الثلاثاء 01 / ذو القعدة / 1446 - 29 / أبريل 2025
وَإِخْوَٰنُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِى ٱلْغَىِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ۝ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ [سورة الأعراف:201-202].
يخبر تعالى عن المتقين من عباده الذين أطاعوه فيما أمر وتركوا ما عنه زجر، أنهم إذا مسهم أي: أصابهم طيف، وقرأ الآخرون طَائِفٌ، وهما قراءتان مشهورتان فقيل بمعنى واحد، وقيل بينهما فرق، ومنهم من فسر ذلك بالغضب ومنهم من فسره بمس الشيطان بالصرع ونحوه، ومنهم من فسره بالهم بالذنب، ومنهم من فسره بإصابة الذنب، وقوله: تَذَكَّرُواْ...


قوله: إِذَا مَسَّهُمْ أي: أصابهم طيف، هذه قراءة متواترة، وهي قراءة أهل البصرة وابن كثير، إذا أصابهم طيف، وقرأ الآخرون طَائِفٌ وهما قراءتان مشهورتان، هما بمعنى واحد، وهذا هو المشهور، وذكر بعضهم فرقاً بينهما، فبعضهم قال: الطيف هو التخيل، والطائف: هو الشيطان، وهذا فيه بعد - والله تعالى أعلم -.
ثم اختلف العلماء في المراد بالطائف في قوله: إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ، فقيل: هو الشيطان، وقيل: هو الغضب، ويكون الطائف والطيف بمعنى الغضب، ومنهم من فسره بمس الشيطان بالصرع ونحوه، وقيل: الذنب، وقيل: نفس إصابة الذنب، وقيل: هو الوسوسة؛ لأنها من إلمام الشيطان بقلب ابن آدم، وتشبه ما ألم به من الخيال في قلب الإنسان، وقيل: ما يتخيله قلب الإنسان أو ما يراه في المنام، والأقرب حمل الآية على هذه المعاني جميعاً - والله تعالى أعلم - .
قوله: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ أي: إذا ألم بهم لمم من الشيطان من غضب يحركهم إلى الانتقام، أو ألقى في قلبهم الوساوس والخواطر الرديئة، والأفكار المضلة، أو الإغراء بالشهوات، أو زين لهم المنكر، أو غير ذلك من المعاني التي ذكرها السلف، فإن الذين اتقوا إذا أصابهم هذا يتذكرون وعد الله ووعيده وثوابه وعقابه، فيورثهم هذا التذكر والتبصر عند حدود الله  ، فإذا كان هذا الذي ألقاه في قلبه هو الغضب وتحريكه إلى الانتقام تذكر ما عند الله  ، تَذَكَّرُواْ، لما قال معاوية  حين جاء إلى المدينة وكان يريد أن يأخذ البيعة لولده يزيد فتكلم بحضرة من حضر من الصحابة ومنهم ابن عمر وقال: من يرى أنه أحق منا بهذا الأمر، فليخرج قرنه فنحن أحق به منه ومن أبيه، يقول ابن عمر: فحللت حبوتي وهممت أن أتكلم، أراد أن يقول: أحق به منك، مَن قاتلك وأباك على الإسلام؟، لكنه تذكر ما عند الله، غضب وأراد أن يرد عليه، لكنه قال: تذكرت ما عند الله، إذا أصابهم طائف من الشيطان تذكروا، فعلى الإنسان أن يكون منضبطا بضوابط الشرع، فلا يصدر منه إلا ما يليق، لا يتحول إلى سفيه، فمن الناس من يقول: والله ما كنت أدري عن شيء، وربما قد حصل منه الطلاق أو الضرب العنيف، فيفتخر أنه إذا غضب ما يدري ما يقول، وما يعمل، أي أنه يتصرف كالمجنون في حال الغضب، إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ وفي حال الوساوس يأتي الشيطان فيشككه ويلبّس عليه فيتذكر، ويتبصر ويعرض عن هذا كله، ويكف عن الاسترسال مع هذه الوسوسة، وإذا ألم بذنب أو حصل له تزيين المنكر، فإنه يتذكر وعد الله ووعيده وثوابه وعقابه ويكف، فيوسف ﷺ دعته امرأة العزيز وغلقت الأبواب وقالت: هيت لك، قَالَ مَعَاذَ اللّهِ [سورة يوسف:23]، مع أن الله قال: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء [سورة يوسف:24]، فهم يوسف ﷺ من قبيل الخواطر التي لا يؤاخذ عليها الإنسان، وكان هم امرأة العزيز من قبيل العزم فقد غلقت الأبواب، ثم دعته إلى الفاحشة، والعزم هو التصميم على الأمر، فهذا ينزل منزلة الفعل ويحاسب الإنسان عليه، كقول النبي ﷺ : القاتل والمقتول في النار  لما سئل عن هذا قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه[1]، فالمقصود: أن الشيطان إذا أغوى الإنسان بالفاحشة أو بالمنكر، فإنه يتذكر ما عند الله ، ولا يستمر عليه، بل يتوب مباشرة ويتذكر أن هذا بلاء نزل به من الشيطان، ويندم على ما عمل، فيكون حاله أحسن من حاله قبل اقتراف الذنب، لما يقع في نفسه من الندم والتوبة، أما الإنسان الغافل اللاهي الذي استحوذ عليه الشيطان فإنه كما قال الله  : اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ [سورة المجادلة:19] فهو لا يرعوي ولا يكف، ولهذا قال بعده: وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ [سورة الأعراف:202]، أي: أن المتقين إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ : كفوا وَإِخْوَانُهُمْ أي: إخوان الشياطين من الإنس، يعني أن الإنسي أخ للشيطان من الجن، هذه الأخوة للمشابهة والمتابعة، كما قال الله لمن شابه غيره أو سار على سننه وخطاه فإنه يكون أخاً له: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ [سورة الإسراء:27]؛ لأنهم يسيرون على نهجهم، وشابهوهم، فهذا أحد المعاني في قوله تعالى: وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا [سورة الأحزاب:18]، ويحتمل أخوة النسب، ويحتمل الأخوة بالأمر الجامع المشترك حيث إنهم يسكنون المدينة، ويحتمل أن يكون الأخوة في الدين حيث إنهم من المنافقين مثلهم، فقال: وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ أي: أنهم عكس هؤلاء تماماً، يدخل في المنكر ويدخل في الفواحش ويسترسل ويستمر عليها، ولا يكف عنها بحال.

