الثلاثاء 15 / ذو القعدة / 1446 - 13 / مايو 2025
وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَٰهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُۥٓ أَخْلَدَ إِلَى ٱلْأَرْضِ وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ ۚ فَمَثَلُهُۥ كَمَثَلِ ٱلْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُوا۟ بِـَٔايَٰتِنَا ۚ فَٱقْصُصِ ٱلْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ۝ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ۝ سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ [سورة الأعراف:175-177].
روى عبد الرزاق عن عبد الله بن مسعود في قوله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا الآية، قال: هو رجل من بني إسرائيل يقال له: بلعم بن باعوراء، وكذا رواه شعبة وغير واحد عن منصور به.
وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن ابن عباس - ا - : هو صيفي بن الراهب، وقال قتادة: وقال كعب: كان رجلاً من أهل البلقاء، وكان يعلم الاسم الأكبر، وكان مقيماً ببيت المقدس مع الجبارين.
وقال العوفي عن ابن عباس - ا - : هو رجل من أهل اليمن يقال له: بلعم، آتاه الله آياته فتركها.
وقال مالك بن دينار: كان من علماء بني إسرائيل، وكان مجاب الدعوة، يقدمونه في الشدائد، بعثه نبي الله موسى إلى ملك مدين، يدعوه إلى الله فأقطعه وأعطاه، فتبع دينه وترك دين موسى .
وقال سفيان بن عيينة عن حصين عن عمران بن الحارث عن ابن عباس - ا - : هو بلعم بن باعر، وكذا قال مجاهد وعكرمة، وقالت ثقيف: هو أمية بن أبي الصلت، وأما المشهور في سبب نزول هذه الآية الكريمة، فإنما هو رجل من المتقدمين في زمن بني إسرائيل كما قال ابن مسعود وغيره من السلف.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا - : هو رجل من مدينة الجبارين يقال له: بلعام، وكان يعلم اسم الله الأكبر.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا - : لما نزل موسى بهم  - يعني بالجبارين ومن معه - أتاه - يعني بلعم - أتاه بنو عمه وقومه فقالوا: إن موسى رجل حديد، ومعه جنود كثيرة، وإنه إن يظهر علينا يهلكنا، فادع الله أن يرد عنا موسى ومن معه، قال: إني إن دعوت الله أن يرد موسى ومن معه، ذهبت دنياي وآخرتي، فلم يزالوا به حتى دعا عليهم فسلخه الله ما كان عليه، فذلك قوله تعالى: فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ الآية.

فضرب الله - تبارك وتعالى - في هذه الآية مثلاً لصاحب العلم الذي لم ينتفع بعلمه، ولم يرتفع به، وهو أسوأ مثلٍ في القرآن فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث... [سورة الأعراف:176]، وهذا مثل قيل: إنه مضروب لأمة من قريش حيث أنزل الله عليهم القرآن وبعث منهم محمداً ﷺ فكذبوه، وهذا خلاف المشهور، وقيل: إنها في أهل الكتاب، والمشهور: أنها في رجل من بني إسرائيل آتاه الله العلم، وليس في ذلك شيء مرفوع إلى النبي ﷺ، وإنما هي من الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب، فمن قائل: إنه من علمائهم، وقيل: إنه كان يعلم الاسم الأعظم وكان مجاب الدعوة، وقيل: إنه من علمائهم ويعلم الاسم الأعظم، وقيل: كانت له ثلاث دعوات مستجابة، وكانت له امرأة فطلبت وألحت عليه أن يدعو ربه أن تكون أجمل بني إسرائيل، فلما صارت كذلك ترفعت عليه، فدعا عليها، يقولون: فمسخت كلبة، فجاءه أولادها وجعلوا يتضرعون أنهم قد افتضحوا أمام الناس وأنه نزل بهم ما لا طاقة لهم به، أن أمهم صارت كلبة، فدعا لها الدعوة الثالثة، فرجعت إلى حالها، فضيع هذه الدعوات الثلاث في امرأة، قيل: إنه دعا على موسى، وقيل غير ذلك، فهذا رجل آتاه الله العلم ولكنه لم ينتفع بهذا العلم، فانسلخ منها، وللحافظ ابن القيم - رحمه الله -، كلام جيد في المجلد الثاني من بدائع التفسير، وهناك مثل آخر في القرآن لا يقل سوءًا عنه، وهو أن أمة أوتيت العلم وحملت التوراة ثم أنها لم تعمل بها ولم تهتدِ بما فيها من المواعظ والعبر، فكان مثلهم كمثل الحمار يحمل أسفاراً، والحمار من أبلد الحيوانات، ومن أقواها على الحمل وهو من أقلها زينة كما ذكر الله : وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [سورة النحل:8]، وهو من أصبرها على التحمل مع غاية الذل، قال الله: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [سورة الجمعة:5]، وتكلم الحافظ ابن القيم – رحمه الله - على هذا المثل بكلام مفيد جيد، وهذه الأمثال في القرآن للاعتبار والاتعاظ، قال الله عنها: وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [سورة العنكبوت:43]، والعلم يراد به العمل والاعتبار والاتعاظ، وأما أن يتعلم الإنسان ولا يظهر ذلك في سمته وهديه، بحيث لا يزيد في عمله، فإن هذا يكون نقصاً في حقه، وأسوأ من ذلك إذا تحول العالم، لا سيما في أوقات الفتن وغيّر وانسلخ، وصار يضلل الناس، ويلبس عليهم ويستغل ما عرفه من العلم في التلبيس على الناس وإضلالهم، فهذا أشد ما يكون.

