الأربعاء 16 / ذو القعدة / 1446 - 14 / مايو 2025
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِـَٔايَٰتِهِۦٓ ۚ أُو۟لَٰٓئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ ٱلْكِتَٰبِ ۖ حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوٓا۟ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ ۖ قَالُوا۟ ضَلُّوا۟ عَنَّا وَشَهِدُوا۟ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا۟ كَٰفِرِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ [سورة الأعراف:37].
يقول: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أي: لا أحد أظلم ممن افترى الكذب على الله أو كذب بآياته المنزلة.

قوله تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا يعني لا أحد أظلم منه، وذكرنا مراراً أن مثل هذا الاستفهام مضمن معنى النفي، وأن ذلك في كل مقام يختص بالباب الذي ذكر فيه؛ للجمع بين هذه الآية والآيات المشابهة لها كقوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا [سورة البقرة:114] وما أشبه ذلك، أي تكون كل آية مختصة بالباب الذي ذكرت فيه.
أو يكون الجواب عن هذا أن يقال: إن أفعل التفضيل لا يمنع من التساوي وإنما يمنع من أن يزيد أحد هذه المذكورات على الآخر، والله أعلم.
قال محمد بن كعب القرظي: أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ [سورة الأعراف:37] قال: عمله ورزقه وعمره، وكذا قال الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، كقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ ۝ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ [سورة يونس:69-70] وقوله: وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ۝ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا الآية [(23-24) سورة لقمان].

في قوله تعالى: أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ [سورة الأعراف:37] جمع الحافظ ابن كثير - رحمه الله - بعض المعاني التي قالها السلف فقال: "عمله ورزقه وعمره" فالكتاب إذا حمل على اللوح المحفوظ يكون المعنى: ينالهم ما قدر لهم، والذي قدر لهم هي السعادة والشقاوة فيكون ذلك واقعاً لا محالة، وكذلك أيضاً ما قدر لهم من أرزاق وأعمار وكذلك ما قدر لهم من العذاب.
ويحتمل أن يكون المراد بالكتاب في الآية: القرآن، حيث إن القرآن أخبر عما يقع بالمكذبين من العقوبة، فيكون ذلك تحقيقاً لما أخبر به، لكن المعنى الأول أقرب من هذا، والله تعالى أعلم.
وحمْله على اللوح المحفوظ وجمْع المعاني التي ذكرها السلف مما يرجع إلى هذا أولى وأحسن وأقرب، وهذا الذي جرى عليه الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا، وسبقه إليه كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله - وكذلك الحافظ ابن القيم، وجماعة من العلماء المحققين كالشنقيطي - رحمه الله -، فهؤلاء العلماء وغيرهم يقولون: إن المراد بقوله تعالى: أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ [سورة الأعراف:37] أي يقع لهم ما قدر لهم في اللوح المحفوظ مما قدره الله من الهدى والضلال فذلك واقع بهم لا يجاوزونه، ويدخل في ذلك أيضاً ما يحصل لهم من أرزاق وأعمار كما قال  : لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها[1].
وقوله: حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ الآية [سورة الأعراف:37] يخبر تعالى أن الملائكة إذا توفت المشركين تفزعهم عند الموت وقبْض أرواحهم إلى النار يقولون لهم: أين الذين كنتم تشركون بهم في الحياة الدنيا وتدعونهم وتعبدونهم من دون الله؟ ادعوهم يخلصوكم مما أنتم فيه قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا [سورة الأعراف:37] أي: ذهبوا عنا فلا نرجو نفعهم ولا خيرهم وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ [سورة الأعراف:37] أي: أقروا واعترفوا على أنفسهم أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ [سورة الأعراف:37].

