يقول تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ كما قال تعالى: يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ [سورة الأحزاب:63] قيل: نزلت في قريش، وقيل: في نفر من اليهود، والأول أشبه؛ لأن الآية مكية، وكانوا يسألون عن وقت الساعة استبعاداً لوقوعها وتكذيباً بوجودها، كما قال تعالى: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [سورة الملك:25]، وقال تعالى: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ [سورة الشورى:18].
الذين كانوا يسألون النبي ﷺ عن الساعة منهم من سأله سؤال تكذيب واستبعاد، ومنهم من سأل سؤال مستخبر ومستعلم، فقد جاء أعرابي يسأل النبي ﷺ عن الساعة، وجاء جبريل وسأل النبي ﷺ عن الساعة؛ لتعليم الناس أن هذا الأمر مما اختص الله به.
والساعة اسم من أسماء القيامة كما هو معلوم، وسميت بهذا الاسم لسرعة وقوعها، كما دلت الأحاديث على هذا المعنى، فربما ينشر الرجلان الثوب يتبايعانه فلا يتم البيع، وربما يصلح الرجل حوضه فلا يسقي منه، وربما أخذ الرجل بلبن لقحته ولا يشربه.
وقيل: سميت الساعة بهذا الاسم؛ لسرعة وقوع الحساب فيها، فحساب جميع النفوس عند الله كحساب نفس واحدة، وقيل: لأنها مؤقتة بوقت، وما كان كذلك فإنه يقال له: الساعة.
الأقوال التي قالها السلف في معنى مرساها متقاربة، تقول: رست السفينة، أي: انتهت إلى المكان الذي تقف فيه، ووقفت عندها، فمعنى أَيَّانَ مُرْسَاهَا، أي: متى وقتها الذي تجيء به، ومتى تحل بالخلق؟.
قوله: لاَ يُجَلِّيهَا التجلية: أصلها بمعنى الإظهار، أي: لا يكشف عنها ولا يظهرها ولا يبديها عن وقتها إلا هو.
قوله: ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، أي: ثقل علمها، وهذا هو اختيار ابن جرير - رحمه الله - وذلك باعتبار أن ما لا يعلمه الإنسان فإنه يثقل عليه، فإذا علمه وانكشف له حقيقته وعرفه، فإنه يخف عليه ويسهل، ومثال ذلك قول الخضر لموسى ﷺ: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا [سورة الكهف:78]، ثم لما أعلمه قال: ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا [سورة الكهف:82] فلمّا كان علْم ذلك مستثقلاً عند موسى ﷺ قال له في الأولى لَمْ تَسْتَطِع، وموسى منشغل بهذه الأشياء التي شاهدها، فلما أخبره عن حقائق هذه الأشياء وما وراء هذه التصرفات، سرّي عنه وخف عنه.
قال معمر: قال الحسن: إذا جاءت ثقلت على أهل السماوات والأرض، يقول كبُرت عليهم.
هذا قول آخر في معنى قوله - تبارك وتعالى - : ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ، فإذا وقعت الساعة فإنها تكون ثقيلة شديدة تحصل فيها من الأهوال والأوجال ما لا طاقة للبشر به، يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، وتنفطر السماوات، وتنكدر النجوم، وتتغير هذه الأفلاك، وتزلزل هذه الأرض، وتسجر البحار وتزال الجبال عن أماكنها، إلى غير هذا من الأمور التي أخبر الله عنها.
وقال ابن جريج: ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قال: إذا جاءت انشقت السماء وانتثرت النجوم، وكورت الشمس وسيرت الجبال، وكان ما قال الله فذلك ثقلها.
هذه الروايات الثلاث ترجع إلى المعنى الأول، أي: ثقل علمها.
وقال بعض أهل العلم في معنى قوله – تبارك وتعالى - : ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أي: عظُم وصفها، وقيل: أي: ثقلت المسألة عنها، والراجح – والله أعلم - في معنى هذه الآية أنه ثقل علمها، وإذا وقعت فإنها تكون شديدة على الخلق، وهذا هو القول الأول والثاني.
هذا يرجع إلى القول الأول، أي خفي علمها، وما خفي علمه ثقل على النفوس حتى ينكشف.
لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً، يبغتهم قيامها، تأتيهم على غفلة، وقال قتادة في قوله تعالى: لا تأتيكم إلا بغتة قضى الله أنها لا تأتيكم إلا بغتة، قال: وذكر لنا أن نبي الله ﷺ كان يقول: إن الساعة تهيج بالناس والرجل يصلح حوضه والرجل يسقي ماشيته، والرجل يقيم سلعته في السوق ويخفض ميزانه ويرفعه.
وروى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون، فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً، ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما، فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقْحَته فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وهو يَلِيط حوضه فلا يسقي فيه، ولتقومن الساعة والرجل قد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها[1].