قال ابن القيم - رحمه الله - تعالى: "فشبه سبحانه من آتاه كتابه وعلمه العلم الذي منعه غيره فترك العمل به واتبع هواه، وآثر سخط الله على رضاه ودنياه على آخرته، والمخلوق على الخالق بالكلب الذي هو من أخس الحيوانات، وأوضعها قدراً وأخسها نفساً، وهمته لا تتعدى بطنه، وأشدها شرهاً وحرصاً، ومن حرصه أنه لا يمشي إلا وخطمه في الأرض يتشمم، ويستروح حرصاً وشرهاً، لا يزال يشم دبره دون سائر أجزاء جسمه، وإذا رميت إليه بحجر رجع إليه ليعظه من فرط نهمته، وهو من أمهن الحيوانات وأحملها للهوان وأرضاها بالدنايا، والجيف القذرة المروحة أحب إليه من اللحم، العذرة أحب إليه من الحلوى، وإذا ظفر بميتة تكفي مائة كلب لم يدع كلباً يتناول معه منها شيئاً إلا هر عليه وقهره لحرصه وبخله وشرهه، ومن عجيب أمره وحرصه أنه إذا رأى ذا هيئة رثة وثياب دنية وحال رزية نبحه وحمل عليه، كأنه يتصور مشاركته له، ومنازعته في قوته، وإذا رأى ذا هيئة حسنة وثياب جميلة ورياسة وضع له خطمه بالأرض، وخضع له ولم يرفع إليه رأسه.
وفي تشبيه من آثر الدنيا وعاجلها على الله والدار الآخرة مع وفور علمه بالكلب في حال لهثه سر بديع، وهو أن هذا الذي حاله ما ذكره الله من انسلاخه من آياته واتباعه هواه، إنما كان لشدة لهثه على الدنيا لانقطاع قلبه عن الله والدار الآخرة، فهو شديد اللهث عليها، ولهفه نظير لهث الكلب الدائم في حال إزعاجه وتركه، واللهف واللهث شقيقان وأخوان في اللفظ والمعنى.
قال ابن جريج: الكلب منقطع الفؤاد، لا فؤاد له، إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث، فهو مثل الذي يترك الهدى لا فؤاد له إنما فؤاده منقطع، قلت: مراده بانقطاع فؤاده أنه ليس له فؤاد يحمله على الصبر وترك اللهث، وهكذا هذا الذي انسلخ من آيات الله، لم يبق معه فؤاد يحمله على الصبر عن الدنيا، وترك اللهث عليها، فهذا يلهث على الدنيا من قلة صبره عنها، وهذا يلهث من قلة صبره عن الماء، فالكلب من أقل الحيوانات صبراً عن الماء، وإذا عطش أكل الثرى من العطش، وإن كان فيه صبر على الجوع، وعلى كل حال فهو أشد الحيوانات لهثاً، يهلث قائماً وقاعداً وماشياً وواقفاً، وذلك لشدة حرصه، فحرارة الحرص في كبده توجب له دوام اللهث، فهذا مشبهه شدة الحرص، وحرارة الشهوة في قلبه توجب له دوام اللهث، فإن حملت عليه بالموعظة والنصيحة فهو يلهث، وإن تركته ولم تعظه فهو يلهث.
قال مجاهد: ذلك مثل الذي أوتي الكتاب ولم يعمل به، وقال ابن عباس - ا - : إن تحمل عليه الحكمة لم يحملها، وإن تتركه لم يهتدِ إلى خير، كالكلب إن كان رابضاً لهث وإن طرد لهث.
وقال الحسن: هو المنافق لا يثبت على الحق دُعي أو لم يدعَ، وُعظ أو لم يوعظ كالكلب يلهث طرداً وتركاً"[1].

قول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -، قول من قال بأنه أمية بن أبي الصلت، وأمية بن أبي الصلت كان من الشعراء الذين كثر في شعرهم ذكر الآخرة، وفي شعره من العظات والأمور التي لا شك قد تعلّمها من أهل الكتاب، ويذكر أموراً كثيرة من حقائق الآخرة في شعره، ويعظ في هذا الشعر، ويذكر أشياء من عظمة الله ، والدعاء إلى عبادته، فشعره من أعجب الشعر، والعجيب أنه لم يسلم، كما قيل: أسلم شعره ولم يسلم قلبه، فلما بلغته دعوة النبي ﷺ وظهر رسول الله ﷺ أعرض وكابر ونأى بجانبه، لكن المشهور أنها في رجل من بني إسرائيل، وقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: "وأما المشهور في سبب نزول هذه الآية الكريمة فإنما هو رجل متقدم"، فهذا على سبيل التوسع في العبارة، وإلا فسبب النزول هو ما نزلت الآية أو الآيات تتحدث عنه أيام وقوعه، أما أخبار الماضين فإن ذلك ليس من أسباب النزول، لكن قد يتوسع بعض العلماء في التعبير فيعبرون بمثل هذا، فليس هذا هو سبب النزول، وإنما هذا من قصص بني إسرائيل.

