وقال العوفي عن ابن عباس - ا - في قوله: خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ الآية [سورة الأعراف:31] قال: كان رجال يطوفون بالبيت عراة فأمرهم الله بالزينة، والزينة: اللباس وهو ما يواري السوءة، وما سوى ذلك من جيد البزّ والمتاع فأمروا أن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد، وهكذا قال مجاهد وعطاء وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير وقتادة والسدي والضحاك، ومالك عن الزهري وغير واحد من أئمة السلف في تفسيرها: أنها نزلت في طواف المشركين بالبيت عراة، ولهذه الآية وما ورد في معناها من السنة يستحب التجمل عند الصلاة، ولا سيما يوم الجمعة ويوم العيد، والطيب؛ لأنه من الزينة، والسواك؛ لأنه من تمام ذلك.
الزينة تطلق على ما لا بد منه من اللباس وهو المعنى الذي نزلت فيه الآية - وهو ستر العورة - وتطلق أيضاً على ما هو أعم من ذلك، والشائع في استعمال الزينة أنها تقال لما كان زائداً عن القدر الضروري، فهذا البناء مثلاً القدر الضروري منه السقف والعمد والجدران، وما عدا ذلك فهو من باب الزينة وليس من الأمور الضرورية، وهكذا أيضاً ما يلبسه الإنسان، فالقدر الزائد عن الضرورة يقال له زينة، كالحلي مثلاً كما قال القائل:
وما الحلي إلا زينة من نقيصة | أما إذا كان الجمال موفراً |
تتمم من حسن إذا الحسن قصرا | كحسنك لم يحتج إلى أن يزورا |
ومعنى قوله تعالى: عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ [سورة الأعراف:31] يعني عند كل صلاة، أو موضع الصلاة.
أخذ الزينة له أثر في عبادة الإنسان وفي صلاته وفي إقبال ربه، فالثياب البيضاء لها أثر ينعكس على قلب العبد وعلى نفسه، وكذلك الطيب ينشرح له الصدر ويحصل للإنسان فيه انشراح كما ذكر ذلك الحافظ ابن القيم - رحمه الله - في زاد المعاد، أي أن مثل هذه الأمور الظاهرة تؤثر في باطن الإنسان فمن المعلوم أن هناك ملازمة بين الظاهر والباطن كما يذكر ذلك عند تفسير قوله تعالى: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [سورة المدثر:4] ولذلك إذا جئت بإنسان يعمل في محطة أو عامل بناء وقد اعتاد على تلويث الثياب والبدن وما أشبه ذلك، وأعطيته أنواع المنظفات وتنظف وأعطيته ثياباً بيضاء وطيبته بأحسن الطيب فإنه سيجد أثر هذا في نفسه وسيكون هناك فرق بين دخوله المسجد بثيابه الأولى وبين دخوله المسجد في الثياب الثانية، وكذلك يتغير حاله حتى خارج المسجد وأذكر أني قرأت تقريراً عُمل في بعض السجون في أمريكا حيث أخذوا المساجين وصاروا يأمرونهم بالاغتسال يومياً ويعطونهم ثياباً بيضاء نظيفة كل يوم فوجدوا تغيراً في سلوك المساجين، وهذا مشاهد، ولذلك انظر إلى نفسك حينما تسافر سفراً شاقاً ستشعر أنك بحاجة إلى أن تغير ملابسك وتصل إلى بيتك وأنت في غاية التثاقل ولا تحب أن يراك أحد، فإذا اغتسلت وتطيبت شعرت بالراحة والاطمئنان، وانظر إلى الحال في الحج وخاصة أيام شدة الحر فالإنسان ما يصل إلى يوم النحر وينتهي من الرمي ويحلق إلا وهو يشعر أنه في غاية الثقل، ويحتاج أن يغتسل ويغير ملابسه، فإذا اغتسل وجد خفة ونشاطاً وارتياحاً، ولذلك نقول: إن مثل هذه الأمور تؤثر في النفس، والناس يسألون كيف نخشع في الصلاة، وكيف نرتاح في الصلاة فنقول: جرب هذا الأمر وانظر الفرق، كذلك اغتسل قبل أن تذهب إلى العمل وقارن هذا اليوم بالأيام الأخرى، لا شك أنك ستجد أثر ذلك في نفسك.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس - ا - قال: "أحل الله الأكل والشرب ما لم يكن سرف أو مخيلة" إسناده صحيح[3]
وروى الإمام أحمد عن المقدام بن معد يكرب الكندي قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه فإن كان فاعلاً لا محالة فثلثٌ طعامٌ وثلثٌ شرابٌ وثلث لنفسه[4]ورواه النسائي والترمذي وقال الترمذي: حسن، وفي نسخة: حسن صحيح.
