قوله: لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء قيل المراد: لا يرفع لهم منها عمل صالح ولا دعاء، قاله مجاهد وسعيد بن جبير، ورواه العوفي وعلي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا - وكذا رواه الثوري عن ليث عن عطاء عن ابن عباس - ا -.
وقيل: المراد لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء، رواه الضحاك عن ابن عباس - ا - وقاله السدي وغير واحد، ويؤيده ما رواه ابن جرير عن البراء أن رسول الله ﷺ ذكر قبض روح الفاجر وأنه يُصعد بها إلى السماء، قال: فيصعدون بها فلا تمرُّ على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: فلان - بأقبح أسمائه التي كان يدعى بها في الدنيا - حتى ينتهوا بها إلى السماء فيستفتحون بابها له فلا يفتح له ثم قرأ رسول الله ﷺ: لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء الآية [سورة الأعراف:40]، هكذا رواه، وهو قطعة من حديث طويل رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه[1]
وقد قال ابن جريج في قوله: لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء [سورة الأعراف:40] لا تفتح لأعمالهم ولا لأرواحهم، وهذا فيه جمع بين القولين والله أعلم.
المعنى الأول دل عليه الحديث، وإذا ثبت التفسير عن النبي ﷺ فلا مقال لأحد بعده، لكن هذا لا يعني أن عموم الآية لا يدخل فيه المعنى الآخر، بمعنى أنه يُقطع بالمعنى الذي ذكر في الحديث وهو أنها لا تفتح لأرواحهم، لكن هذا لا ينفي دخول المعنى الآخر وهو أنها لا تفتح لأعمالهم، ولهذا فهذا القول الذي ذكره عن ابن جريج - رحمه الله - هو جمعٌ بين المعنيين، وهذا هو الذي فسرها به ابن جرير - رحمه الله - وابن القيم وجماعة من أهل العلم، أي لا تفتح لأرواحهم ولا لأعمالهم، والحافظ ابن القيم - رحمه الله - يقول في بعض كتبه: لما لم تفتح السماء لأعمالهم الصالحة لم تفتح لأرواحهم، بخلاف أهل الإيمان فالعمل الصالح يرتفع لهم صباح مساء فإذا ماتوا فتحت أبواب السماء لأرواحهم[2].
والله يقول: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [سورة فاطر:10] فترفع الأعمال إلى الله - تبارك وتعالى - وإليه يصعد الكلم الطيب، وأما الكفار فلا يصعد لهم كلم طيب ولا عمل صالح، وإذا ماتوا فإن أبواب السماء تغلق فلا تدخل أرواحهم منها، والله أعلم.
وقال مجاهد وعكرمة عن ابن عباس - ا - : إنه كان يقرؤها حَتَّى يَلِجَ الْجُمَّلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ بضم الجيم وتشديد الميم، يعني الحبل الغليظ في خرم الإبرة.
يقول تعالى: وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [سورة الأعراف:40] قال الحافظ: "قال ابن مسعود : هو الجمل، ابن الناقة، وفي رواية: زوج الناقة" الذي يقرأ هذا الكلام لأول وهلة قد يستغرب من هذا الإيضاح إذ كيف يقول: ابن الناقة ويقول: زوج الناقة؛ لأن هذا إيضاح لما لا يخفى، لكن ابن مسعود ابتلي بمن ينقر ويسأل، ولهذا فإن بعض السلف لما ذكر هذا قال: الجمل الذي له أربع قوائم، والسبب أن من الناس من ينقر تنقيراً كما قيل عن ذلك الأديب الذي قرأ بعضهم عليه بيتاً وفيه ذكر الجمل، فسأل ذلك القارئُ - وكان في المسجد أمام الناس - ما هو الجمل؟ فقال الأديب: هو البعير، قال: وما هو البعير؟ قال: ابن الناقة، قال: وما هو ابن الناقة؟ فغضب هذا الأديب وخرج عن طوره فجعل يحبو على أربع أمام الناس وله رغاء كرغاء البعير وهو يقول: هو الجمل الذي يقول هكذا!!
المقصود أن من الناس من يسأل عن الأشياء الواضحة البينة فتأتي مثل هذه العبارات، لذلك لا تستغرب أن ينقل عن ابن مسعود مثل هذا "ابن الناقة .. زوج الناقة..".
يقول تعالى: حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [سورة الأعراف:40] المعنى المتبادر أن الجمل هو الجمل المعروف، وأما على القراءة الأخرى التي قرأ فيها ابن عباس حَتَّى يَلِجَ الجُمَّل وهي قراءة متواترة فيمكن أن يفسر الجُمَّل بمعنى آخر فيقال مثلاً: الجُمَّل هو الحبل الغليظ، وبعضهم يمثل له بحبل السفينة، وهو عبارة عن مجموعة من الحبال المفتولة بحيث تكون في غاية الغلظ والضخامة.
وفي هذه الآية أيضاً قراءات أخرى غير متواترة، وعلى كل حال فعلى القراءة المتواترة حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [سورة الأعراف:40] يكون الجمل في الآية هو الجمل المعروف، وأما على قراءة الجُمَّل فيقال هو الحبل الغليظ أو حبل السفينة الذي يقال له: القَلْس، وأما السَّم والسِّم والسُّم فهو كل ثقب، وإذا أضيف إلى الخيط فيراد به ثقب الإبرة، والله أعلم.
- أخرجه أحمد (18557) (ج 4 / ص 287) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (1676).
- له – رحمه الله - كلام بهذا المعنى في مدارج السالكين (ج 1 / ص 72).