الإثنين 21 / ذو القعدة / 1446 - 19 / مايو 2025
وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَٰلِحًا ۗ قَالَ يَٰقَوْمِ ٱعْبُدُوا۟ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُۥ ۖ قَدْ جَآءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ هَٰذِهِۦ نَاقَةُ ٱللَّهِ لَكُمْ ءَايَةً ۖ فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِىٓ أَرْضِ ٱللَّهِ ۖ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوٓءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ۝ وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ۝ قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ ۝ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِالَّذِيَ آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ۝ فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ۝ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ [سورة الأعراف:73-78].
قال علماء التفسير والنسب: ثمود بن عاثر بن إرم بن سام بن نوح وهو أخو جديس بن عاثر، وكذلك قبيلة طَسْم، كل هؤلاء كانوا أحياء من العرب العاربة قبل إبراهيم الخليل وكانت ثمود بعد عاد، ومساكنهم مشهورة فيما بين الحجاز والشام، إلى وادي القُرى وما حوله، وقد مرَّ رسول الله ﷺ على ديارهم ومساكنهم وهو ذاهب إلى تبوك في سنة تسع.
روى الإمام أحمد عن ابن عمر - ا - قال: لمَّا نزل رسول الله ﷺ بالناس على تبوك، نزل بهم الحِجر عند بيوت ثمود، فاستقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود، فعجنوا منها ونصبوا لها القدور، فأمرهم النبي ﷺ فأهرقوا القدور وعلفوا العجين الإبل، ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا وقال: إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم فلا تدخلوا عليهم[1].
وروى أحمد أيضاً عن عبد الله بن عمر - ا - قال: قال رسول الله ﷺ وهو بالحِجر: لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم وأصل هذا الحديث مخرج في الصحيحين[2].

يؤخذ من هذا الحديث أن الإنسان لا يقصد هذه الأماكن لزيارتها والفرجة، لكن من مرَّ بها فأراد أن يدخلها فإنه يدخل باكياً أو متباكياً، والآيات التي أرشد الله بها في القرآن إلى السير في الأرض والنظر في عواقب المكذبين هذه لمن كان عنده تردد وشك فإنه يذهب وينظر في حال هؤلاء وما حصل لهم ليعتبر، وأما من عرف الحق وآمن به فلا حاجة به لمثل هذا.
قوله تعالى: وَإِلَى ثَمُودَ [سورة الأعراف:73] أي: ولقد أرسلنا إلى قبيلة ثمود أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [سورة الأعراف:73] فجميع الرسل يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [سورة الأنبياء:25] وقال: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [سورة النحل:36].

ويدخل في هذا قوم لوط ؛ لأن الله لم يذكر في دعوتهم - كما سيأتي - أن لوطاً ﷺ خاطبهم بالتوحيد ولهذا فهم منه بعض أهل العلم أنه لم يكن عندهم إشراك، وإنما كان عندهم الفاحشة، وهذا ليس بلازم، وإنما كان هؤلاء قد جاءوا بأمر لم يسبقوا إليه، وهو هذه الفاحشة، فجاءهم لوط ﷺ- فأنكرها عليهم، فلا يعني هذا بحال من الأحوال أن لوطاً ﷺ ما خاطبهم بالتوحيد، ثم لو كان هؤلاء عندهم إيمان بالله - تبارك وتعالى - لما فعلوا هذا الفعل حتى كابروا غاية المكابرة واستهزءوا بلوط وهموا بإخراجه وإخراج المؤمنين معه حيث قالوا: أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ [سورة الأعراف:82] وكانوا يراودونه عن ضيوفه، وهذا لا يفعله أناس من أهل الإيمان، ثم إن كانوا مؤمنين فمن أين جاءهم ذلك الإيمان؟ فإبراهيم ﷺ هاجر إلى الشام وآمن له لوط، وهو ابن أخيه، ولم يكن في تلك الناحية بل حتى على وجه الأرض أحد من المؤمنين، ولهذا استشكل العلماء قوله - تبارك وتعالى - : قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ [سورة الممتحنة:4] فمن الذين كانوا مع إبراهيم ﷺ ولا يُعرف أنه آمن له أحد حينما كان في تلك الناحية عند قومه؟ ثم بعد ذلك لما هاجر آمن له لوط أو آمن له لوط عند هجرته وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي [سورة العنكبوت:26] فهاجر إلى الشام، ولوط ذهب إلى ناحية قريبة من فلسطين فمن أين جاءهم التوحيد قبل إبراهيم ﷺ؟
الحاصل أن الله لم يذكر أنه دعاهم إلى التوحيد، ولا يلزم ذلك أنه لم يدعهم إليه، فالله يقول: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [سورة الأنبياء:25] ويقول: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [سورة النحل:36] أي كل رسول كان يأمر قومه بعبادة الله وحده، ومنهم لوط ﷺ.
وقوله: قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً [سورة الأعراف:73] أي: قد جاءتكم حجة من الله على صدق ما جئتكم به، وكانوا هم الذين سألوا صالحاً أن يأتيهم بآية واقترحوا عليه بأن تخرج لهم من صخرة صماء عينوها بأنفسهم، وهي صخرة منفردة في ناحية الحِجر يقال لها الكاثبة فطلبوا منه أن تخرج لهم منه ناقة عُشَراء تَمْخض.
العُشَراء هي التي بلغت الشهر العاشر في الحمل.
فأخذ عليهم صالح العهود والمواثيق لئن أجابهم الله إلى سؤالهم وأجابهم إلى طلبتهم ليؤمنن به وليتبعنه، فلما أعطوه على ذلك عهودهم ومواثيقهم، قام صالح إلى صلاته ودعا الله فتحركت تلك الصخرة ثم انصدعت عن ناقة جوفاء وبراء، يتحرك جنينها بين جنبيها كما سألوا، فعند ذلك آمن رئيس القوم جندع بن عمرو ومن كان معه على أمره، وأراد بقية أشراف ثمود أن يؤمنوا فصدهم ذؤاب بن عمرو بن لبيد والحُباب صاحب أوثانهم، ورباب بن صمعر بن جلهس، وكان لجندع بن عمرو ابن عم يقال له: شهاب بن خليفة بن وخلة بن لبيد بن جواس، وكان من أشراف ثمود وأفاضلها، فأراد أن يسلم أيضاً فنهاه أولئك الرهط فأطاعهم، فقال في ذلك رجل من مؤمني ثمود يقال: له مهوش بن عنمة بن الدميل - رحمه الله - :
وكانت عصبة من آل عمرو عزيزَ ثمود كلهم جميعاً
لأصبح صالحٌ فينا عزيزاً ولكن الغواة من آل حجر
إلى دين النبي دَعوا شهابا فهمّ بأن يجيب فلو أجابا
وما عدلوا بصاحبهم ذؤابا تولُّوا بعد رشدهم ذؤابا
وأقامت الناقة وفصيلها بعدما وضعته بين أظهرهم مدة تشرب من بئرها يوماً وتدعه لهم يوماً وكانوا يشربون لبنها يوم شربها يحتلبون فيملئون ما شاءوا من أوعيتهم وأوانيهم كما قال في الآية الأخرى: وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ [سورة القمر:28] وقال تعالى: هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ [سورة الشعراء:155]، وكانت تسرح في بعض تلك الأودية ترِدُ من فجٍّ وتصدر من غيره ليسعها؛ لأنها كانت تتضلع من الماء، وكانت على ما ذُكر خلقاً هائلاً ومنظراً رائعاً، إذا مرَّت بأنعامهم نفرت منها، فلما طال عليهم ذلك واشتد تكذيبهم لصالح النبي عزموا على قتلها ليستأثروا بالماء كل يوم، فيقال: إنهم اتفقوا كلهم على قتلها.
قال قتادة: بلغني أن الذي قتلها طاف عليهم كلهم أنهم راضون بقتلها، حتى على النساء في خدورهنَّ وعلى الصبيان، قلت: وهذا الظاهر لقوله تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا [سورة الشمس:14].

