روى عبد الرزاق عن عبد الله بن مسعود في قوله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا الآية، قال: هو رجل من بني إسرائيل يقال له: بلعم بن باعوراء، وكذا رواه شعبة وغير واحد عن منصور به.
وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن ابن عباس - ا - : هو صيفي بن الراهب، وقال قتادة: وقال كعب: كان رجلاً من أهل البلقاء، وكان يعلم الاسم الأكبر، وكان مقيماً ببيت المقدس مع الجبارين.
وقال العوفي عن ابن عباس - ا - : هو رجل من أهل اليمن يقال له: بلعم، آتاه الله آياته فتركها.
وقال مالك بن دينار: كان من علماء بني إسرائيل، وكان مجاب الدعوة، يقدمونه في الشدائد، بعثه نبي الله موسى إلى ملك مدين، يدعوه إلى الله فأقطعه وأعطاه، فتبع دينه وترك دين موسى .
وقال سفيان بن عيينة عن حصين عن عمران بن الحارث عن ابن عباس - ا - : هو بلعم بن باعر، وكذا قال مجاهد وعكرمة، وقالت ثقيف: هو أمية بن أبي الصلت، وأما المشهور في سبب نزول هذه الآية الكريمة، فإنما هو رجل من المتقدمين في زمن بني إسرائيل كما قال ابن مسعود وغيره من السلف.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا - : هو رجل من مدينة الجبارين يقال له: بلعام، وكان يعلم اسم الله الأكبر.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا - : لما نزل موسى بهم - يعني بالجبارين ومن معه - أتاه - يعني بلعم - أتاه بنو عمه وقومه فقالوا: إن موسى رجل حديد، ومعه جنود كثيرة، وإنه إن يظهر علينا يهلكنا، فادع الله أن يرد عنا موسى ومن معه، قال: إني إن دعوت الله أن يرد موسى ومن معه، ذهبت دنياي وآخرتي، فلم يزالوا به حتى دعا عليهم فسلخه الله ما كان عليه، فذلك قوله تعالى: فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ الآية.
فضرب الله - تبارك وتعالى - في هذه الآية مثلاً لصاحب العلم الذي لم ينتفع بعلمه، ولم يرتفع به، وهو أسوأ مثلٍ في القرآن فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث... [سورة الأعراف:176]، وهذا مثل قيل: إنه مضروب لأمة من قريش حيث أنزل الله عليهم القرآن وبعث منهم محمداً ﷺ فكذبوه، وهذا خلاف المشهور، وقيل: إنها في أهل الكتاب، والمشهور: أنها في رجل من بني إسرائيل آتاه الله العلم، وليس في ذلك شيء مرفوع إلى النبي ﷺ، وإنما هي من الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب، فمن قائل: إنه من علمائهم، وقيل: إنه كان يعلم الاسم الأعظم وكان مجاب الدعوة، وقيل: إنه من علمائهم ويعلم الاسم الأعظم، وقيل: كانت له ثلاث دعوات مستجابة، وكانت له امرأة فطلبت وألحت عليه أن يدعو ربه أن تكون أجمل بني إسرائيل، فلما صارت كذلك ترفعت عليه، فدعا عليها، يقولون: فمسخت كلبة، فجاءه أولادها وجعلوا يتضرعون أنهم قد افتضحوا أمام الناس وأنه نزل بهم ما لا طاقة لهم به، أن أمهم صارت كلبة، فدعا لها الدعوة الثالثة، فرجعت إلى حالها، فضيع هذه الدعوات الثلاث في امرأة، قيل: إنه دعا على موسى، وقيل غير ذلك، فهذا رجل آتاه الله العلم ولكنه لم ينتفع بهذا العلم، فانسلخ منها، وللحافظ ابن القيم - رحمه الله -، كلام جيد في المجلد الثاني من بدائع التفسير، وهناك مثل آخر في القرآن لا يقل سوءًا عنه، وهو أن أمة أوتيت العلم وحملت التوراة ثم أنها لم تعمل بها ولم تهتدِ بما فيها من المواعظ والعبر، فكان مثلهم كمثل الحمار يحمل أسفاراً، والحمار من أبلد الحيوانات، ومن أقواها على الحمل وهو من أقلها زينة كما ذكر الله : وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [سورة النحل:8]، وهو من أصبرها على التحمل مع غاية الذل، قال الله: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [سورة الجمعة:5]، وتكلم الحافظ ابن القيم – رحمه الله - على هذا المثل بكلام مفيد جيد، وهذه الأمثال في القرآن للاعتبار والاتعاظ، قال الله عنها: وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [سورة العنكبوت:43]، والعلم يراد به العمل والاعتبار والاتعاظ، وأما أن يتعلم الإنسان ولا يظهر ذلك في سمته وهديه، بحيث لا يزيد في عمله، فإن هذا يكون نقصاً في حقه، وأسوأ من ذلك إذا تحول العالم، لا سيما في أوقات الفتن وغيّر وانسلخ، وصار يضلل الناس، ويلبس عليهم ويستغل ما عرفه من العلم في التلبيس على الناس وإضلالهم، فهذا أشد ما يكون.
