الأحد 13 / ذو القعدة / 1446 - 11 / مايو 2025
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَذَّبُوا۟ بِـَٔايَٰتِنَا وَٱسْتَكْبَرُوا۟ عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَٰبُ ٱلسَّمَآءِ وَلَا يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ حَتَّىٰ يَلِجَ ٱلْجَمَلُ فِى سَمِّ ٱلْخِيَاطِ ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِى ٱلْمُجْرِمِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ۝ لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [سورة الأعراف:40-41].
قوله: لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء قيل المراد: لا يرفع لهم منها عمل صالح ولا دعاء، قاله مجاهد   وسعيد بن جبير، ورواه العوفي وعلي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا - وكذا رواه الثوري عن ليث عن عطاء عن ابن عباس - ا -.
وقيل: المراد لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء، رواه الضحاك عن ابن عباس - ا - وقاله السدي وغير واحد، ويؤيده ما رواه ابن جرير عن البراء أن رسول الله ﷺ ذكر قبض روح الفاجر وأنه يُصعد بها إلى السماء، قال: فيصعدون بها فلا تمرُّ على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: فلان - بأقبح أسمائه التي كان يدعى بها في الدنيا - حتى ينتهوا بها إلى السماء فيستفتحون بابها له فلا يفتح له ثم قرأ رسول الله ﷺ: لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء الآية [سورة الأعراف:40]، هكذا رواه، وهو قطعة من حديث طويل رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه[1]
وقد قال ابن جريج في قوله: لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء [سورة الأعراف:40] لا تفتح لأعمالهم ولا لأرواحهم، وهذا فيه جمع بين القولين والله أعلم.

المعنى الأول دل عليه الحديث، وإذا ثبت التفسير عن النبي ﷺ فلا مقال لأحد بعده، لكن هذا لا يعني أن عموم الآية لا يدخل فيه المعنى الآخر، بمعنى أنه يُقطع بالمعنى الذي ذكر في الحديث وهو أنها لا تفتح لأرواحهم، لكن هذا لا ينفي دخول المعنى الآخر وهو أنها لا تفتح لأعمالهم، ولهذا فهذا القول الذي ذكره عن ابن جريج - رحمه الله - هو جمعٌ بين المعنيين، وهذا هو الذي فسرها به ابن جرير - رحمه الله - وابن القيم وجماعة من أهل العلم، أي لا تفتح لأرواحهم ولا لأعمالهم، والحافظ ابن القيم - رحمه الله - يقول في بعض كتبه: لما لم تفتح السماء لأعمالهم الصالحة لم تفتح لأرواحهم، بخلاف أهل الإيمان فالعمل الصالح يرتفع لهم صباح مساء فإذا ماتوا فتحت أبواب السماء لأرواحهم[2].
والله يقول: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [سورة فاطر:10] فترفع الأعمال إلى الله - تبارك وتعالى - وإليه يصعد الكلم الطيب، وأما الكفار فلا يصعد لهم كلم طيب ولا عمل صالح، وإذا ماتوا فإن أبواب السماء تغلق فلا تدخل أرواحهم منها، والله أعلم.
وقوله تعالى: وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [سورة الأعراف:40] فسروه بأنه البعير، قال ابن مسعود : هو الجمل، ابن الناقة،  وفي رواية: زوج الناقة.
وقال مجاهد وعكرمة عن ابن عباس - ا - : إنه كان يقرؤها حَتَّى يَلِجَ الْجُمَّلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ بضم الجيم وتشديد الميم، يعني الحبل الغليظ في خرم الإبرة.