ووجه الشبه في قوله : فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ [سورة الأعراف:176]، من أهل العلم من يقول: إنه على ظاهره أن الرجل يلهث حقيقة، أو اندلع لسانه لما دعا على موسى ، فخرج لسانه كالكلب، فيكون وجه الشبه ظاهراً أنه صار بهيئة الكلب، مسخه الله ، لكن ليس معنى ذلك أن صارت هيئته هيئة الكلب بكل شيء وإنما شابهه بخروج لسانه، وما ذكره الحافظ ابن القيم - رحمه الله - فيما نقله عن بعض السلف في قلة صبره عن الشرب، وبالنسبة لهذا الإنسان في قلة صبره عن شهواته، فهذا الجامع المشترك، هذا لا يصبر عن العطش، وذاك لا يصبر عن شهواته، وهذا كقول من قال: إن كبد الكلب حراء، وفؤاده منقطع، أي: لقلة صبره، وهذا الإنسان أيضاًَ كبده حراء وفؤاده منقطع لا صبر له عن الشهوات، فكلما لاحت له شهوة سارع إليها، وهذا ما يمكن أن يفسر به - والله تعالى أعلم -؛ لأنه لا يثبت مثل تلك الأخبار فيبنى عليها حكم، ويفسر بها القرآن فيقال: إن لسانه خرج حقيقة، لأنها من الأخبار الإسرائيلية، والكلب إن حملت عليه وطردته فإنه يلهث، وإن تركته في حاله فهو يلهث وهو رابض على جنبه، ويلهث وهو يمشي، ويلهث وهو واقف، فالكلب يلهث في جميع حالاته، وهذا من أسوأ صور الكلب، ولا يعرف هذا عند أي حيوان بصورة مستمرة كالكلب، فمن أهل العلم من قال: إن تحمل عليه أي: إن تطارده فهو يجري ويلهث، وإذا تركته فإنه يطاردك، هكذا قال بعضهم: والأول أحسن من هذا، - والله أعلم -.

وقوله تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ [سورة الأعراف:176].

وقوله تعالى: فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ [سورة الأعراف:175]  أتبعه الشيطان، يقول ابن جرير - رحمه الله -: "أي: صيره تابعاً له"، صار من أتباع الشيطان، والمشهور: فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ أي: تبعه الشيطان، كما يقول ابن القيم: هذه اللفظة فَأَتْبَعَهُ تدل على أنه لحقه وأدركه الشيطان، فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ، أي: أن الشيطان يتبع الإنسان لكنه قد يدركه ويتمكن منه، وقد لا يتمكن منه فيشغله بالوساوس والخواطر والأحلام والرؤى المزعجة؛ لأن هذا غاية ما استطاعه، ولهذا قال النبي ﷺ: الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة[2]، فإذا يئس من ابن آدم أن يضله أشغله بالخواطر والأفكار، فيقول له: من خلق كذا، من خلق كذا، ويقلقه في طهارته، فيجعله يعيد الوضوء عدة مرات، لأنه لا يريده أن يصلي أصلاً، فعلى هذا يكون الأقرب - والله تعالى أعلم - في فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ [سورة الأعراف:175]  أي: تبعه، كما قال الله: فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ، والشيطان كما قال الحافظ ابن القيم - في بعض كتبه -: مع الإنسان مثل الكلب مع الغزال، الغزال سريع جداً، لا يقارن بسرعة الكلب، قفزة واحدة وإذا الكلب في ناحية والغزال في ناحية أخرى، لكن ما الذي يحصل؟ يطارده الكلب بلا توقف، يقول ابن القيم: فالذي يحصل كيف يصطاد الكلب الغزال والغزال أسرع؟، يطارده ثم بعد ذلك يلتفت الغزال، فإذا التفت ضعف وخارت قواه، فيظفر به الكلب، بهذه الطريقة، وإلا فهو أسرع منه، وهذا حاصل للإنسان، هو يقول: الإنسان إذا التفت للشيطان وطاوعه في خطواته وتزيينه وكذا، أدركه الشيطان، وإذا انطلق ولم يلتفت لا للوساوس ولا للخواطر ولا لخطوات الشيطان صار يسير سيراً صحيحاً مستقيماً، وإذا التفت إليه فإنه يزين له خطواته فيوقعه فيها، فيقع في المنكرات والفواحش، وغير ذلك من النظر في كُتب الشبه، وكذلك ما يقع فيه بعض الناس من الوسوسة في الوضوء مما يجعله يتوضأ عدة مرات حتى يخرج وقت الصلاة، فإذا لم يلتفت له فإنه سينجو من الوسوسة بإذن الله تبارك وتعالى.

يقول تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا: أي: لرفعناه من التدنس عن قاذورات الدنيا بالآيات التي آتيناه إياها، وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ: أي مال إلى زينة الحياة الدنيا وزهرتها.