وفي تشبيه من آثر الدنيا وعاجلها على الله والدار الآخرة مع وفور علمه بالكلب في حال لهثه سر بديع، وهو أن هذا الذي حاله ما ذكره الله من انسلاخه من آياته واتباعه هواه، إنما كان لشدة لهثه على الدنيا لانقطاع قلبه عن الله والدار الآخرة، فهو شديد اللهث عليها، ولهفه نظير لهث الكلب الدائم في حال إزعاجه وتركه، واللهف واللهث شقيقان وأخوان في اللفظ والمعنى.
قال ابن جريج: الكلب منقطع الفؤاد، لا فؤاد له، إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث، فهو مثل الذي يترك الهدى لا فؤاد له إنما فؤاده منقطع، قلت: مراده بانقطاع فؤاده أنه ليس له فؤاد يحمله على الصبر وترك اللهث، وهكذا هذا الذي انسلخ من آيات الله، لم يبق معه فؤاد يحمله على الصبر عن الدنيا، وترك اللهث عليها، فهذا يلهث على الدنيا من قلة صبره عنها، وهذا يلهث من قلة صبره عن الماء، فالكلب من أقل الحيوانات صبراً عن الماء، وإذا عطش أكل الثرى من العطش، وإن كان فيه صبر على الجوع، وعلى كل حال فهو أشد الحيوانات لهثاً، يهلث قائماً وقاعداً وماشياً وواقفاً، وذلك لشدة حرصه، فحرارة الحرص في كبده توجب له دوام اللهث، فهذا مشبهه شدة الحرص، وحرارة الشهوة في قلبه توجب له دوام اللهث، فإن حملت عليه بالموعظة والنصيحة فهو يلهث، وإن تركته ولم تعظه فهو يلهث.
قال مجاهد: ذلك مثل الذي أوتي الكتاب ولم يعمل به، وقال ابن عباس - ا - : إن تحمل عليه الحكمة لم يحملها، وإن تتركه لم يهتدِ إلى خير، كالكلب إن كان رابضاً لهث وإن طرد لهث.
وقال الحسن: هو المنافق لا يثبت على الحق دُعي أو لم يدعَ، وُعظ أو لم يوعظ كالكلب يلهث طرداً وتركاً"[1].