وقوله: تَذَكَّرُواْ أي: عقاب الله وجزيل ثوابه ووعده ووعيده، فتابوا وأنابوا واستعاذوا بالله ورجعوا إليه من قريب، فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ أي: قد استقاموا وصَحوا مما كانوا فيه.

وقوله تعالى: وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ أي: وإخوان الشياطين من الإنس، كقوله: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ [سورة الإسراء:27]، وهم أتباعهم والمستمعون لهم، القابلون لأوامرهم.

هذه الآية فيها كلام كثير لأهل العلم ما المراد بقوله: وَإِخْوَانُهُمْ؟، أي: الشياطين يمدون الإنس بالغي، أو الإنس إخوان الشياطين من الجن يمدونهم، والسبب في اختلافهم هو عود الضمير في يمدونهم، لكن الأقرب هو ما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - وَإِخْوَانُهُمْ يعني: إخوان الشيطان تمدهم في الغي، لا يزال يزين له الباطل والمنكر حتى يلقى الله على ذلك، لا يكف ولا ينقطع ولا يرعوي ولا يقصر، - والله تعالى أعلم - .

يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ أي: تساعدهم الشياطين على المعاصي وتسهلها عليهم وتحسنها لهم، وقال ابن كثير: المد الزيادة، يعني يزيدونهم في الغي، يعني الجهل والسفه ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ قيل معناه: إن الشياطين تمد الإنس لا تقصر في أعمالهم بذلك، كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا - في قوله: وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ الآية، قال: لا الإنس يقصرون عما يعملون، ولا الشياطين تمسك عنهم. لاَ يُقْصِرُونَ لا تفتر فيه ولا تبطل عنه، كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [سورة مريم:83]، قال ابن عباس - ا - وغيره: تزعجهم إلى المعاصي إزعاجاً.

