السبت 16 / محرّم / 1447 - 12 / يوليو 2025
قُل لَّآ أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُ ۚ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ لَٱسْتَكْثَرْتُ مِنَ ٱلْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ ٱلسُّوٓءُ ۚ إِنْ أَنَا۠ إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [سورة الأعراف:188].
أمره الله تعالى أن يفوض الأمور إليه، وأن يخبر عن نفسه أنه لا يعلم الغيب المستقبل، ولا اطلاع له على شيء من ذلك إلا بما أطلعه الله عليه، كما قال تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا [سورة الجن:26].
قال الضحاك عن ابن عباس - ا - : وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ [سورة الأعراف:188] أي: من المال، وفي رواية: لعلمت إذا اشتريت شيئاً ما أربح فيه، فلا أبيع شيئاً إلا ربحت فيه.


في معنى الخير المذكور في قوله – تبارك وتعالى - : وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ [سورة الأعراف:188]، قولان:
الأول: الخير هو المال وهذه الآية كقوله – تبارك وتعالى- : وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [سورة العاديات:8] أي لحب المال، وكقوله: إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [سورة البقرة:180] يعني: إن ترك مالاً، وكقوله: قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ [سورة البقرة:215]، أي: من مال.
الثاني: لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ أي: من العمل الصالح الذي يقربني إلى الله - تبارك وتعالى - والأقرب - والله تعالى أعلم - هو القول الأول، لأنه الأكثر وروداً في القرآن، والنبي ﷺ كان مجتهداً في طاعة الله وهذا لا يحتاج أن يعلم الغيب.

وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ [سورة الأعراف:188] ولا يصيبني الفقر، وقال ابن جرير وقال آخرون: معنى ذلك لو كنت أعلم الغيب لأعددت للسنة المجدبة من المخصبة، ولوقت الغلاء من الرخص، فاستعددت له من الرخص.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ [سورة الأعراف:188] قال: لاجتنبت ما يكون من الشر واتقيته، ثم أخبر أنه إنما هو نذير وبشير، أي: نذير من العذاب، وبشير للمؤمنين بالجنات كما قال تعالى: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا [سورة مريم:97].


وردت آيات تدل على أن الرسل – عليهم الصلاة والسلام - لا يعلمون الغيب، فهذا نوح يقول: إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي [سورة هود:45]، فقال الله له: فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [سورة هود:46]، وكذلك إبراهيم ﷺ ذبح عجله وأنضجه، وأتعب أهله في صنع الطعام، ثم بعد ذلك لم يعلم أن هؤلاء من الملائكة وأنهم لا يأكلون، ولوط قال لقومه: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ۝ قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ [سورة هود:180-181]، فلم يكن يعرف أن الضيوف الذين أتوه ملائكة، إلى غير هذا من الأمثلة الكثيرة التي تدل على أن الرسل – عليهم الصلاة السلام - وهم أشرف الخلق لا يعلمون الغيب، فالذين يضللون الناس ويقولون: إن النبي ﷺ يعلم الغيب، أو أن الأولياء يعلمون الغيب، ماذا سيقولون في مثل هذه الآيات؟ الله المستعان.

مرات الإستماع: 0

"وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ براءة من علم الغيب، واستدلال على عدم علمه."

هذا المعنى الذي ذكره كأنه ظاهر براءة من علم الغيب، واستدلال على عدم علمي يعني هو يستدل على عدمه؛ لأنه لو علم لاستكثر من الخير فهذا ظاهر الآية بلا شك، لكن هذا الخير المراد لاستكثرت من الخير هذا الخير ما هو ما المراد به؟

 فسره الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - بالمال[1] باعتبار أنه هكذا يرد في القرآن، وإنه لحب الخير لشديد يعني المال أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ [الأحزاب: 19] يعني المال في صفة المنافقين، وكقوله تعالى: إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ [البقرة: 180] هو المال قطعًا.

وبعضهم يقول: لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ [الأعراف: 188] يعني العمل الصالح هذا جاء عن مجاهد[2] وغيره باعتبار أن النبي ﷺ لم يكن حريصًا على المال، ولكن من فسره بالمال اعترض على هذا القول الآخر، يعني أن المقصود العمل الصالح لاستكثرت من العمل الصالح، قالوا: كان النبي ﷺ مستكثرا من العمل الصالح، لم يكن ﷺ مفرطًا، ولا مسوفًا.

"قوله تعالى: وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ [الأعراف: 188] عطف على لاستكثرت من الخير، أي: لو علمت الغيب لاستكثرت من الخير، واحترست من السوء، ولكن لا أعلمه فيصيبني ما قدر لي من الخير، والشر.

وقيل: إن قوله: وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ استئناف إخبار، والسوء على هذا هو الجنون، واتصاله بما قبله أحسن.

قوله تعالى: لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يجوز أن يتعلق ببشير، ونذير معا، أي: أبشر المؤمنين، وأنذرهم."

كما قال الله : فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [ق: 45] إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ [فاطر: 18] إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ [يس: 11] فقد يخص بالإنذار من يخاف الوعيد باعتبار أنه المنتفع به، وإلا فالنبي ﷺ هو منذر للجميع، فهنا خصه بالمؤمنين لكونهم من ينتفع بذلك، وإلا فالنذارة للجميع كما هو معلوم لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام: 19] نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ [الأعراف: 188] وقال: أي: أبشر المؤمنين، وأنذرهم. 

"وخص بهم البشارة، والنذارة؛ لأنهم هم الذين ينتفعون بها، ويجوز أن يتعلق بالبشارة وحدها، ويكون المتعلق بنذير محذوف، أي: نذير للكافرين، والأوّل أحسن."

باعتبار أنه ينذر من عصى، ويبشر من أطاع، وهذا يكون لأهل الإيمان، ولا إشكال، وكذلك أيضًا هو منذر للكافرين يقول: والأول أحسن، وهذا الذي اختاره الواحدي[3] ومن المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي[4] والطاهر بن عاشور[5].

لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 203] يقول: يجوز أن يتعلق بنذير، وبشير يعني نذير، وبشير لقوم يؤمنون؛ فيكون الإنذار، والبشارة للمؤمنين باعتبار أنهم المنتفع، وإلا فهو نذير، وبشير لكل أحد. 

  1.  العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (4/385).
  2.  انظر: تفسير الطبري (10/616) وتفسير ابن كثير (3/524).
  3.  انظر: التفسير الوسيط للواحدي (2/434).
  4.  العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (4/386).
  5.  التحرير، والتنوير (9/209).