يلاحظ أن هذه الآية خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ [سورة الأعراف:31] اشتملت على الأمر والنهي والإباحة وهذه الأمور هي التي يرجع إليها خطاب الشارع.
قوله: وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ الأمر هنا للإباحة، وأخذ منه بعض أهل العلم أن الزهد لا يكون في ترك الأكل والشرب وأخذ الزينة من اللباس وإنما الزهد معنىً في القلب، وهو أن تكون الدنيا في يده ولا تكون في قلبه، وهذا معنى وجيه، فكثير من الناس قد يكون في حالة من الرثاثة ويترك كثيراً من متاع الدنيا من مطاعمها ومشاربها وألوان اللباس الجيد، وهو يملك أموالاً طائلة أو يملك أموالاً قليلة لكن الدرهم أو الريال لا يخرج إلا وقد خرج معه قطعة من قلبه، فهذا لا يكون زاهداً، وتجده يترك كثيراً من اللباس والطعام الطيب لكن يتركه إما لأنه لا يجده أو يتركه لأنه بخيل، وإلا فإن النبي ﷺ كان يحب الحلوى والحلو البارد، وكان ﷺ يأكل الثريد - وهو أطيب الطعام - ويحب الطيب، ويقول: حبب إلي من الدنيا النساء والطيب[5] ومثل هذا كله من الطيبات، فليس الزهد أن يترك الإنسان الزواج والتمتع بألوان الطيبات من المآكل والمشارب، وإنما الزهد ألا تدخل هذه الأشياء في قلبه، فهذه الأشياء قد يتعاطاها الإنسان وقد لا يتعاطاها فليس ثمة مشكلة، لكن المشكلة أن يكون القلب مشغولاً بها فإذا كانت تسيطر على قلبه وهي غالبة عليه فليس بزاهد وإن تركها، وما يفعله كثير من الناس ممن ينتسب إلى التصوف بلبس الصوف وترك الطيبات فهذا أمر لم يكن عليه النبي ﷺ ولا أصحابه وهم أزهد الناس فالإنسان لا مانع من أن يركب مركباً جيداً وأن يلبس اللباس الجيد لكن لا يخرجه ذلك إلى الإسراف والخيلاء ولا يفعل ذلك مباهاة للناس، ولا يكثر من ذلك بحيث يكون ذلك صارفاً وملهياً له، وإنما ينبغي عليه أن يترك فضول هذه الأشياء؛ لئلا تشغل قلبه، وإلا فإن النبي ﷺ كان عنده ناقة يقال لها: القصواء وهي مما لا تكاد تسبق، فمثل هذه الأشياء لا تخرج الإنسان عن الزهد، وكل إنسان له ما يناسبه أيضاً من اللباس والمراكب والمساكن وما أشبه هذا، فأهل العلم لهم ما يناسبهم ويجملهم فإن خرجوا منه إلى غيره فإن ذلك يكون إزراء بهم، وقد يحسن من غيرهم لكنه لا يحسن منهم، وهكذا كل إنسان له ما يليق به من مركب وثوب ومسكن وما أشبه هذا، وطالب العلم الذي يسكن في قصر هذا لا يليق به التوسع بهذه الصورة في البناء، وهكذا إذا لبس زِيّاً معيناً قد لا يكون لائقاً به وإن كان مباحاً فإنه لا يصلح لمثله فهذا يزري به، وهكذا إذا ركب مركباً لا يصلح لمثله فهذا يكون منقصة في حقه، وليس معنى ذلك أنه يتخذ الرديء من هذه الأشياء، لكن هناك أشياء لا تليق به ولا تناسبه، والله المستعان.