قوله: لَرَفَعْنَاهُ قال الحافظ ابن كثير- رحمه الله -: "رفعناه من التدنس عن قاذورات الدنيا بالآيات"، وقيل أي: شرفناه، وهذا يرجع إلى هذا المعنى، وقيل: رفعناه في الآخرة، وقيل: رفعناه فلم يقع في الكفر والمعصية، وغير ذلك، وكل ذلك داخل فيه - والله تعالى أعلم - كما قال كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله - لَرَفَعْنَاهُ بِهَا: "رفعناه: شرفناه بالعلم"، رفعه عن الدنايا والمدنسات، رفعه عن الذنوب، رفعه عن الكفر، رفع مرتبته في الدنيا والآخرة، فبدلاً من أن يكون إماماً في الحق، صار مثله مثل الكلب، أخس الأمثلة، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا فصار إماماً يقتدى به، مترفعاً عن كل دنس ورزية وخلق مشين، لكنه أبى: كل أمتي يدخل الجنة إلا من أبى قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى[3].

وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ أي: مال إلى زينة الحياة الدنيا وزهرتها، وأقبل على لذاتها ونعيمها، وغرته كما غرت غيره من غير أولي البصائر والنهى.

 

أصل الإخلاد اللزوم، ومنه الخلود خَالِدِينَ فِيهَا [سورة المائدة:85]، أي: يمكثون أبداً بلا انقطاع، أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ أي: ركن إليها، ومن لزم الدنيا شُغل بها، وصارت هي غايته ومطلوبه الأكبر، وصار تشاغُلُه بها على حساب الآخرة.

وقال محمد بن إسحاق بن يسار عن سالم أبي النضر أنه حدث: أن موسى لما نزل في أرض بني كنعان من أرض الشام أتى قوم بلعام فقالوا له: هذا موسى بن عمران في بني إسرائيل، قد جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويحلها بني إسرائيل، وإنا قومك وليس لنا منزل وأنت رجل مجاب الدعوة فاخرج فادع الله عليهم، قال: ويلكم! نبي الله معه الملائكة والمؤمنون، كيف أذهب أدعو عليهم وأنا أعلم من الله ما أعلم؟!، قالوا له: ما لنا من منزل، فلم يزالوا به يرققونه ويتضرعون إليه حتى فتنوه فافتتن، فركب حمارة له متوجهاً إلى الجبل الذي يطلعه على عسكر بني إسرائيل وهو جبل حسبان، فلما سار عليها غير كثير ربضت به، فنزل عنها فضربها حتى إذا أزلقها قامت فركبها، فلم تسر به كثيراً حتى ربضت به فضربها حتى إذا أزلقها أذن لها فكلمته حجة عليه، فقالت: ويحك يا بلعم أين تذهب؟، أما ترى الملائكة أمامي تردني عن وجهي هذا؟، تذهب إلى نبي الله والمؤمنين لتدعو عليهم؟ فلم ينزع عنها فضربها فخل الله سبيلها حين فعل بها ذلك فانطلقت به حتى إذا أشرفت به على رأس حسبان، على عسكر موسى وبني إسرائيل جعل يدعو عليهم ولا يدعو عليهم بشر إلا صرف الله لسانه إلى قومه، ولا يدعو لقومه بخير إلا صرف الله لسانه إلى بني إسرائيل، فقال له قومه: أتدري يا بلعم ما تصنع؟، إنما تدعو لهم وتدعو علينا، قال: فهذا ما لا أملك، هذا شيء قد غلب الله عليه، قال واندلع لسانه فوقع على صدره فقال لهم: قد ذهبت مني الآن الدنيا والآخرة، ولم يبق إلا المكر والحيلة، فسأمكر لكم وأحتال، جمِّلوا النساء وأعطوهن من السلع ثم أرسلوهن إلى العسكر يبعنها فيه، ومروهن فلا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها، فإنهم إن زنى رجل منهم واحد كُفِيتموهم، ففعلوا، فلما دخل النساء العسكر مرت امرأة من الكنعانيين - اسمها كسبى ابنة صور رأس أمته - برجل من عظماء بني إسرائيل، وهو زمري بن شلوم رأس سبط شمعون بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - عليهم السلام -، فلما رآها أعجبته، فقام فأخذ بيدها وأتى بها موسى وقال: إني أظنك ستقول: هذا حرام عليك لا تقربها؟، قال: أجل، هي حرام عليك، قال: فوالله لا أطيعك في هذا، فدخل بها قبته فوقع عليها، وأرسل الله الطاعون في بني إسرائيل، وكان فنحاص بن العيزار بن هارون صاحب أمر موسى وكان غائباً حين صنع زمري بن شلوم ما صنع، فجاء والطاعون يجوس فيهم فأخبر الخبر فأخذ حربته وكانت من حديدة كلها ثم دخل القبة وهما متضاجعان فانتظمهما بحربته، ثم خرج بهما رافعهما إلى السماء، والحربة قد أخذها بذراعه واعتمد بمرفقه على خاصرته، وأسند الحربة إلى لحييه - وكان بكر العيزار - وجعل يقول: اللهم هكذا نفعل بمن يعصيك، ورُفع الطاعون، فحُسب مَن هلك من بني إسرائيل في الطاعون فيما بين أن أصاب زمري المرأة إلى أن قتله فنحاص فوجدوه قد هلك منهم سبعون ألفاً، والمقلل لهم يقول: عشرون ألفاً في ساعة من النهار، فمن هنالك تعطي بنو إسرائيل ولد فنحاص من كل ذبيحة ذبحوها الرقبة والذراع واللحى، والبكر من كل أموالهم وأنفسهم؛ لأنه كان بكر أبيه العيزار، ففي بلعام بن باعوراء أنزل الله: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا [سورة الأعراف:175]، إلى قوله لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ  [سورة الأعراف:176].