يقول تعالى: وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [سورة الأعراف:40] قال الحافظ: "قال ابن مسعود : هو الجمل، ابن الناقة، وفي رواية: زوج الناقة" الذي يقرأ هذا الكلام لأول وهلة قد يستغرب من هذا الإيضاح إذ كيف يقول: ابن الناقة ويقول: زوج الناقة؛ لأن هذا إيضاح لما لا يخفى، لكن ابن مسعود ابتلي بمن ينقر ويسأل، ولهذا فإن بعض السلف لما ذكر هذا قال: الجمل الذي له أربع قوائم، والسبب أن من الناس من ينقر تنقيراً كما قيل عن ذلك الأديب الذي قرأ بعضهم عليه بيتاً وفيه ذكر الجمل، فسأل ذلك القارئُ - وكان في المسجد أمام الناس - ما هو الجمل؟ فقال الأديب: هو البعير، قال: وما هو البعير؟ قال: ابن الناقة، قال: وما هو ابن الناقة؟ فغضب هذا الأديب وخرج عن طوره فجعل يحبو على أربع أمام الناس وله رغاء كرغاء البعير وهو يقول: هو الجمل الذي يقول هكذا!!
المقصود أن من الناس من يسأل عن الأشياء الواضحة البينة فتأتي مثل هذه العبارات، لذلك لا تستغرب أن ينقل عن ابن مسعود مثل هذا "ابن الناقة .. زوج الناقة..".
يقول تعالى: حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [سورة الأعراف:40] المعنى المتبادر أن الجمل هو الجمل المعروف، وأما على القراءة الأخرى التي قرأ فيها ابن عباس حَتَّى يَلِجَ الجُمَّل وهي قراءة متواترة فيمكن أن يفسر الجُمَّل بمعنى آخر فيقال مثلاً: الجُمَّل هو الحبل الغليظ، وبعضهم يمثل له بحبل السفينة، وهو عبارة عن مجموعة من الحبال المفتولة بحيث تكون في غاية الغلظ والضخامة.
وفي هذه الآية أيضاً قراءات أخرى غير متواترة، وعلى كل حال فعلى القراءة المتواترة حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [سورة الأعراف:40] يكون الجمل في الآية هو الجمل المعروف، وأما على قراءة الجُمَّل فيقال هو الحبل الغليظ أو حبل السفينة الذي يقال له: القَلْس، وأما السَّم والسِّم والسُّم فهو كل ثقب، وإذا أضيف إلى الخيط فيراد به ثقب الإبرة، والله أعلم.
  1. أخرجه أحمد (18557) (ج 4 / ص 287) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (1676).
  2. له – رحمه الله - كلام بهذا المعنى في مدارج السالكين (ج 1 / ص 72).

مرات الإستماع: 0

"لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ [الأعراف: 40] فيه ثلاثة أقوال:

أحدهما: لا يصعد عملهم إلى السماء.

والثاني: لا يدخلون الجنة، فإن الجنة في السماء.

والثالث: لا تفتح أبواب السماء لأرواحهم إذا ماتوا كما تفتح لأرواح المؤمنين."

المعنى الأول: لا يصعد عملهم إلى السماء.

والثاني: أنهم لا يدخلون الجنة باعتبار أنها في السماء.

والثالث: لا تفتح أبواب السماء لأرواحهم؛ كما في حديث البراء الطويل، وفيه: حتى ينتهى به إلى السماء الدنيا، ويستفتح له فلا يفتح له، وقرأ رسول الله ﷺ: لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ [1] فهذا يكون من التفسير النبوي إذا ذكر فيه النبي ﷺ الآية فهو تفسير لها قطعًا لا يصح أن يتعدى إذا صح الحديث، ولكن قد يفسر النبي ﷺ الآية بمعنى، ويكون أحد الأنواع الداخلة تحتها فلا ينفي ذلك عن غيره، لكن أن يرجح عليه غيره فهذا لا يصح بحال من الأحوال؛ لأن النبي ﷺ لا ينطق عن الهوى، وهو أعلم الأمة بمعاني كتاب الله - تبارك، وتعالى -.

فهنا هذا المعنى: لا تفتح أبواب السماء لأرواحهم؛ دل عليه حديث البراء فهذا الحديث المراد قطعًا، وبه قال ابن عباس - ا -[2] وهو مروي أيضًا عن السدي، وعن ابن عباس - ا - من طريق ابن أبي طلحة[3] وهذه الطريق جيدة إن شاء الله.

