وقوله: وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ إنما قال: ينظرون إليك أي يقابلونك بعيون مصورة، كأنها ناظرة وهي جماد، ولهذا عاملهم معاملة من يعقل؛ لأنها على صورة مصورة كالإنسان، وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ فعبر عنها بضمير من يعقل.
هذه الآيات تتحدث عن آلهة المشركين وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ فإنك إذا نظرت إلى التمثال المصور الذي له أعين، تراه كأنه ينظر إليك، ينظر إلى من ينظر إليه، أو يقابله، لكنه لا يبصر، وهذا ظاهر السياق، ومن أهل العلم من قال: وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ أي: المشركين، وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ أي: لا يبصرون الحق، لكن هذا القول بعيد، والذي ألجأ القائل إلى هذا القول التعبير بصيغة العقلاء في قوله: وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ، ولم يقل تنظر إليك هذا أمر، والأمر الآخر هو: أن الأصنام لا تنظر، فقالوا: المراد العُبَّاد لهذه الأصنام، وهذا لا داعي له؛ لأن هذه التماثيل على هيئة من ينظر، وإن كانت لا تبصر، والسياق كله في هذا، وإرجاع الضمائر إلى مرجع واحد أولى من التفريق بها بلا شك، وقال في هذه الآيات: وَإِن تَدْعُوهُمْ ولم يقل: وإن تدعها إلى الهدى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ، ولم يقل: لا تتبعكم، وقال: وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ ولم يقل: تنظر إليك.
وقوله: وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ أي: لا تبصر، ثم قال: لاَ يَسْتَطِيعُونَ ولم يقل: لا تستطيع، فالتعبير عن غير العقلاء بهذه الطريقة: لا تستطيع، تنظر، وعن العقلاء: ينظرون، يستطيعون، وما أشبه ذلك، فعبر عنها بهذه الصيغة التي تكون للعقلاء؛ لأن هؤلاء ما جعلوها مجرد عقلاء، بل جعلوها آلهة، فجاراهم في ذلك، والخطاب في القرآن قد يأتي بحسب نظر المخاطب، وإن كان المخاطب لا يعتقده، وهو نوعان: قد يكون لاعتقاد المخاطب باطلاً، وقد يكون صحيحاً، فقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [سورة الحجر:6] خاطبوه بناء على قوله واعتقاده، والمخاطِب لا يعتقد هذا، لا يعتقد أنه نزل إليه الذكر، وهو حق كونه أنزل إليه الذكر، وأحياناً لا يكون صحيحاً، والمخاطب لا يعتقده مثل هذا، فهؤلاء ليسوا بآلهة، كما يُسمي أحياناً شبهات الكفار حجة، حُجَّتُهُمْ، مع أنها شبهة، ولكن قال هذا بناء على اعتقادهم أنها حجج، ويسمي هذه المعبودات الباطلة أحياناً آلهة بناء على اعتقادهم، جعلوها آلهة، وهكذا التعبير عنها بهذه الصيغ، فإذا نُزِّل غير العاقل منزلة العاقل عومل معاملته، كما قال يوسف ﷺ: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [سورة يوسف:4]، ولم يقل: رأيتها لي ساجدة؛ لأن الشمس والقمر أضيف إليها فعل من أفعال العقلاء وهو السجود، فعوملت معاملة العقلاء، - والله تعالى أعلم -.