هذا من أخبار بني إسرائيل، وأخبار بني إسرائيل لا تصدق ولا تكذب، يقولون: إنه رفع الرجل والمرأة بالرمح وهما متعلقان بالرمح ما ينزلان معه، مع ثقل الإنسان والرمح، كأنه رافع حمامتين، فالله أعلم بهذا.

وقوله تعالى: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث [سورة الأعراف:176]، اختلف المفسرون في معناه، فعلى سياق ابن إسحاق عن سالم عن أبي النضر أن بلعاماً اندلع لسانه على صدره، فتشبيهه بالكلب في لهثه في كلتا حالتيه إن زُجر وإن ترك ظاهرٌ، وقيل معناه: فصار مثله في ضلاله واستمراره فيه، وعدم انتفاعه بالدعاء إلى الإيمان، وعدم الدعاء كالكلب في لهثه في حالتين إن حملتَ عليه وإن تركته هو يلهث في الحالين.

هذا هو الأقرب، وهو المشهور الذي عليه عامة أهل العلم، وهو اختيار كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله -: أن التشبيه ليس أن هذا أخرج لسانه، وإنما في الوعظ، سواء وعظته أو لم تعظه، فهو على حاله.

فكذلك هذا لا ينتفع بالموعظة والدعوة إلى الإيمان ولا عدمه كما قال تعالى: وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ [سورة يــس:10]، اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ [سورة التوبة:80] ونحو ذلك، وقيل معناه: أن قلب الكافر والمنافق والضال ضعيف فارغ من الهدى فهو كثير الوجيب، فعبر عن هذا بهذا، نقل نحوه عن الحسن البصري وغيره، وقوله تعالى: فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [سورة الأعراف:176]، يقول تعالى لنبيه محمد ﷺ: فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ أي: لعل بني إسرائيل العالمين بحال بلعام وما جرى له في إضلال الله إياه وإبعاده من رحمته بسبب أنه استعمل نعمة الله عليه - في تعليمه الاسم الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب - في غير طاعة ربه، بل دعا به على حزب الرحمن وشعب الإيمان أتباع عبده ورسوله في ذلك الزمان، كليم الله موسى بن عمران ، ولهذا قال: لعلهم يتفكرون، أي: فيحذروا أن يكونوا مثله، فإن الله قد أعطاهم علماً وميزهم على من عداهم من الأعراب وجعل بأيديهم صفة محمد ﷺ يعرفونها كما يعرفون أبناءهم، فهم أحق الناس وأولاهم باتباعه ومناصرته ومؤازرته، كما أخبرتهم أنبياؤهم بذلك وأمرتهم به، ولهذا من خالف منهم ما في كتابه وكتمه فلم يُعلم به العباد، أحل الله به ذلاً في الدنيا موصولاً بذل الآخرة.
  1. إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/194-196)، للإمام ابن القيم.
  2. رواه أبو داود برقم (5112)، كتاب الأدب، باب في رد الوسوسة، وأحمد في المسند (4/10)، برقم(2097)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين، وصححه الألباني في ظلال الجنة (658)، وفي تحقيق كتاب الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية (102).
  3. رواه البخاري برقم (6851)، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله ﷺ.

مرات الإستماع: 0

"وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها [الأعراف: 175] قال ابن مسعود : هو رجل من بني إسرائيل بعثه موسى إلى ملك مدين داعيًا إلى الله، فرشاه الملك، وأعطاه الملك على أن يترك دين موسى، ويتابع الملك على دينه ففعل، وأضل الناس بذلك[1]."

هذا الرجل الذي ذكره الله - تبارك، وتعالى - فآتاه الآيات فانسلخ منها، بعض أهل العلم يقول: هو رجلٌ معين، وإن اختلفوا في تحديده، فيكون من قبيل المبهمات، والمبهمات كما ذكرنا في عدد من المناسبات الأصل أنه لا فائدة من البحث فيها، والتكلُّف في تسمية هذا المبهم؛ لأنه لا يترتب عليه فائدة، العبرة فيما ذُكِر، وأما تسمية هذا فلا فائدة فيه، وإن كان فيه فائدة لذكره الله وسمَّاه، فهذا الشأن في عامة هذه المبهمات، وذكرت أن هذه المبهمات تارةً تكون في أسماء الأشخاص، وتارة في المواضع، والأمكنة، وغير ذلك.

وما جاء هنا عن ابن مسعود في الجملة الأولى: أنه رجل من بني إسرائيل، فهذا أخرجه ابن جرير - رحمه الله -[2] وأما باقي الأثر فليس في ابن جرير، ولا في غيره من الكتب المعروفة بهذا السياق، ويظهر - والله أعلم - أن هذه من جملة ما أُخِذ عن بني إسرائيل، باعتباره هنا أنه من أصحاب موسى .