قوله: قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا [سورة الأعراف:37] يعني ذهبوا، وذلك أن الضلال يفسر بالذهاب كما قال إخوة يوسف لأبيهم يعقوب ﷺ: إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ [سورة يوسف:95] فهم لا يقصدون هنا ضلاله الذهاب عن الهدى كما هو المعنى المتبادر عند إطلاق الضلال، وإنما يقصدون أصل معناها اللغوي، وهو الذهاب عن حقيقة الشيء، كما قال الشاعر:
فآب مضلوه بعين جلية وغودر بالجولان حزم ونائل

فمضلوه هنا يعني أنهم دفنوه، فصار ذلك إخفاء له.
وكما قال الآخر:
شربت الإثم حتى ضل عقلي كذاك الإثم تفعل بالعقول
يعني شرب الخمر حتى ذهب عقله، وهكذا توجد شواهد كثيرة تدل على أن الضلال يطلق بإزاء ذهاب الشيء عن حقيقته.
وقول إخوة يوسف: إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ [سورة يوسف:95] لا شك أن معناه الذهاب عن حقيقة ما وقع ليوسف ​​​​​​​ إذ لا يمكن أن يصفوا نبياً من أنبياء الله بأنه ضال الضلال الشرعي المعروف؛ إذ لو قصدوا ذلك لكفروا، والله المستعان.
  1. أخرجه ابن ماجه في كتاب التجارات - باب الاقتصاد في طلب المعيشة (2144) (ج 2 / ص 725) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2742).

مرات الإستماع: 0

"فَمَنْ أَظْلَمُ [الأعراف: 37] ذكر في الأنعام."

هذا الاستفهام مضمن معنى النفي، يعني لا أحد أظلم، فتارة يقولون: فَمَنْ أَظْلَمُ يعني لا أحد أظلم ممن افترى على الله مثلاً كذبا، أو وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا [البقرة: 114] فيذكر أمورًا متنوعة.

 قلنا ذلك باعتبار أن أفعل التفضيل لا تمنع التساوي، وإنما تمنع أن يزيد أحدهما على الآخر، يعني لا أحد أظلم؛ فأظلم صيغة تفضيل، يعني كل هؤلاء قد بلغوا الغاية في الظلم، فأفعل التفضيل لا تمنع التساوي، ولكن تمنع أن يزيد أحدهما على الآخر، فكل ذلك بلغ الغاية في الظلم لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله.

وبعضهم يخص كل، واحد ببابه؛ يقول في باب المانعين: لا أحد أظلم ممن منع مساجد، وفي المفترين: لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبًا، وفي باب المعرضين لا أحد أظلم ممن ذكر بآيات ربه، ثم أعرض عنها، وهكذا يعني كل واحدة مختصة ببابها.

"قوله تعالى: يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ [الأعراف: 37] أي: يصل إليهم ما كتب لهم من الأرزاق، وغيرها."

يعني يصل إليهم ما كتب لهم في اللوح المحفوظ بقدر الله وسابق علمه يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ يصل إليهم ما كتب لهم من الأرزاق، والآجال كما قال الله - تبارك، وتعالى -: قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ۝ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا [يونس: 69 - 70] يعني يقع لهم ما كتب لهم في الدنيا من متاع ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [يونس: 70] وهكذا في قوله: وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كَفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ۝ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [لقمان: 23 - 24] في هذا المعنى، أو بنحوه قال محمد بن كعب القرظي، والربيع بن زيد[1] فهذا معنى أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ.

وبعضهم يحمل ذلك على معنى آخر أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ يعني ينالهم العذاب بقدر كفرهم، وبعضهم يقول: بأن الكتاب هنا المراد به القرآن أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ باعتبار أن عذاب الكفار مذكور في القرآن.

وبعضهم يقول: بأن الكتاب المراد به هنا: اللوح المحفوظ، وهذا الذي اختاره أبو جعفر ابن جرير[2] والحافظ ابن القيم[3].

وأن المراد ينالهم ما كتب لهم من خير، وشر في الدنيا كما سبق الرزق، والآجل، والعمل، وما يقع لهم من الأمور المكروهة من النكبات، وغير ذلك أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ وهذا هو الأقرب - والله تعالى أعلم -.

