنها كانت تأتي كالخراف، وتصل إلى أبوابهم، فمثل هذا الله أعلم به، ولا حاجة إليه.
قوله: وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ [سورة الأعراف:163]، أصل معنى السبت القطع، فقد حرم الله عليهم العمل يوم السبت فصاروا يحتالون، فيضعون الشباك يوم الجمعة ويأخذونها يوم الأحد، وهذا من الحيل، ولهذا مسخهم الله إلى قردة، وقد ذكر الحافظ ابن القيم - رحمه الله - أن القرد فيه شبه بالإنسان إلا أنه في هيئة وصورة بشعة وهو يختلف عنه أصلاً ووصفاً، وهؤلاء مسخوا الأحكام الشرعية وجاءوا بالمحرم بصورة فيها شبه من الحكم الشرعي، مع أنه يخالفه في أصله وفي وصفه.
وتحريم العمل يوم السبت مختص باليهود، ولذلك ذكر شيخ الإسلام في الاقتضاء بالكلام على الأعياد والتشبه، بأنه لا يجوز للمسلمين مضاهاة اليهود بترك العمل يوم الجمعة، وليس معنى ذلك ألا يكون يوم الجمعة أجازة رسمية، لكن المحرم ترك العمل فيه بالكلية كما تترك اليهود العمل في يوم السبت بالكلية.
وليس لنا أن نضع الأجازة في يوم السبت؛ لأن هذا الفعل مضاهاة لليهود في تعظيمهم لهذا اليوم، والمصلحة الدينية مقدمة على المصلحة الدنيوية.
- سنن النسائي الكبرى، كتاب التفسير، باب قوله: وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا [سورة الأحقاف:17] (6/458)، برقم: (11491)، وأصل الحديث في البخاري من حديث يوسف بن ماهك قال: كان مروان على الحجاز استعمله معاوية، فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه، فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئا، فقال: خذوه فدخل بيت عائشة فلم يقدروا، فقال مروان: إن هذا الذي أنزل الله فيه وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لكما أتعدانني [سورة الأحقاف:17] ، فقالت عائشة من وراء الحجاب: "ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن إلا أن الله أنزل عذري" رواه البخاري، كتاب التفسير، بَاب وَالَّذِي قال لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وقد خَلَتْ الْقُرُونُ من قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فيقول ما هذا إلا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [سورة الأحقاف:17] (4 / 1827) برقم: (4550).
- أخرجه ابن بطة في إبطال الحيل (1 / 47)، وصححه الألباني في الإرواء (5 / 375).