وقال ابن عباس: هو رجل من الكنعانيين اسمه بلعام، كان عنده اسم الله الأعظم[3] فلما أراد موسى قتال الكنعانيين، وهم الجبارون: سألوا من بلعام أن يدعو باسم الله الأعظم على موسى، وعسكره، فأبى، فألحوا عليه حتى دعا عليه ألا يدخل المدينة، ودعا موسى عليه، فالآيات التي أُعطيها على هذا القول: هي اسم الله الأعظم، وعلى قول ابن مسعود: هي ما علَّمه موسى من الشريعة، وقيل: كان عنده من صحف إبراهيم.

وقال عبد الله بن عمرو بن العاص - ا -: هو أمية بن أبي الصلت[4] وكان قد أوتي علمًا، وحكمة، وأراد أن يسلم قبل غزوة بدر، ثم رجع عن ذلك فمات كافرًا، وفيه قال النبي ﷺ: كاد أمية بن أبي الصلت أن يُسلم[5] فالآية على هذا: ما كان عنده من العلم، والانسلاخ عبارة عن البعد، والانفصال منها، كالانسلاخ من الثياب، والجلد.

الأثر الثاني الذي ذكره عن ابن عباس - ا -: أنه رجلٌ من الكنعانيين اسمه بلعام، يعني ليس من أصحاب موسى - عليه الصلاة، والسلام - بخلاف الرواية التي قبلها عن ابن مسعود .

يقول: "كان عنده اسم الله الأعظم" إلى آخر ما ذكر، وهذه الرواية عن ابن عباس - ا - من طريق علي بن أبي طلحة[6] وذكرتُ لكم أن هذه الطريق جيدة الإسناد، لكن يبدو أن مصدر مثل هذه الرواية هم بنو إسرائيل.

يقول: "فالآيات التي أعطيها على هذا القول: هي اسم الله الأعظم، وعلى قول ابن مسعود هي ما علَّمه موسى من الشريعة، وقيل: كان عنده من صحف إبراهيم".

وبعض أهل العلم يقول: هي الآيات الشرعية الـمُنزَّلة، وهذا اختاره من المعاصرين الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله -[7] والشيخ محمد أمين الشنقيطي - رحمه الله -[8].

وبعضهم يقول: هي حجج التوحيد، وفهم أدلته، وهذا اختاره أيضًا جماعة من المفسرين: كالواحدي[9] والطاهر بن عاشور[10] لكن على القول الأول: أنها الآيات الشرعية الـمُنزَّلة، كأنه يتضمن هذا؛ لأن فهمها يقتضي ما ذُكِر، وأبو جعفر ابن جرير - رحمه الله - لم يحدد هذا، ولا هذا، باعتبار أن الآية تحتمل المعنين، ولا دليل على تحديد واحدٍ من هذه المعاني[11].

وما ذكره عن عبد الله بن عمرو - ا -: من أنه أمية بن أبي الصلت، هذا أخرجه النسائي في التفسير[12] وابن جرير أيضًا[13] وهو ثابت عن عبد الله بن عمرو، وهذه فيها أيضًا أقوال غير ما ذُكِر - والله تعالى أعلم -.

والحافظ ابن كثير - رحمه الله - لما ذكر قول عبد الله بن عمرو: من أنه أمية، قال: "وكأنه إنما أراد أن أمية بن أبي الصلت يشبهه" يعني: لا أنّ الآية نزلت فيه، وإنما كانت حاله مشابهه، يقول: "فإنه كان قد اتصل إليه - يعني أمية بن أبي الصلت - علمٌ كثيرٌ من علم الشرائع المتقدمة، ولكنه لم ينتفع بعلمه، فإنه أدرك زمان رسول الله ﷺ وبلغته أعلامه، وآياته، ومعجزاته، وظهرت لكل من له بصيرة، ومع هذا اجتمع به، ولم يتَّبعه، وصار إلى موالاة المشركين، ومناصراتهم، وامتداحهم، ورثى أهل بدرٍ من المشركين بمرثاةٍ بليغة[14] هذا كلام ابن كثير، والعلماء يذكرون هذا، وغيره.

والطاهر بن عاشور ذكر قول من قال: بأنها نزلت في رجل من الكنعانيين، وأنه بلعام... إلى آخره، يقول: "وذكروا قصته، فخلطوها، وغيَّروها، واختلفوا فيها، فلا ينبغي الالتفات إلى هذا القول لاضطرابه، واختلاطه"[15].

وأبو جعفر ابن جرير - رحمه الله -: يرى أن الصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله - تعالى ذكره - أمر نبيه ﷺ أن يتلو على قومه خبر رجلٍ كان الله آتاه حججه، وأدلته، وجائز أن يكون الذي كان الله أتاه ذلك بلعام، وجائز أن يكون أمية، ولا خبر بأي ذلك المراد، وأي الرجلين المعني يوجب الحجة، ولا في العقل دلالة على أن ذلك المعني به من أي، فالصواب أن يُقال فيه ما قال الله، ويُقرُّ بظاهر التنزيل على ما جاء به الوحي من الله[16].

