يقول: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أي: لا أحد أظلم ممن افترى الكذب على الله أو كذب بآياته المنزلة.
قوله تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا يعني لا أحد أظلم منه، وذكرنا مراراً أن مثل هذا الاستفهام مضمن معنى النفي، وأن ذلك في كل مقام يختص بالباب الذي ذكر فيه؛ للجمع بين هذه الآية والآيات المشابهة لها كقوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا [سورة البقرة:114] وما أشبه ذلك، أي تكون كل آية مختصة بالباب الذي ذكرت فيه.
أو يكون الجواب عن هذا أن يقال: إن أفعل التفضيل لا يمنع من التساوي وإنما يمنع من أن يزيد أحد هذه المذكورات على الآخر، والله أعلم.
في قوله تعالى: أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ [سورة الأعراف:37] جمع الحافظ ابن كثير - رحمه الله - بعض المعاني التي قالها السلف فقال: "عمله ورزقه وعمره" فالكتاب إذا حمل على اللوح المحفوظ يكون المعنى: ينالهم ما قدر لهم، والذي قدر لهم هي السعادة والشقاوة فيكون ذلك واقعاً لا محالة، وكذلك أيضاً ما قدر لهم من أرزاق وأعمار وكذلك ما قدر لهم من العذاب.
ويحتمل أن يكون المراد بالكتاب في الآية: القرآن، حيث إن القرآن أخبر عما يقع بالمكذبين من العقوبة، فيكون ذلك تحقيقاً لما أخبر به، لكن المعنى الأول أقرب من هذا، والله تعالى أعلم.
وحمْله على اللوح المحفوظ وجمْع المعاني التي ذكرها السلف مما يرجع إلى هذا أولى وأحسن وأقرب، وهذا الذي جرى عليه الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا، وسبقه إليه كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله - وكذلك الحافظ ابن القيم، وجماعة من العلماء المحققين كالشنقيطي - رحمه الله -، فهؤلاء العلماء وغيرهم يقولون: إن المراد بقوله تعالى: أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ [سورة الأعراف:37] أي يقع لهم ما قدر لهم في اللوح المحفوظ مما قدره الله من الهدى والضلال فذلك واقع بهم لا يجاوزونه، ويدخل في ذلك أيضاً ما يحصل لهم من أرزاق وأعمار كما قال : لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها[1].
قوله: قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا [سورة الأعراف:37] يعني ذهبوا، وذلك أن الضلال يفسر بالذهاب كما قال إخوة يوسف لأبيهم يعقوب ﷺ: إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ [سورة يوسف:95] فهم لا يقصدون هنا ضلاله الذهاب عن الهدى كما هو المعنى المتبادر عند إطلاق الضلال، وإنما يقصدون أصل معناها اللغوي، وهو الذهاب عن حقيقة الشيء، كما قال الشاعر:
فآب مضلوه بعين جلية | وغودر بالجولان حزم ونائل |
فمضلوه هنا يعني أنهم دفنوه، فصار ذلك إخفاء له.
وكما قال الآخر:
شربت الإثم حتى ضل عقلي | كذاك الإثم تفعل بالعقول |
وقول إخوة يوسف: إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ [سورة يوسف:95] لا شك أن معناه الذهاب عن حقيقة ما وقع ليوسف إذ لا يمكن أن يصفوا نبياً من أنبياء الله بأنه ضال الضلال الشرعي المعروف؛ إذ لو قصدوا ذلك لكفروا، والله المستعان.
- أخرجه ابن ماجه في كتاب التجارات - باب الاقتصاد في طلب المعيشة (2144) (ج 2 / ص 725) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2742).