يخبر تعالى عن المتقين من عباده الذين أطاعوه فيما أمر وتركوا ما عنه زجر، أنهم إذا مسهم أي: أصابهم طيف، وقرأ الآخرون طَائِفٌ، وهما قراءتان مشهورتان فقيل بمعنى واحد، وقيل بينهما فرق، ومنهم من فسر ذلك بالغضب ومنهم من فسره بمس الشيطان بالصرع ونحوه، ومنهم من فسره بالهم بالذنب، ومنهم من فسره بإصابة الذنب، وقوله: تَذَكَّرُواْ...
قوله: إِذَا مَسَّهُمْ أي: أصابهم طيف، هذه قراءة متواترة، وهي قراءة أهل البصرة وابن كثير، إذا أصابهم طيف، وقرأ الآخرون طَائِفٌ وهما قراءتان مشهورتان، هما بمعنى واحد، وهذا هو المشهور، وذكر بعضهم فرقاً بينهما، فبعضهم قال: الطيف هو التخيل، والطائف: هو الشيطان، وهذا فيه بعد - والله تعالى أعلم -.
ثم اختلف العلماء في المراد بالطائف في قوله: إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ، فقيل: هو الشيطان، وقيل: هو الغضب، ويكون الطائف والطيف بمعنى الغضب، ومنهم من فسره بمس الشيطان بالصرع ونحوه، وقيل: الذنب، وقيل: نفس إصابة الذنب، وقيل: هو الوسوسة؛ لأنها من إلمام الشيطان بقلب ابن آدم، وتشبه ما ألم به من الخيال في قلب الإنسان، وقيل: ما يتخيله قلب الإنسان أو ما يراه في المنام، والأقرب حمل الآية على هذه المعاني جميعاً - والله تعالى أعلم - .
قوله: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ أي: إذا ألم بهم لمم من الشيطان من غضب يحركهم إلى الانتقام، أو ألقى في قلبهم الوساوس والخواطر الرديئة، والأفكار المضلة، أو الإغراء بالشهوات، أو زين لهم المنكر، أو غير ذلك من المعاني التي ذكرها السلف، فإن الذين اتقوا إذا أصابهم هذا يتذكرون وعد الله ووعيده وثوابه وعقابه، فيورثهم هذا التذكر والتبصر عند حدود الله ، فإذا كان هذا الذي ألقاه في قلبه هو الغضب وتحريكه إلى الانتقام تذكر ما عند الله ، تَذَكَّرُواْ، لما قال معاوية حين جاء إلى المدينة وكان يريد أن يأخذ البيعة لولده يزيد فتكلم بحضرة من حضر من الصحابة ومنهم ابن عمر وقال: من يرى أنه أحق منا بهذا الأمر، فليخرج قرنه فنحن أحق به منه ومن أبيه، يقول ابن عمر: فحللت حبوتي وهممت أن أتكلم، أراد أن يقول: أحق به منك، مَن قاتلك وأباك على الإسلام؟، لكنه تذكر ما عند الله، غضب وأراد أن يرد عليه، لكنه قال: تذكرت ما عند الله، إذا أصابهم طائف من الشيطان تذكروا، فعلى الإنسان أن يكون منضبطا بضوابط الشرع، فلا يصدر منه إلا ما يليق، لا يتحول إلى سفيه، فمن الناس من يقول: والله ما كنت أدري عن شيء، وربما قد حصل منه الطلاق أو الضرب العنيف، فيفتخر أنه إذا غضب ما يدري ما يقول، وما يعمل، أي أنه يتصرف كالمجنون في حال الغضب، إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ وفي حال الوساوس يأتي الشيطان فيشككه ويلبّس عليه فيتذكر، ويتبصر ويعرض عن هذا كله، ويكف عن الاسترسال مع هذه الوسوسة، وإذا ألم بذنب أو حصل له تزيين المنكر، فإنه يتذكر وعد الله ووعيده وثوابه وعقابه ويكف، فيوسف ﷺ دعته امرأة العزيز وغلقت الأبواب وقالت: هيت لك، قَالَ مَعَاذَ اللّهِ [سورة يوسف:23]، مع أن الله قال: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء [سورة يوسف:24]، فهم يوسف ﷺ من قبيل الخواطر التي لا يؤاخذ عليها الإنسان، وكان هم امرأة العزيز من قبيل العزم فقد غلقت الأبواب، ثم دعته إلى الفاحشة، والعزم هو التصميم على الأمر، فهذا ينزل منزلة الفعل ويحاسب الإنسان عليه، كقول النبي ﷺ : القاتل والمقتول في النار لما سئل عن هذا قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه[1]، فالمقصود: أن الشيطان إذا أغوى الإنسان بالفاحشة أو بالمنكر، فإنه يتذكر