وهذا كما قال القرطبي - رحمه الله - بأن هذا المثل في قول كثير من أهل العلم في التأويل عام في كل من أوتي القرآن، فلم يعمل به[17] لكن هل هذا في شخصٍ بعينه، أو أنه مثلٌ مضروب لمن آتاه الله العلم، فلم يعمل بمقتضاه، وانسلخ منه، هذا يحتمل، لكن الأكثر على أنه معين، وإن اختلفوا فيهِ، فليس عندنا دليل يجب الوقوف عنده، بأنه بلعام - رجل من الكنعانيين - أو أنه رجلٌ من بني إسرائيل، لا يوجد، لكن العبرة ظاهرة، وأنه أتاه الله آياته، فلم ينتفع بها، - نسأل الله العافية -.

أما أمية بن أبي الصلت فتجدون له كلامًا في شعره عجيبًا، يدل على أنه قد اطَّلع على ما في كتب أهل الكتاب؛ ولذلك يذكر تفاصيل عجيبة موافقة لما جاء في القرآن، لا يمكن أن تُعلَم إلا من طريق الكتب، والوحي الـمُنزَّل، وله أشعار على كل حال كثيرة، وذكر الحافظ ابن كثير جملةً منها في البداية، والنهاية، والرجل له أخبار كثيرة، وأراد أن يُسلِم فلما بلغ بدرًا، وكانت غزوة بدر قد انتهت قبل وقت، وجيز، فجاء من صرفه، وقال له: هؤلاء صناديد قريش في القليب فلان، وفلان، وفلان، وكان له قرابة من بعضهم من جهة الخؤولة، كعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، فضاق ذرعًا بذلك، وقال قصيدة يرثيهم بها، ورجع، ولم يُسلم - نسأل الله العافية -.

ومن أشعاره في العرش مثلاً:

مَجِّدوا اللهَ فَهـوَ لِلمَجـدِ أَهـلُ رَبُّنا فِي السَّمـاءِ أَمسَـى كَبيـرا
بالبناء العالي الذي بهر النَّاسَ وَسَـوَّى فَـوقَ السَّمـاءِ سَريـرا
شرَجـعـًا لا يَـنـالُـهُ بَـصَـرُ العين تَرى حولهُ المَلائِـكُ صـورا[18]

ومن شعره أيضًا:

وأنت بفضل منك نجيت يونسا وقد بات في أضعاف حوتٍ لياليا[19] 

ومن شعره أيضًا في هذا:

فأنبت يقطينًا عليه برحمةٍ من اللـه لولا اللـه أصبح ضاويا[20] 

يعني في الشمس وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ [الصافات: 146].

ويقول مثلاً:

فمن حاملٍ إحدى قوائم عرشه ولولا إله الخلق كَلَّوا وبَلَّدوا
قيام على الأقدام عانون تحته فرائصهم من شدة الخوف تُرعد[21]

كما قال الله: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [غافر: 7] فهذا من شعر هذا الرجل الذي - نسأل الله العافية - لم ينتفع بما أوتي، فالعلم أحيانًا قد لا ينفع صاحبه، وإنما العبرة بما يؤثره هذا العلم من الإيمان، والعمل الصالح، وتقوى الله - تبارك، وتعالى - وإلا فاليهود أخبر الله عنهم، وما أتاهم من العلم، وكان أسوأ مثل مضروب لأمة هو ما ضُرِبَ لهؤلاء اليهود: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا [الجمعة: 5] وأسوأ مثل مضروب لمن أوتي العلم، ولم ينتفع به، ولم يعمل بمقتضاه، هو هذا المثل الذي في سورة الأعراف: كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف: 176].

- نسأل الله العافية - يعني هذا مثل الكلب، وأولئك مثل الحمار، يحمل أسفارًا - والله المستعان -.

يقول: "والانسلاخ عبارة عن البعد، والانفصال منها" يعني الخروج من العمل بها "كالانسلاخ من الثياب، والجلد، وأصل السلخ خروج الشيء عن جلده".

"قوله تعالى: وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها [الأعراف: 176] أي: لرفعنا منزلته بالآيات التي كانت عنده."

يقول: "لرفعنا منزلته بالآيات التي كانت عنده" وذكر الحافظ ابن القيم - رحمه الله - أن مضمون ذلك: وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها أنه لم يتعاطَ الأسباب التي تقتضي رفعه بالآيات: من إيثار الله، ومرضاته على هواه، ولكنه آثر الدنيا، وأخلد إلى الأرض، واتبع هواه[22].

"وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إلى الْأَرْضِ [الأعراف: 176] عبارة عن فعله لما سقطت به منزلته عند الله."

يعني اطمأن إليها، ولزمها، أو ركن إلى الدنيا ظانًا أنه يخلد فيها، أصل المادة (خلد) يدل على الثبات، والملازمة، أخلد إلى الأرض أي ركن إليها، وإذا أضيف ذلك إلى الأرض معنى ذلك الدنيا، وما فيها من الحطام الزائل.

"قوله تعالى: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ أي: صفته كصفة الكلب؛ وذلك غاية في الخسة، والرداءة."