وقال ابن جرير: وقوله: إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [سورة الأعراف:31] يقول الله تعالى: إن الله لا يحب المتعدين حدّه في حلال أو حرام، الغالين فيما أحل بإحلال الحرام أو بتحريم الحلال ولكنه يحب أن يحلَّل ما أحلّ، ويحرَّم ما حرّم، وذلك العدل الذي أمر به.
بذل المال في المحرم إسراف وإن كان ذلك قليلاً، وكذلك تضييع المال فيما لا فائدة فيه يعتبر إسرافاً وإن كان قليلاً، وهكذا إذا توسع الإنسان في المأكل أو المشرب أو الملبس أو نحو هذا فوق حاجته فهذا يعتبر من الإسراف، وهذا أيضاً يختلف الحكم فيه في بعض الصور من شخص إلى آخر، فقد يكون بالنسبة لهذا من الإسراف وبالنسبة لهذا ليس من الإسراف، بحسب حال الإنسان من الغنى والفقر، فهذا الإنسان الذي يشتري ساعة بألف وراتبه ثمانمائة ريال يعتبر مسرفاً، وإنسان آخر راتبه عشرة آلاف ويشتري ساعة بألف ليس من الإسراف، وكذلك من يملك الملايين إذا اشترى أثاثاً بخمسين ألف ريال ليس مسرفاً، أما من كان راتبه ألفاً ومائتي ريال ويشتري أثاثاً بخمسين ألف ريال فهذا يعتبر من الإسراف، والإنسان الفقير الذي يعيش على الصدقات ما إن يجتمع من دخله خمسمائة ريال إلا ويلبس عمامة من أفخر الأنواع، ويلبس نعلاً بحدود أربعمائة ريال، فهذا سفيه يحجر عليه، وكذلك الفقير الذي راتبه سبعمائة ريال وكلما ظهر نوع من الجوالات اشتراه، فهؤلاء يعتبرون مسرفين، وهذا يختلف من شخص إلى شخص، والله المستعان.
- أخرجه النسائي في كتاب القبلة - صلاة الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء (769) (ج 2 / ص 71) وأحمد (9981) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (7726).
- أخرجه أبو داود في كتاب الطب - باب في الأمر بالكحل (3880) (ج 4 / ص 9) والنسائي في كتاب الزينة – باب في الكحل (5113) (ج 8 / ص 149) وابن ماجه في كتاب الطب-(باب الكحل بالإثمد (3497) (ج 2 / ص 1157) وأحمد (2219) (ج 1 / ص 247) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (1236).
- أخرجه البخاري (ج 5 / ص 2180) عن ابن عباس ولفظه: "كل ما شئت والبس واشرب ما شئت ما أخطأتك اثنتان سرف أو مخيلة".
- أخرجه الترمذي في كتاب الزهد – باب ما جاء في كراهية كثرة الأكل (2380) (ج 4 / ص 590) والنسائي في السنن الكبرى في كتاب آداب الأكل- ذكر القدر الذي يستحب للإنسان من الأكل (6770) (ج 4 / ص 178) وأحمد (17225) (ج 4 / ص 132) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (2135).
- أخرجه النسائي في كتاب عشرة النساء – باب حب النساء (3939) (ج 7 / ص 61) وأحمد (12315) (ج 3 / ص 128) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (3124).