ما عند الله ، ولا يستمر عليه، بل يتوب مباشرة ويتذكر أن هذا بلاء نزل به من الشيطان، ويندم على ما عمل، فيكون حاله أحسن من حاله قبل اقتراف الذنب، لما يقع في نفسه من الندم والتوبة، أما الإنسان الغافل اللاهي الذي استحوذ عليه الشيطان فإنه كما قال الله : اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ [سورة المجادلة:19] فهو لا يرعوي ولا يكف، ولهذا قال بعده: وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ [سورة الأعراف:202]، أي: أن المتقين إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ : كفوا وَإِخْوَانُهُمْ أي: إخوان الشياطين من الإنس، يعني أن الإنسي أخ للشيطان من الجن، هذه الأخوة للمشابهة والمتابعة، كما قال الله لمن شابه غيره أو سار على سننه وخطاه فإنه يكون أخاً له: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ [سورة الإسراء:27]؛ لأنهم يسيرون على نهجهم، وشابهوهم، فهذا أحد المعاني في قوله تعالى: وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا [سورة الأحزاب:18]، ويحتمل أخوة النسب، ويحتمل الأخوة بالأمر الجامع المشترك حيث إنهم يسكنون المدينة، ويحتمل أن يكون الأخوة في الدين حيث إنهم من المنافقين مثلهم، فقال: وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ أي: أنهم عكس هؤلاء تماماً، يدخل في المنكر ويدخل في الفواحش ويسترسل ويستمر عليها، ولا يكف عنها بحال.
وقوله تعالى: وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ أي: وإخوان الشياطين من الإنس، كقوله: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ [سورة الإسراء:27]، وهم أتباعهم والمستمعون لهم، القابلون لأوامرهم.
هذه الآية فيها كلام كثير لأهل العلم ما المراد بقوله: وَإِخْوَانُهُمْ؟، أي: الشياطين يمدون الإنس بالغي، أو الإنس إخوان الشياطين من الجن يمدونهم، والسبب في اختلافهم هو عود الضمير في يمدونهم، لكن الأقرب هو ما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - وَإِخْوَانُهُمْ يعني: إخوان الشيطان تمدهم في الغي، لا يزال يزين له الباطل والمنكر حتى يلقى الله على ذلك، لا يكف ولا ينقطع ولا يرعوي ولا يقصر، - والله تعالى أعلم - .
قوله: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ [سورة الأنعام:128]، أي: فاستكثروا منهم بإغوائهم وإضلالهم، وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ [سورة الأنعام:128]، أي: أن الجن يستمتعون بطاعة الإنس لهم، وخوفهم منهم، وتعظيمهم لهم، فكان الواحد منهم إذا نزل وادياً قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، فينتفش الجن ويتعاظمون، ويقولون: سُدنا الإنس والجن، وكذلك ما يتقربون به إليهم من القرابين كفعل السحرة والكهنة، والضُّلال من بني آدم حيث يتقربون للجن بالذبح والنذر وما أشبه ذلك، فإذا سكن أحدهم داراً ذبح على البحر أو ذبح في أسس هذه الدار أو نحو هذا مما يستمتع به الجن، واستمتاع الإنس بالجن - كذلك أيضاً - يكون بنشد الضالة، والتعاون مع السحرة والشياطين، وقد يحصل على مطلوبه، وقد يعرف العلة والمرض، أو يعرف سحر من سحره، أو يسحر هذا ويفسد عليه عيشه، وينغص عليه حياته، ويفرق بينه وبين أهله، أو يبتز ماله، أو نحو ذلك مما يحصل على يد هؤلاء بإعانة الشياطين لهم، فكل هذا من استمتاع الإنس بالجن، واستمتاع الجن بالإنس، فهذه أخوة بينهم وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ.
- رواه البخاري من حديث أبي بكرة برقم (31)، كتاب الإيمان، باب وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فسماهم المؤمنين.