والعلماء - رحمهم الله - كابن القيم يذكرون في هذا الوصف بالكلب، ولماذا الكلب؟ فذكروا أشياء من أوصافه السيئة، فذكر جملة منها الحافظ ابن القيم التي تدل على دناءتهِ[23] يعني مثلاً ذكر أنه دائمًا يضع خطمه في الأرض كأنه يُشمشم دائمًا الأرض لشدة شرهه، ولهفه، وكذلك أيضًا أنه - أعزكم الله، ومن يسمع - يقيء، ويعود على قيئه، وذكر أيضًا: أنه لا يفتر من أشياء، وأوصاف سيئة، يعني يضع - أعزكم الله - أنفه في دبره، وكذلك أنه إذا رأى ذا هيئة من الناس أنزل رأسه إلى الأرض كأنه يخضع له، وإذا رأى من هو دون ذلك فيه ابتذال، أو نحو هذا نبحه، وأنه لا يزال يُخرج لسانه يلهث دائمًا، وأن هذه أسوأ ما يكون من الصور، والأشكال، فالحيوانات، والطيور عادةً تلهث في حالة التعب الشديد، أو الحر، والعطش، أما هذا فدائمًا يلهث.

"في نسخة: وذلك غاية في الخسة، والرذالة.

قوله تعالى: إن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف: 176] اللهث: هو تنفس بسرعة، وتحريك أعضاء الفم، وخروج اللسان، وأكثر ما يعتري ذلك الحيوانات مع الحر، والتعب، وهي حالة دائمة للكلب، ومعنى إن تَحْمِلْ عَلَيْهِ إن تفعل معه ما يشق عليه من طرد، أو غيره، أو تتركه دون أن تحمل عليه، فهو يلهث على كل حال، ووجه تشبيه ذلك الرجل به أنه أن وعظته فهو ضال، وإن لم تعظه فهو ضال، فضلالته على كل حال، كما أن لهث الكلب على كل حال."

هذا المعنى في وجه الشبه اختاره ابن جرير - رحمه الله - أنه ضال في كل الأحوال[24].

"وقيل: أن ذلك الرجل خرج لسانه على صدره، فصار مثل الكلب في صورته، ولهثه حقيقة."

على هذا ليس من باب التمثيل، وإنما عُوقِبَ هذا الرجل بعد ما فعل ما فعل على أنه معين، فخرج لسانه على صدره، لكن هذا ليس فيه دليل ثابت، وإنما جاء في بعض المرويات الإسرائيلية، فيكون هذا وصفٌ لحقيقةٍ واقعة، وليس من باب التمثيل، وبعضهم يقول: بأن المعنى أن قلب الكافر، والمنافق، والضال ضعيف، فارغ من الهدي، فهو كثير الوجيب، فعُبِّر عن هذا بهذا، وهذا جاء عن الحسن البصري - رحمه الله -[25] وهو تصوير لحاله من فراغ قلبه، من معرفة الله، والإيمان به، فصار بحالة من الخوف الدائم المستمر، لكن الأول أقرب - والله تعالى أعلم - فهو في كل حالاته - نسأل الله العافية - على ضلال، إن وعظته، أو تركته، كما أن الكلب يلهث في كل حال.

وفي الكلام على مفردات هذا المثل، وتفسير ذلك إجمالاً، أو بأجزائه، كل هذا مضى بشيءٍ من التفصيل في الكلام على الأمثال المضروبة في القرآن، وليس من العادة التي جرت في مثل هذا الكتاب، والتعليق عليه أن يُستَطرد في شيءٍ من ذلك، وإنما المقصود توضيح كلام المؤلف - رحمه الله -.

"قوله تعالى: ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا [الأعراف: 176] أي: صفة المكذبين كصفة الكلب في لهثه، أو كصفة الرجل المشبه به؛ لأنهم إن أُنذروا لم يهتدوا، وإن تُركوا لم يهتدوا، أو شبههم بالرجل في أنهم رأوا الآيات، والمعجزات فلم تنفعهم، كما أن الرجل لم ينفعه ما كان عنده من الآيات."

هذا باعتبار أن هذا المثل يصدق على كل من أوتي علمًا فلم ينتفع به، ونقلت قول القرطبي - رحمه الله -: بأنه عام في كل من أوتي القرآن، فلم يعمل به[26].

  1.  تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/476).
  2.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (13/253).
  3.  المصدر السابق (13/258).
  4. المصدر السابق (13/255).
  5.  أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار، باب أيام الجاهلية برقم: (3841) ومسلم في كتاب الشعر برقم: (2256).
  6.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (13/254).
  7.  تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص: 309).
  8. العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (4/319).
  9.  التفسير الوسيط للواحدي (2/427) والوجيز للواحدي (ص: 421).
  10.  التحرير، والتنوير (9/175).
  11.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (13/260).
  12.  تفسير النسائي (1/511).
  13.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (13/255).
  14.  تفسير ابن كثير ت سلامة (3/507).
  15.  التحرير، والتنوير (9/175).
  16.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (13/259 - 260).
  17. تفسير القرطبي (7/323).
  18.  البداية، والنهاية ط إحياء التراث (1/13).
  19.  المصدر السابق (1/39).
  20.  المصدر السابق(1/271).
  21. البداية، والنهاية ط إحياء التراث (2/288).
  22.  الأمثال في القرآن (ص: 32).
  23.  المصدر السابق (ص: 27).
  24.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (13/273).
  25.  المصدر السابق.
  26.  تفسير القرطبي (7/323).