قوله: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ [سورة الأنعام:128]، أي: فاستكثروا منهم بإغوائهم وإضلالهم، وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ [سورة الأنعام:128]، أي: أن الجن يستمتعون بطاعة الإنس لهم، وخوفهم منهم، وتعظيمهم لهم، فكان الواحد منهم إذا نزل وادياً قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، فينتفش الجن ويتعاظمون، ويقولون: سُدنا الإنس والجن، وكذلك ما يتقربون به إليهم من القرابين كفعل السحرة والكهنة، والضُّلال من بني آدم حيث يتقربون للجن بالذبح والنذر وما أشبه ذلك، فإذا سكن أحدهم داراً ذبح على البحر أو ذبح في أسس هذه الدار أو نحو هذا مما يستمتع به الجن، واستمتاع الإنس بالجن - كذلك أيضاً - يكون بنشد الضالة، والتعاون مع السحرة والشياطين، وقد يحصل على مطلوبه، وقد يعرف العلة والمرض، أو يعرف سحر من سحره، أو يسحر هذا ويفسد عليه عيشه، وينغص عليه حياته، ويفرق بينه وبين أهله، أو يبتز ماله، أو نحو ذلك مما يحصل على يد هؤلاء بإعانة الشياطين لهم، فكل هذا من استمتاع الإنس بالجن، واستمتاع الجن بالإنس، فهذه أخوة بينهم وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ

  1. رواه البخاري من حديث أبي بكرة   برقم (31)، كتاب الإيمان، باب وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فسماهم المؤمنين.

مرات الإستماع: 0

"طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ معناه لمة منه، كما جاء: إنّ للشيطان لمة، وللملك لمة[1]."

يعني هي فسرت بمعنى الدنو، والقرب بإخطار الخير، أو الشر، يعني يقترب الملك من القلب بإخطار الخير يلقيه فيه الخواطر الطيبة، والمعاني الطيبة، والشيطان كذلك، يعني إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا [الأعراف: 201] يعني عارض، أو وسوسة فأصل الطيف يدور على دوران الشيء على الشيء يطوف به من الطواف طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ وفسره ابن جرير - رحمه الله - قال: "إذا ألم بهم لمم من الشيطان من غضب، أو غيره مما يصد عن، واجب حق عليهم تذكروا عقاب الله، وثوابه، ووعده، ووعيده، وأبصروا الحق فعملوا به"[2].

وهذا الحديث الذي ذكره: إن للشيطان لمة حديث صحيح، الشيخ الألباني كان قد ضعفه، ثم تراجع عن ذلك، وصححه، تجدونه في بعض كتبه ضعف الحديث، وفي بعضها صححه، لكنه صححه في المتأخر منها.

"ومن قرأ طائف بالألف، فهو اسم فاعل، ومن قرأ طيف بياء ساكنة، فهو مصدر، أو تخفيف من طيف المشدّد، كميّت، وميت."

القراءة الأولى طائف هذه قراءة الجمهور، اسم فاعل، والقراءة الأخرى طيف هذه قراءة أبي عمر، وابن كثير، يقول: فهو مصدر، أو تخفيف من (طيّف) وقيل: هما بمعنى واحد يعني الطائف، والطيف.

وبعضهم يقول: الطيف التخيل، والطائف الشيطان.

وبعضهم يقول: الغضب.

وبعضهم يقول: مس الشيطان بالصرع، ونحوه، لكن ما علاقة هذا مس الشيطان بالصرع بالتذكر؟! فهذا أمر لا يرتبط بالصرع؛ لأن الصرع بغير إرادة الإنسان، فهو مما يغلب عليه تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ۝ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ [الأعراف: 201 - 202] وإنما المقصود بذلك الطائف يعني إذا أوقعه فيما يستكره، أو في معصية، ونحو ذلك، فيتذكر فإذا غضب لا ينفذ غضبه، وإنما يتذكر فيرجع، وهكذا إذا وقع في المعصية ارعوى، وتاب، ورجع لا يستمر. 

وبعضهم يقول: فسره بالهم بالذنب.

وبعضهم فسره بإصابة الذنب.

وبعضهم فسره بالوسوسة؛ لأنها من الشيطان لمة منه كلمة الخيال.وبعضهم يقول: ما يتخيل بالقلب، أو يرى في النوم، وبعض هذه المعاني قريب، وغير متنافي، فذلك يدخل فيه مسهم طائف من الشيطان المعصية، وكذلك الهم بها، وهكذا أيضًا ما يشبه ذلك مما يقع فيه الإنسان من الغضب فلا ينفذ غضبه مثلاً: إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ - والله أعلم -.