قول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -، قول من قال بأنه أمية بن أبي الصلت، وأمية بن أبي الصلت كان من الشعراء الذين كثر في شعرهم ذكر الآخرة، وفي شعره من العظات والأمور التي لا شك قد تعلّمها من أهل الكتاب، ويذكر أموراً كثيرة من حقائق الآخرة في شعره، ويعظ في هذا الشعر، ويذكر أشياء من عظمة الله ، والدعاء إلى عبادته، فشعره من أعجب الشعر، والعجيب أنه لم يسلم، كما قيل: أسلم شعره ولم يسلم قلبه، فلما بلغته دعوة النبي ﷺ وظهر رسول الله ﷺ أعرض وكابر ونأى بجانبه، لكن المشهور أنها في رجل من بني إسرائيل، وقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: "وأما المشهور في سبب نزول هذه الآية الكريمة فإنما هو رجل متقدم"، فهذا على سبيل التوسع في العبارة، وإلا فسبب النزول هو ما نزلت الآية أو الآيات تتحدث عنه أيام وقوعه، أما أخبار الماضين فإن ذلك ليس من أسباب النزول، لكن قد يتوسع بعض العلماء في التعبير فيعبرون بمثل هذا، فليس هذا هو سبب النزول، وإنما هذا من قصص بني إسرائيل.
ووجه الشبه في قوله : فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ [سورة الأعراف:176]، من أهل العلم من يقول: إنه على ظاهره أن الرجل يلهث حقيقة، أو اندلع لسانه لما دعا على موسى ، فخرج لسانه كالكلب، فيكون وجه الشبه ظاهراً أنه صار بهيئة الكلب، مسخه الله ، لكن ليس معنى ذلك أن صارت هيئته هيئة الكلب بكل شيء وإنما شابهه بخروج لسانه، وما ذكره الحافظ ابن القيم - رحمه الله - فيما نقله عن بعض السلف في قلة صبره عن الشرب، وبالنسبة لهذا الإنسان في قلة صبره عن شهواته، فهذا الجامع المشترك، هذا لا يصبر عن العطش، وذاك لا يصبر عن شهواته، وهذا كقول من قال: إن كبد الكلب حراء، وفؤاده منقطع، أي: لقلة صبره، وهذا الإنسان أيضاًَ كبده حراء وفؤاده منقطع لا صبر له عن الشهوات، فكلما لاحت له شهوة سارع إليها، وهذا ما يمكن أن يفسر به - والله تعالى أعلم -؛ لأنه لا يثبت مثل تلك الأخبار فيبنى عليها حكم، ويفسر بها القرآن فيقال: إن لسانه خرج حقيقة، لأنها من الأخبار الإسرائيلية، والكلب إن حملت عليه وطردته فإنه يلهث، وإن تركته في حاله فهو يلهث وهو رابض على جنبه، ويلهث وهو يمشي، ويلهث وهو واقف، فالكلب يلهث في جميع حالاته، وهذا من أسوأ صور الكلب، ولا يعرف هذا عند أي حيوان بصورة مستمرة كالكلب، فمن أهل العلم من قال: إن تحمل عليه أي: إن تطارده فهو يجري ويلهث، وإذا تركته فإنه يطاردك، هكذا قال بعضهم: والأول أحسن من هذا، - والله أعلم -.
وقوله تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ [سورة الأعراف:176].
وقوله تعالى: فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ [سورة الأعراف:175] أتبعه الشيطان، يقول ابن جرير - رحمه الله -: "أي: صيره تابعاً له"، صار من أتباع الشيطان، والمشهور: فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ أي: تبعه الشيطان، كما يقول ابن القيم: هذه اللفظة فَأَتْبَعَهُ تدل على أنه لحقه وأدركه الشيطان، فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ، أي: أن الشيطان يتبع الإنسان لكنه قد يدركه ويتمكن منه، وقد لا يتمكن منه فيشغله بالوساوس والخواطر والأحلام والرؤى المزعجة؛ لأن هذا غاية ما استطاعه، ولهذا قال النبي ﷺ: الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة[2]، فإذا يئس من ابن آدم أن يضله أشغله بالخواطر والأفكار، فيقول له: من خلق كذا، من خلق كذا، ويقلقه في طهارته، فيجعله يعيد الوضوء عدة مرات، لأنه لا يريده أن يصلي أصلاً، فعلى هذا يكون الأقرب - والله تعالى أعلم - في فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ [سورة الأعراف:175] أي: تبعه، كما قال الله: فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ، والشيطان كما قال الحافظ ابن القيم - في بعض كتبه -: مع الإنسان مثل الكلب مع الغزال، الغزال سريع جداً، لا يقارن بسرعة الكلب، قفزة واحدة وإذا الكلب في ناحية والغزال في ناحية أخرى، لكن ما الذي يحصل؟ يطارده الكلب بلا توقف، يقول ابن القيم: فالذي يحصل كيف يصطاد الكلب الغزال والغزال أسرع؟، يطارده ثم بعد ذلك يلتفت الغزال، فإذا التفت ضعف وخارت قواه، فيظفر به الكلب، بهذه الطريقة، وإلا فهو أسرع منه، وهذا حاصل للإنسان، هو يقول: الإنسان إذا التفت للشيطان وطاوعه في خطواته وتزيينه وكذا، أدركه الشيطان، وإذا انطلق ولم يلتفت لا للوساوس ولا للخواطر ولا لخطوات الشيطان صار يسير سيراً صحيحاً مستقيماً، وإذا التفت إليه فإنه يزين له خطواته فيوقعه فيها، فيقع في المنكرات والفواحش، وغير ذلك من النظر في كُتب الشبه، وكذلك ما يقع فيه بعض الناس من الوسوسة في الوضوء مما يجعله يتوضأ عدة مرات حتى يخرج وقت الصلاة، فإذا لم يلتفت له فإنه سينجو من الوسوسة بإذن الله تبارك وتعالى.
قوله: لَرَفَعْنَاهُ قال الحافظ ابن كثير- رحمه الله -: "رفعناه من التدنس عن قاذورات الدنيا بالآيات"، وقيل أي: شرفناه، وهذا يرجع إلى هذا المعنى، وقيل: رفعناه في الآخرة، وقيل: رفعناه فلم يقع في الكفر والمعصية، وغير ذلك، وكل ذلك داخل فيه - والله تعالى أعلم - كما قال كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله - لَرَفَعْنَاهُ بِهَا: "رفعناه: شرفناه بالعلم"، رفعه عن الدنايا والمدنسات، رفعه عن الذنوب، رفعه عن الكفر، رفع مرتبته في الدنيا والآخرة، فبدلاً من أن يكون إماماً في الحق، صار مثله مثل الكلب، أخس الأمثلة، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا فصار إماماً يقتدى به، مترفعاً عن كل دنس ورزية وخلق مشين، لكنه أبى: كل أمتي يدخل الجنة إلا من أبى قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى[3].
وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ أي: مال إلى زينة الحياة الدنيا وزهرتها، وأقبل على لذاتها ونعيمها، وغرته كما غرت غيره من غير أولي البصائر والنهى.
أصل الإخلاد اللزوم، ومنه الخلود خَالِدِينَ فِيهَا [سورة المائدة:85]، أي: يمكثون أبداً بلا انقطاع، أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ أي: ركن إليها، ومن لزم الدنيا شُغل بها، وصارت هي غايته ومطلوبه الأكبر، وصار تشاغُلُه بها على حساب الآخرة.
هذا من أخبار بني إسرائيل، وأخبار بني إسرائيل لا تصدق ولا تكذب، يقولون: إنه رفع الرجل والمرأة بالرمح وهما متعلقان بالرمح ما ينزلان معه، مع ثقل الإنسان والرمح، كأنه رافع حمامتين، فالله أعلم بهذا.
هذا هو الأقرب، وهو المشهور الذي عليه عامة أهل العلم، وهو اختيار كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله -: أن التشبيه ليس أن هذا أخرج لسانه، وإنما في الوعظ، سواء وعظته أو لم تعظه، فهو على حاله.
- إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/194-196)، للإمام ابن القيم.
- رواه أبو داود برقم (5112)، كتاب الأدب، باب في رد الوسوسة، وأحمد في المسند (4/10)، برقم(2097)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين، وصححه الألباني في ظلال الجنة (658)، وفي تحقيق كتاب الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية (102).
- رواه البخاري برقم (6851)، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله ﷺ.