يقول تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ : أي: خلقنا وجعلنا لجهنم كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أي: هيأناهم لها وبعمل أهلها يعملون، فإنه تعالى لما أراد أن يخلق الخلق علم ما هم عاملون قبل كونهم، فكتب ذلك عنده في كتاب قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، كما ورد في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو - ا - أن رسول الله ﷺ قال: إن الله قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء[1]والأحاديث في هذا كثيرة ومسألة القدر كبيرة ليس هذا موضع بسطها.
فهذه الآية استدل بها أهل السنة والجماعة على مسألة القدر وأن الله - تبارك وتعالى - قدر مقادير الخلائق منذ الأزل، وهي كقوله - تبارك وتعالى - : هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ [سورة التغابن:2]، على أحد المعنيين للآية، وذلك أن الله منذ خلقهم، خلق قوماً للجنة، قبض قبضة فقال: هذه للجنة ولا أبالي، وقبض قبضة فقال: هذه للنار ولا أبالي، فمن كتب الله أنه من أهل النار فإنه يعمل بعمل أهل النار أو يختم له بعمل أهل النار، كما في الحديث: إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة[2] إلى آخره، بخلاف قول المعتزلة الذي يقولون: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ [سورة الأعراف:179] أي: ألقينا، من تذروه الرياح، أي: تلقيه، وهذا باطل، والأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة تدل على خلاف هذا، والله خلق الخلق وهو أعلم بهم.
الله خلق الأنعام ولم يجعل لها عقولاً، فهي بهذه المنزلة، وأما الكافر فقد أعطاه الله عقلاً ومع ذلك لم ينتفع به فصار أحط من البهيمة، مع أن البهيمة قد تعي بعض ما يتصل بمصلحتها وشأنها كما إذا أبس بها، إذا قال لها: بِس، بِس، يدعوها إلى العلف أو نحو هذا، أو يزجرها عن شيء، أي: ساقها وزجرها يقول لها: بِس بِس، بكسر الباء وبضمها أيضاً، نعم ليزجرها أو يدعوها لشيء.
هذه الآية هي وصف لأهل النار في الحياة الدنيا لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا، فهم لا يفقهون حقائق ما جاء به الرسول ﷺ، لا فقه عندهم، أفهامهم معكوسة وقلوبهم متعلقة بهذه الحياة الدنيا، ليس لهم نظر وراءها، فمهما رأوا وشاهدوا دلائل الحق وبراهينه، فإنهم لا ينتفعون بها لَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا مهما سمع من الآيات والمواعظ والعبر والعظات فكأنه لم يسمع، والإنسان إذا عرف أن هذه الصفة من صفات أهل النار فإنه يرجع إلى نفسه وينظر هل هو متصف بشيء منها؟؛ لئلا يكون مشابهاً لهؤلاء، وهذه الحواس السمع والبصر والفؤاد يدور عليها العلم والمعرفة والفهم، فالسمع والبصر آلتان وميزابان يصبان في القلب، والوعي للقلب، وذلك إنما يكون بهذه الوسائط، فبها يقتبس الأمور التي يعيها، كما قال الله : وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [سورة الإسراء:36]، والناس يتفاوتون تفاوتاً كبيراً في الانتفاع بما يشاهدون وما يسمعون، فمن الناس من ينتفع بكل ما يراه ويعتبر به، فمِن السلف مَن كان إذا جاء في وليمة فجاء من يدور عليهم بالطعام أو بالشراب بكى، فإذا سئل عن بكائه قال: تذكرت قول الله : وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ [سورة الإنسان:19] تذكّرَ نعيم أهل الجنة، وإذا انطفأ السراج بكى، فإذا أوقد السراج شوهدت دموعه على لحيته، وكان سبب بكائه أنه تذكر القبر وظلمته، وقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله - : "ولهذا من أطاع الله من البشر كان أشرف من مثله من الملائكة في معاده، ومن كفر به من البشر كانت الدواب أتم منه"، هذه المسألة أي كون الإنسان المطيع أشرف من الملائكة، بدليل أن الله أسجد الملائكة لآدم ، وما شابه ذلك مما يستدل به القائلون بمثل هذا، هي مسألة لا طائل تحتها، ولا ينبغي الاشتغال بها.
- رواه مسلم برقم (2653)، بلفظ: كتب الله مقادير الخلائق قبل ...، كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى عليهما السلام.
- جزء من حديث رواه البخاري برقم (3154)، كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً، ومسلم برقم (2643)، كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته، من حديث عبد الله بن مسعود .