قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [سورة الأعراف:199-200].
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: خُذِ الْعَفْوَ أمره الله بالعفو والصفح عن المشركين عشر سنين، ثم أمره بالغلظة عليهم.
وقال غير واحد عن مجاهد في قوله: خُذِ الْعَفْوَ قال: من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تجسس.
وقال هشام بن عروة عن أبيه: أمر الله رسول الله ﷺ أن يأخذ العفو من أخلاق الناس، وفي رواية قال: خذ ما عُفي لك من أخلاقهم.
وفي صحيح البخاري عن هشام عن أبيه عروة عن أخيه عبد الله بن الزبير - ا - قال: "إنما أنزل خُذِ الْعَفْوَ من أخلاق الناس"[1].
وفي رواية لغيره عن هشام عن أبيه عن ابن عمر - ا -، وفي رواية عن هشام عن أبيه عن عائشة - ا - أنهما قالا مثل ذلك والله أعلم.
وروى ابن جرير وابن أبي حاتم جميعاً حدثنا يونس قال: حدثنا سفيان هو ابن عيينة عن أميٍّ قال: لما أنزل الله على نبيه ﷺ : خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ، قال رسول الله ﷺ : ما هذا يا جبريل؟ قال: إن الله أمرك أن تعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك[2].
فقوله - تبارك وتعالى - : خُذِ الْعَفْوَ فيها ثلاثة معانٍ، المعنى الأول: الصفح عن إساءة المسيء، والإعراض والتجاوز عن ذلك بحيث لا يقف عند الإساءة، والمعنى الثاني: وهو ما عفا أي: زاد فيما يتصل بأموال الناس، بحيث يتصدق بما زاد عن حاجته وحاجة أهله، وهذا كان في أول الإسلام، حينما كان الناس في شدة وضيق، فقد قال بعض أهل العلم: لا يجوز للإنسان أن يدخر شيئاً، وهذا الذي فارق عليه أبو ذر النبي ﷺ، وذهب إلى قومه وبقي فيهم سنين متطاولة، ثم جاء إلى النبي ﷺ في المدينة بعد ذلك بزمن طويل وكان الله قد وسع على المسلمين، وصار يجوز للإنسان أن يدخر، وأن ذلك لا يكون كنزاً وأنه إذا أخرج الزكاة برئت ذمته، وأما أبو ذر فكان يرى أن كل ما يُدخر فهو كنز يكوى به جبينه وجنبه وظهره، وخالفه على هذا الصحابة ، والمعنى الثالث - وهو المعنى المشهور الذي عليه عامة السلف وهو الأقرب في تفسيرها والله تعالى أعلم - : أن المراد خُذِ الْعَفْوَ أي: من أخلاق الناس، فيكون المعنى لا تستقصِ الناس في معاشرتهم ومخالطتهم، وتطلب حقك منهم، فلا تطالبهم بكل حقوقك وتدقق معهم في هذا، وتستقصِ كل حق، فلا تفوت شيئاً لا دقيقاً ولا جليلاً، فإن من فعل ذلك فإنه سيتعب ويُتعب الناس، فالنفس من شأنها أن تضعف، ويكون لها حالات من الإقبال والإدبار، وقد تسوء النفس وتسوء الطباع والأخلاق بسبب ظاهر، أو بغير سبب أحياناً، فالنفس تمر في حالات من الارتفاع والهبوط، فالبشر من طبيعتهم الضعف والتقصير والعجز، فخذ العفو: يعني ما جاء منهم سهلاً بإقبال نفس فاقبل به، ولا تطالبهم بأكثر من هذا، وهذا أصل كبير في التعامل مع الناس، وراحة لقلبك ولهؤلاء الناس أيضاً، أما الذي يريد أن يحاسب الناس على كل صغيرة وكبيرة، ماذا قالوا وماذا فعلوا؟ وكيف تصرفوا وكيف استقبلوه، وطريقتهم في الاستقبال؟، أو أنهم ما اكترثوا به أو ما أعاروه اهتماماً، وكأنهم لا يعرفونه حينما سلموا عليه، ثم يغضب، فمثل هذا سيتعب، وسيُتعب الآخرين معه، وإذا عرفوا منه ذلك، فإنهم سيتكلفون ويتصنعون له، فيكون مستثقلاً، فهذا أحسن ما فسرت به - والله تعالى أعلم - ، وهو اختيار ابن جرير وابن القيم، - رحمهم الله -.