وقال العوفي عن ابن عباس - ا - : يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا [سورة الأعراف:187] يقول: كأن بينك وبينهم مودة، كأنك صديق لهم.
قال ابن عباس - ا - : لما سأل الناس النبي ﷺ عن الساعة سألوه سؤال قوم كأنهم يرون أن محمداً ﷺ حفي بهم، فأوحى الله إليه إنما علمها عنده، استأثر به فلم يطلع الله عليها ملكاً مقرباً ولا رسولاً. والصحيح عن مجاهد من رواية ابن أبي نجيح وغيره يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا [سورة الأعراف:187]، قال: استَحْفيتَ عنها السؤال حتى علمتَ وقتها.
فقوله -تبارك وتعالى-: يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا [سورة الأعراف:187] الحفي بالشيء هو العالم به، كما قال ابن فارس - رحمه الله - وذكر له معنى آخر وهو: كثرة السؤال عن الشيء.
وقد ذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله - لمعنى قوله: حَفِيٌّ عَنْهَا معنيين:
المعنى الأول: كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا جملة معترضة، ويكون المعنى يسألونك عنها أي عن الساعة كأنك حفي بهم، للقرابة التي بينك وبينهم، لتطلعهم على أمر لم يطلع عليه أحد من الخلائق، وورد هذا في بعض القراءات الشواذ.
المعنى الثاني: كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا، أي: استحفيتَ عنها بالسؤال واستقصيت أمرها حتى علمت وقتها، وهذا القول هو الأقرب، والله تعالى أعلم .
وروى مسلم في صحيحه عن عائشة - ا - قالت: كانت الأعراب إذا قدموا على رسول الله ﷺ سألوه عن الساعة، متى الساعة؟ فينظر إلى أحدث إنسان منهم فيقول: إن يعش هذا لم يدركه الهرم حتى قامت عليكم ساعتكم[6]، يعني بذلك موتهم الذي يفضي بهم إلى الحصول في برزخ الدار الآخرة، ثم روى مسلم عن أنس أن رجلاً سأل رسول الله ﷺ عن الساعة، فقال رسول الله ﷺ: إن يعش هذا الغلام فعسى أن لا يدركه الهرم حتى تقوم الساعة[7] انفرد به مسلم. وعن جابر بن عبد الله - ا - قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول قبل أن يموت بشهر: تسألوني عن الساعة وإنما علمها عند الله، وأقسم بالله ما على ظهر الأرض اليوم من نفس منفوسة تأتي عليها مائة سنة[8]. رواه مسلم.
بعض الذين كانوا يسألون النبي ﷺ عن الساعة لم يكن سؤالُهم سؤالَ تعجيز أو استهزاء أو اختبار، وإنما كان سؤال استعلام.
وفي قول النبي ﷺ وأقسم بالله ما على الأرض... دليل على أن الخضر قد مات، وفيه رد على الصوفية الذين يقولون بحياة الخضر إلى الآن.
ولا يدخل الدجال في عموم هذا الحديث؛ لأنه يعيش في جزيرة من جزر البحر ولا يراه الناس وهو من أمر الغيب.
قال ابن عمر - ا - : وإنما أراد رسول الله ﷺ انخرام ذلك القرن.
أي أنه ﷺ لم يقصد أن البشرية تهلك وتموت على رأس المائة سنة، وإنما المقصود: أولئك الذين كانوا أحياء.
الحديث بهذا السياق فيه ضعف، لكن بعض الجمل الواردة في هذا الحديث -كما هو معلوم- ثابتة في أحاديث أخرى.
وقد مضت أكثر العلامات الصغرى، وهي مؤذنة بقرب وقوع الساعة، وقد قال النبي ﷺ : بعثت أنا والساعة كهاتين [12].
والعلامات الكبرى مؤذنة بأن الساعة على وشك الوقوع، وقد ذكر النبي ﷺ أن هذه العلامات الكبرى تتابع تتابعاً سريعاً كالعقد إذا انفرط[13]، وكل هذا يشعر بقرب قيام الساعة، واللحظة التي تقع فيها القيامة هي لحظة سريعة كما قال الله : وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [سورة النحل:77]، وهذه اللحظة لا يعلمها إلا الله .
وفي بدايات العلامات الكبرى، يكون أهل الإيمان مع عيسى ﷺ حتى تأتي الريح الطيبة وتأخذ أرواحهم فيموتون من تحت آباطهم، ولهذا يقول النبي ﷺ : لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس[14]فهم يتسافدون في الطرقات تسافد الحمر، ولا تقوم الساعة ويقال في الأرض: الله الله، يعني لا يُعرف الله فعندئذ تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت من مغربها، آمن الناس أجمعون، فذلك حين لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [سورة الأنعام:158].