وكذلك جاء عن مجاهد، وسعيد بن جبير: لا يرفع لهم منها عمل صالح، ولا دعاء[4] هذا معنى آخر.

وجاء عن ابن جريج: "لا تفتح لأرواحهم، ولا لأعمالهم"[5] جمع بين المعنين، وهذا الذي اختاره ابن جرير[6] والحافظ ابن القيم - رحمهم الله -[7] جمعوا بين المعنين؛ لا تفتح لأرواحهم، ولا لأعمالهم لا يصعد لهم عمل، وكذلك أيضًا لا يجاب دعاؤهم، ولا تنزل عليهم بركات، ورحمات، فكل هذه المعاني صحيحة، لا يرفع لهم دعاء، ولا يحتاج معه إلى ترجيح - والله أعلم -.

"قوله تعالى: حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [سورة الأعراف: 40] أي: حتى يدخل الجمل في ثقب الإبرة، والمعنى لا يدخلون الجنة حتى يكون ما لا يكون أبدًا، فلا يدخلونها أبدًا."

هذه كقوله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ [المائدة: 72] وهكذا في قوله تعالى: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ [الأعراف: 50].

فقوله تبارك، وتعالى: حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ الولوج الدخول في مضيق، يعني يقول: حتى يدخل الجمل في ثقب الإبرة، وهذا مروي عن ابن مسعود [8].

وعن ابن عباس أنه كان يقرأها حتى يلج الجُمَّل[9] وهو حبل السفينة، ولهذا قال بعضهم أن المقصود بالجمل: حبل السفينة لكن يمكن أن يكون على هذه القراءة غير المتواترة حَتَّى يَلِجَ الْجُمَّلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ.

فعلى كل حال قوله: حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ الجمل ولد الناقة المعروف، ويكون ذلك من باب إحالة دخوله يعني العرب تعبر بمثل هذا، وتذكره لبيان الامتناع كما يقولون: حتى تشيب مفارق الغربان، حتى يعود اللبن في الضرع، وهذا لا يكون فهو للإحالة، فهذا من المحال لا يكون أبدًا.

فِي سَمِّ الْخِياطِ السَّم، والسِّم السُّم بالحركات الثلاث على السين كل ثقب ضيق، وأصله يدل على مدخل في الشيء، والخياط ما يخاط به خيط حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ.

الذين قالوا: حبل السفينة هم كأنهم نظروا إلى ذكر الخياط يعني المخيط الإبرة، والذي يدخل فيها هو الخيط، فحبل السفينة غليظ، فلا يدخل في ثقب الإبرة، لكن تحمل ألفاظ القرآن على المتبادر الظاهر، والمتبادر إذا ذكر الجمل فهو، ولد الناقة كما قال ابن مسعود [10]

ومن الطرائف في هذا أن أحد العلماء في علم اللغة جاءه متمحل يسأل عن هذه الآية: حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ قال: ما الجمل؟ فقال له: البعير، قال: وما البعير؟ قال: ولد الناقة، قال: وما ولد الناقة؟ فهذا غضب، فصار يمشي على أربع - هذا العالم - وأسمعه رغاءً ليبين له ما هو الجمل؟ يعني بعض الناس يسأل عن الواضحات الجمل، البعير، ما هو البعير؟ ما هو ولد الناقة؟ ما ولد الناقة؟ قال هكذا، الذي يمشي هكذا.

  1.  أخرجه أحمد في المسند، برقم (18534) وقال محققوه: "إسناده صحيح، رجاله رجال الصحيح" وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (1676).
  2.  انظر: تفسير الطبري (10/182).
  3.  انظر: تفسير ابن كثير (3/412).
  4.  المصدر  السابق (3/411).
  5.  المصدر السابق (3/414).
  6.  تفسير الطبري (10/182).
  7.  انظر: الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص: 61) وطريق الهجرتين، وباب السعادتين (ص: 274).
  8.  لم أقف عليه من قول ابن مسعود وإنما هو من قول الحسن كما في تفسير الطبري (10/195).
  9.  تفسير ابن كثير (3/415).
  10.  المصدر السابق (3/414).