قوله: وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ قال: العرف هو المعروف، والمعروف هو: كل خصلة جميلة يحبها الله ورسوله ﷺ ، كل ما تطمئن إليه النفوس، وتستحسنه العقول السوية من الأقوال والأعمال، وكل ما جاء به الرسول ﷺ فهو من المعروف، فالمعروف أقرتْ بحسنه الشريعة، وما يدرك منه بالعقل؛ فإن العقول تستحسنه، ولا يمكن للعقول السوية أن تستقبح المعروف، لكنها قد تتوقف في البعض بحيث لا تدرك ما فيه من الحسن، وإنما يُعرف ذلك من جهة الشرع فيما لا مجال للعقول في إدراكه، فمن الأفعال ما فيه حسن ذاتي، يُدرك بالعقل وإن لم يأت النقل بتقريره، وهناك أشياء لها قبح ذاتي، ولو لم يأت النقل بذمها، فالكذب والزنى والفواحش والظلم كلها قبائح، تدرك ذلك العقول السوية، وجاءت الشرائع بتقرير هذا، فمثل هذه الأمور قررها العقل والنقل، ولا يقال الشرع والعقل؛ لأن العقل الصحيح هو من جملة أدلة الشرع، فلا يقابل بالشرع، وإنما يقال: العقل والنقل، وأدلة الشرع: العقل والنقل والفطرة، وقوله: خُذِ الْعَفْوَ جمعت أصولاً عظيمة، ومعناها أي: لا تستقصِ في التعامل مع الناس، وتستأصل حقك منهم، وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ أي: اؤمرهم بما يعمر القلوب، ويهذب الأخلاق، ويرفعهم، ويقبل ذلك من يقبله، وينتفع به من ينتفع، ويستجيب من يستجيب، وستجد سفهاء لا يتعاملون بطريقة صحيحة، يصدر منهم ما يؤذيك، فهؤلاء لا تقفْ معهم على الإساءة ولا تُجارِهم بهذا، فتكون منحدراً منسفلاً، تستوِ معهم في أخلاقهم، وعدوانهم على الناس، وجهالاتهم، وحماقاتهم، فإن الإنسان إذا نزل مع هؤلاء وأراد أن يجاريهم فإنه يكون قِرناً لهم ونظيراً لهم، فتكون مرتبته بذلك منحطة، فالواجب على الإنسان أن يُعرض عن الجاهلين لقول الله: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [سورة الفرقان:63]، وقوله: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [سورة القصص:55]، فإذا مروا باللغو أعرضوا عنه، واللغو يشمل جهالات الجاهلين، فالله - تبارك وتعالى - أمر بالصفح والعفو والإعراض في القرآن، إزاء جهالات الجاهلين وحماقاتهم، إلا في موضع واحد - قال الله : وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ [سورة الشورى:39] في مقام المدح للمؤمنين، وهذا لا يعارض الآيات الأخرى ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سورة المؤمنون:96، وسورة فصلت:34]، وإنما يُحمل ذلك -والله تعالى أعلم- على معنى وهو أن الإنسان إذا كان في مقام يورثه المذلة، ففي هذا الموطن يتعين الانتصار، فالمؤمن لا يكون ذليلاً، فالعفو الذي يورده موارد الذل لا يقبل به، لا يُستذل، يُستذل ثم يُستذل ثم يُستذل ويقول: أعفو وأصفح، وإنما العفو الممدوح هو الذي يزيد الإنسان عزةً ورفعةً، والعفو الذي يزيد المؤمن ذلة وضعة وهواناً هذا لا ينبغي أن يكون للمؤمن؛ لقول النبي ﷺ : لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه[3]، فجاء في هذا الموضع الواحد وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ.
وفي هذه السورة يقول: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وستجد من مخالطة الناس التقصير في حقك فخذ العفو ولا تعنتهم، وأمُر بطاعة الله وطاعة رسوله ﷺ ، وبكل قول وفعل جميل، ومع هذا فستجد منهم ما تتأذى به من الأقوال والأفعال ممن لا يحسبون للكلمة حساباً، ولا ينضبطون بضوابط الشرع، فمثل هؤلاء لا تهبط معهم ولا تُجارِهم في هذه الجهالات والحماقات، فتكون بمنزلتهم - والله أعلم- .
هذا يوضح عدل عمر الذي يضرب به المثل والذي هو في قمة النزاهة، والزهد، والخوف من الله ، يقول: لو عثرت بغلة في العراق لكنت مسئولاً عنها، ويقول: لئن بقيت ليصلنّ هذا المال إلى راعي الغنم في غنمه على جبل في صنعاء دون أن يأتي إليه، ويخرج يطارد بعيراً من إبل الصدقة خارج المدينة، ويمشي وهو يستقبل في الفتح، فتح الشام، بلاد إمبراطورية وفيها ناس ووجهاء وناس يستقبلونه، يأتي يخوض الماء رافعاً ثيابه، ويتعاقب عليه هو والخادم وفترة يجعلونه يرتاح، ليس لديه موكب ولا حرس ولا غير ذلك.
وقد أخذ بعض الحكماء معنى الآية فسبكه في بيتين فيهما جناس فقال:
خذ العفو وأمر بعرف كما | أُمرتَ وأعرض عن الجاهلين |
ولِن في الكلام لكل الأنام | فمُستحسَن من ذوي الجاهلين |
وقال بعض العلماء: الناس رجلان، فرجل محسن فخذ ما عفا لك من إحسانه، ولا تكلفه فوق طاقته، ولا ما يحرجه، وإما مسيء فمُره بالمعروف، فإن تمادى على ضلاله واستعصى عليك واستمر في جهله فأعرض عنه فلعل ذلك أن يرد كيده، كما قال تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ [سورة المؤمنون:96-98]، وقال تعالى: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [سورة فصلت:34-35]، أي: هذه الوصية.
- رواه البخاري برقم (4367)، كتاب التفسير، باب خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [سورة الأعراف:199].
- رواه ابن جرير الطبري في جامع البيان في تأويل القرآن (13/330)، برقم (15548)، وابن أبي حاتم في تفسيره (6/320)، برقم (9449).
- رواه الترمذي برقم (2254)، كتاب الفتن عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في النهي عن سب الرياح، وابن ماجه برقم (4016)، كتاب الفتن، باب قوله تعالى: يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم، وأحمد في المسند (38/435)، برقم(23444)، وقال محققوه: إسناده ضعيف من أجل علي بن زيد بن جدعان، من حديث حذيفة ، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2/112)، برقم (413).
- رواه البخاري برقم (4366)، كتاب التفسير، باب خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [سورة الأعراف:199].