"قوله تعالى: ضَلُّوا عَنَّا أي غابوا.

ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ [الأعراف: 38] أي: ادخلوا النار في جملة أمم أي مع أمم."

ضَلُّوا عَنَّا يعني غابوا عنا، يعني لا نرجو خيرهم، ولا نفعهم.

 

"قوله تعالى: ادَّارَكُوا أي: تلاحقوا، واجتمعوا، قوله تعالى: قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ المراد بأولاهم الرؤساء، والقادة، وأخراهم الأتباع، والسفلة، والمعنى: أن أخراهم طلبوا من الله أن يضاعف العذاب لأولاهم لأنهم أضلوهم، وليس المعنى أنهم قالوا لهم ذلك خطابا لهم، إنما هو كقولك قال فلان لفلان كذا: أي قاله عنه، وإن لم يخاطبه به."

قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ هم الرؤساء، والقادة هؤلاء المراد بقوله أولاهم، وأخراهم الأتباع، والسفلة، وهذا قال به جمع من أهل العلم كمقاتل[4] والقرطبي[5] ورجحه أيضًا الشوكاني[6] ومن المعاصرين: الشنقيطي[7] والطاهر بن عاشور[8].

وبعضهم يقول: أولاهم، وأخراهم يعني آخر أهل كل ملة بمن سبقهم في الدنيا، وشرع لهم الكفر، والضلال شرع لهم ذلك الدين؛ وهذا قال به السدي[9] واختاره ابن جرير[10] وابن عطية[11].

لاحظ المعنى الأول في الدخول في النار: قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ يعني أول ما يدخل الرؤساء، والكبراء، ثم بعد ذلك الأتباع فيقولون هذا، وعلى المعنى الأخر: أن المقصود بأولاهم يعني من تقدمهم، وشرع لهم هذا الضلال، والدين الباطل، والذين جاءوا بعدهم فعملوا به، وقالوا: وجدنا آباءنا على أمة، ونحو ذلك هؤلاء هم أخراهم، وهذا كما سبق اختيار ابن جرير - رحمه الله - وكذلك ابن عطية. 

والحافظ ابن كثير - رحمه الله - جمع بين المعنين بعبارة دقيقة جدًا قد لا يتفطن لها القارئ، وهي في غاية الاختصار: يعني أخراهم دخولاً، وهم الأتباع؛ أخراهم دخولاً الآن إذًا هذا في دخول النار، وهم الأتباع؛ الأتباع معنى ذلك أنهم الذين جاءوا بعد الذين شرعوا لهم هذه الضلالات، والكفر بالله تعالى، فكأن بين المعنين - والله تعالى أعلم - نوع ملازمة، تقدموهم في الدنيا بتأسيس الضلالة، وهؤلاء تبعوهم عليها، فدخل أولئك النار أولاً، ثم تبعوهم في دخولها - والله أعلم - وهذا كقوله - تبارك، وتعالى -: وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ۝ رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا [الأحزاب: 67 - 68] هذا في معنى هذه الآية، وهكذا في قوله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ۝ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ ۝ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا [سبأ: 31 - 33] وظاهر هذه الآيات أنهم يخاطبونهم مباشرة - والله المستعان -. 

  1.  تفسير الطبري (10/175 - 176) وتفسير ابن كثير (3/410).
  2.  تفسير الطبري (10/167).
  3.  شفاء العليل في مسائل القضاء، والقدر، والحكمة، والتعليل (ص: 42).
  4.  تفسير البغوي (3/228).
  5.  تفسير القرطبي (7/205).
  6.  فتح القدير للشوكاني (2/232).
  7.  أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (2/14).
  8.  التحرير، والتنوير (23/291).
  9.  تفسير ابن عطية (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز) (2/398).
  10.  تفسير الطبري (10/178).
  11.  تفسير ابن عطية (2/399).