وقد قال بعض أهل العلم: إذا طلعت الشمس من مغربها آمن الناس أجمعون، ثم ترجع إلى طبيعتها، فينسى الناس هذه الآية ويرجعون إلى حالهم التي كانوا عليها فعندئذ تنفع التوبة، ولكن هذا قول ضعيف، والأقرب أن باب التوبة يغلق إذا طلعت الشمس من مغربها إلى أن تقوم الساعة، وتقوم على شرار الناس.
عن طارق بن شهاب قال: كان رسول الله ﷺ لا يزال يذكر من شأن الساعة حتى نزلت: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا [سورة الأعراف:187]، ورواه النسائي وهذا إسناد جيد قوي.
فهذا النبي الأمي سيد الرسل وخاتمهم محمد ﷺ، نبي الرحمة ونبي التوبة ونبي الملحمة والعاقب والمقفّي والحاشر الذي تحشر الناس على قدميه، مع قوله فيما ثبت عنه في الصحيح من حديث أنس وسهل بن سعد - ا - : بعثت أنا والساعة كهاتين، وقرن بين أصبعين السبابة والتي تليها[16]، ومع هذا كله قد أمره الله أن يرد علم وقت الساعة إليه إذا سئل عنها، فقال: قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [سورة الأعراف:187].
الحاشر الذي يحشر الناس على قدمه فكأنه بعث ليحشر الناس، والعاقب الذي جاء عقب الأنبياء وليس بعده نبي، والمقفّي هو الذي قفى على آثار من تقدمه، فقفى الله به على آثار من سبقه من الرسل، وهذه اللفظة مشتقة من القفو، يقال: قفاه يقفوه إذا تأخر عنه، ومنه قافية الرأس وقافية البيت.
- رواه البخاري كتاب الرقائق، باب طلوع الشمس من مغربها، (5/2386)، برقم: (6141).
- رواه البخاري (4/1793)، برقم: (4499)، كتاب الإيمان، باب إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [سورة لقمان:34] ، ومسلم كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله وبيان التبري ممن لا يؤمن بالقدر وإغلاظ القول في حقه، (1/39)، برقم: (9).
- رواه البخاري (4/1793)، برقم: (4499)، كتاب الإيمان، باب إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [سورة لقمان:34] ، ومسلم كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله وبيان التبري ممن لا يؤمن بالقدر وإغلاظ القول في حقه، (1/39)، برقم: (9).
- رواه البخاري (4/1793)، برقم: (4499)، كتاب الإيمان، باب إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [سورة لقمان:34] ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله وبيان التبري ممن لا يؤمن بالقدر وإغلاظ القول في حقه، (1/39)، برقم: (9).
- سنن النسائي الكبرى (3/446)، برقم: (5883).
- رواه مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب قرب الساعة، (4/2269)، برقم: (2952).
- رواه مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب قرب الساعة (4/2269)، برقم: (2953).
- رواه مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي ﷺ : لا تأتي مائة سنة وعلى الأرض نفس منفوسة اليوم (4/1966)، برقم: (2538).
- عن عبد الله بن عمر ا قال: صلى بنا النبي ﷺ العشاء في آخر حياته فلما سلم قام، فقال: أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد رواه البخاري، كتاب العلم، باب السمر في العلم، (1/55)، برقم: (116)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب قوله ﷺ لا تأتي مائة سنة وعلى الأرض نفس منفوسة اليوم، (4/1965)، برقم: (53).
- رواه الإمام أحمد (1/375)، برقم: (3556 )، وقال محققو المسند إسناده ضعيف.
- رواه ابن ماجه (2/1365)، برقم: (4081)، وضعفه الألباني في ضعيف ابن ماجه (9 / 81)
- رواه البخاري، كتاب الرقائق، باب قول النبي ﷺ بعثت أنا والساعة كهاتين (5/2385)، برقم: (6140)، ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب قرب الساعة، (4/2268)، برقم: (2950).
- عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ , قال: خروج الآيات , بعضها على إثر بعض، يتتابعن كما تتتابع الخرز في النظام المعجم الكبير للطبراني (19 / 334)، برقم: (814)، قال الألباني صحيح بشواهده. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم (3210).وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله ﷺ: الآيات خرزات منظومات في سلك، فإن يقطع السلك ... رواه أحمد (11 / 617)، برقم (7040)، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (4 / 261)، برقم (1762).
- رواه مسلم، باب قرب الساعة، كتاب الفتن وأشراط الساعة (4/2268)، برقم: (2949).
- رواه أحمد (5/389)، برقم: (23354)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة(6 / 274).
- رواه البخاري، كتاب الرقائق، باب قول النبي ﷺ بعثت أنا والساعة كهاتين (5/2385)، برقم: (6140)، ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب قرب الساعة، (4/2268)، برقم: (2950).