تَذَكَّرُوا حذف مفعوله ليعم كل ما يتذكر من خوف عقاب الله، أو رجاء ثوابه، أو مراقبته، والحياء منه، أو عداوة الشيطان، والاستعاذة منه، أو النظر، والاعتبار، وغير ذلك." 

هذا باعتبار أنه حذف المتعلق تَذَكَّرُوا ما قال: تذكروا عذابه، أو تذكروا عظمته، أو تذكروا ما ينبغي أن يتذكر، أو النار، أو نحو ذلك، وإنما قال: تَذَكَّرُوا والقاعدة أن: "حذف المتعلق يفيد العموم النسبي" وشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ذكر أن الشيطان إذا زين المعصية يجعل في القلب ظلمة، ويضعف نور الإيمان، ولهذا سماه طائفًا أي: يطيف بالقلب مثلما يطيف الخيال بالنائم، ويغيب عن القلب حينئذ من أمر الله، ونهيه، ووعده، ووعيده ما يناقض ذلك، فإذا كان العبد متقيًا لله أمده الله - تعالى - بنور الإيمان، فذكر ما في الذنب من عذاب الله، وسخطه، وما يفوته به من كرامة الله، وثوابه"[3] وهذا معنى جيد، وتفسير متين لهذا الموضع، وذكر غيره أن قوله: تَذَكَّرُوا يعني أن هذا من عدوهم الشيطان، وإغوائه، وما أمر الله به في هذه الحال من الاستعاذة به، والالتجاء إليه في الحفظ منه.

وبعضهم يقول: تذكروا أمر الله تعالى، أو ما أمر الله به، وما نهى عنه، أو تذكروا العقاب لمن أطاع الشيطان، وعصى الله، تذكروا جزيل الثواب لمن عصاه كما سبق، وتذكروا الوعد، والوعيد.

فهذه الأقوال ترجع إلى معنى واحد، فيعمها اللفظ باعتبار حذف المتعلق، تذكروا ما يفوتهم من الخير، تذكروا عداوة الشيطان، تذكروا وعد الله، ووعيده، كل هذه المعاني ترجع إلى شيء واحد - والله أعلم -. 

"قوله تعالى: فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ هو من بصيرة القلب."

فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ مبصرون ماذا؟ هنا حذف المتعلق أيضًا مبصرون هدى الله، يبصرون مكائد الشيطان، مبصرون مواطن الزلل، فينتهون عن المعصية.

"وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ الضمير في إخوانهم للشياطين، وأريد بقوله: طائف من الشيطان: الجنس، ولذلك أعيد عليه ضمير الجماعة، وإخوانهم هم الكفار، ومعنى يَمُدُّونَهُمْ يكونون مددا لهم، أي يعضدونهم، وضمير المفعول في يمدّونهم للكفار، وضمير الفاعل للشيطان.

ويحتمل أن يريد بالإخوان: الشياطين، ويكون الضمير في وإخوانهم للكفار، والمعنى على الوجهين: أنّ الكفار يمدّهم الشيطان، وقرئ يمدّونهم بضم الياء، وفتحها، والمعنى واحد، وفي الغيّ: يتعلق بــ يَمُدُّونَهُمْ وقيل: يتعلق بإخوانهم، كما تقول: إخوة في الله، أو في الشيطان."

قوله هنا: وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ الغي خلاف الرشد، والانهماك في الباطل، يقول: الضمير في قوله: وَإِخْوانُهُمْ للشيطان، الشياطين هذا لو كان يعني من قبيل المعنى، والتفسير لكن هو يتحدث عن الآية نص الآية: إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ۝ وَإِخْوَانُهُمْ [الأعراف: 201 - 202] يعني هو من حيث المعنى، وإخوان الشياطين تمدهم الشياطين في الغي، وإخوانهم الأصل أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ۝ وَإِخْوَانُهُمْ [الأعراف: 201 - 202] يعني آخر ما ذكر هنا الشيطان، وأريد بقوله: طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ الجنس يعني الشياطين ليس إبليس مثلا فقط فلذلك أعيد عليه ضمير الجماعة وَإِخْوانُهُمْ وهم الكفار، ومعنى يَمُدُّونَهُمْ أي: يزينون لهم، ويطيلون لهم فيه يعني يمدونهم في الغي، وضمير المفعول في يمدونهم للكفار، يعني يمدون الكفار، وضمير الفاعل من الذي يمد هو الشيطان، وهذا قول الجمهور أن إخوان الشياطين تمدهم الشياطين في الغي، فينتج عن ذلك أنهم يستمرون فيه، فلا يرعوون، ولا يتوبون، ولا يرجعون، وهذا القول مروي عن جماعة كثير من السلف، فمن بعدهم ابن عباس، والسدي، ومجاهد، وقتادة[4] وغير هؤلاء، وهو قول الجمهور.

يقول: ويحتمل أن يريد بالإخوان يعني الشياطين؛ ويكون الضمير في وَإِخْوَانُهُمْ للكفار يعني يمدون الشياطين في الغي بإغواء الناس، وهذا اختاره صاحب "التفسير الكبير"[5] لكن الأول أقرب.

قال: والمعنى على الوجهين أن الكفار يمدهم الشيطان. وقرئ يُمُدونهم هذه قراءة نافع، وهي التي مشى عليها المؤلف في هذا الكتاب، وبالفتح يمدونهم هي قراءة الجمهور، والمعنى واحد.

 "قوله تعالى: ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ أي: لا يقصر الشياطين عن إمداد إخوانهم من الكفار، أو لا يقصر الكفار عن غيهم."

كما سبق بناء على المعنيين أي: لا يقصر الشياطين، هذا اختاره الشنقيطي - رحمه الله -[6] ثم لا يقصرون يعني الشياطين تستمر في الإمداد لا يقصرون، ولا يسأمون، أو لا يقصر الكفار عن غيهم، الكفار يستمرون في الغي، وجمع بين هذين القولين ابن جرير - رحمه الله -[7] ومن المعاصرين الشيخ عبد الرحمن السعدي[8] وهذا جيد، فلا الشياطين تقصر فهي مستمرة بالإغواء، والإمداد، ولا هؤلاء يرعوون، ويتوبون، ويرجعون عما هم فيه من الغي، فالكل مستمر، هؤلاء يمدون، وهؤلاء يستمرون في كفرهم، وباطلهم، وغيهم.

وجاء عن ابن عباس - ا -: "لا الإنس يقصرون عما يعملون، ولا الشياطين تمسك عنهم"[9] وهذا جمع بين القولين، وهذه من النصوص القليلة، الجميلة التي تدل على بعض ما يذكر من الأصول في التفسير، والقواعد، يعني لو تتبعت بدقة في آثار السلف، واستخرجت بالمناقيش، لكان ذلك في غاية النفع.

"وفي الآية من أدوات البيان لزوم ما لا يلزم بالتزام الصاد قبل الراء في مبصرون، ولا يقصرون." 

معنى لزوم ما لا يلزم يعني أن يلتزم بالقافية، أو يعني ما يقوم مقامها في الشعر، أو في النثر قبل الحرف الأخير من الأبيات مثلاً في الشعر، أو السجعات في النثر ما لا يلزمه، كأن يكون الحرفان الأخيران متماثلين في كل القوافي، أو الحروف الثلاثة الأخيرة، أو تكون الكلمات متماثلة في الوزن، وإن اختلفت الحروف، كقوله مثلا: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ۝ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ [الضحى: 9 - 10] فهنا في الحرفين الأخيرين الهاء، والراء جاءت متماثلة، فهذا يسمونه لزوم ما لا يلزم، مبصرون يقصرون هذه الحروف أربعة التي حصل بها التوافق الأربعة الأخيرة. 

  1.  أخرجه الترمذي، أبواب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ باب، ومن سورة البقرة، برقم (2988) وقال: "هذا حديث حسن غريب" والنسائي في السنن الكبرى، برقم (10985) وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، برقم (1963).
  2.  تفسير الطبري (10/646).
  3.  انظر: مجموع الفتاوى (17/522).
  4.  انظر: تفسير ابن كثير (3/535).
  5.  انظر: تفسير الرازي (مفاتيح الغيب، أو التفسير الكبير) (15/438).
  6. العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (4/447).
  7.  تفسير الطبري (10/650 - 651).
  8.  تفسير السعدي (ص: 313).
  9.  تفسير الطبري (10/651) وتفسير ابن كثير (3/535).