يعني أنهم تواطئوا على قتلها جميعاً ما عدا المؤمنين الذين آمنوا حينما رأوا هذه الآية، والدليل على أن قتلها كان بمواطأة من الجميع - من غير المؤمنين - أن الله نسب عقْرها إليهم فقال: فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ [سورة الأعراف:77] وقال تعالى: وَقَالُواْ يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا [سورة الأعراف:77]؛ فنبي الله قال لهم: وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [سورة الأعراف:73] فلما عتوا عن أمر الله قالوا له: ائتنا بهذا العذاب الذي توعدتنا به.
وقال: وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا [سورة الإسراء:59].

قوله: وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً أي آية مبصرة، وليس المقصود وصف الناقة أنها مبصرة.
  1. أخرجه أحمد (5984) (ج 2 / ص 117) وقال شعيب الأرنؤوط: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
  2.  أخرجه البخاري في كتاب التفسير –باب تفسير سورة الحجر (4425) (ج 4 / ص 1737) ومسلم في كتاب الزهد والرقائق - باب لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين (2980) (ج 4 / ص 2285).

مرات الإستماع: 0

"بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ [الأعراف: 73] أي: آيةٌ ظاهرة، وهي الناقة، وأُضيفت إلى الله تشريفًا لها؛ ولأنه خلقها من غير فحلٍ، وكانوا قد اقترحوا على صالح أن يُخرجها لهم من صخرة، وعاهدوه أن يؤمنوا إن فعل ذلك، فانشقت الصخرة، وخرجت منها الناقة، وهم ينظرون، ثم نُتِجت ولدًا، فآمن به قوم منهم، وكفر آخرون".

قوله: "بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ أي: آية ظاهرة" يعني حجة، وبرهان، وما ذكره هنا من أنهم اقترحوا على صالح أن يخرجها لهم من صخرة، وعاهدوه... إلخ، فانشقت الصخرة، وخرجت منها الناقة، وهم ينظرون، ثم نُتِجت ولدًا، فآمن به قوم منهم... إلى آخر ما يذكرون، لا أعلم عليه دليلًا ثابتًا من كتاب الله، أو سنة رسوله ﷺ فالله تعالى أعلم، قد تكون هذه الناقة جاءت بمواصفات غير موجودة، ولا معهودة، فكانت آية بهذا الاعتبار، أو أنها خرجت من صخرةٍ، أو غير ذلك، فهذا يحتمل، لكن لا أعلم عليه دليلًا ثابتًا، يمكن أن يُعوَّل عليه، فيذكره المؤرخون، ويذكره أيضًا كثيرٌ من المفسرين، ولكن مثل هذا إن لم يرد فيه شيء عن المعصوم، وإلا فإن أخبار بني إسرائيل - كما هو معلوم - لا يعتمد عليها، غاية ما هنالك أنه لا يُكذَّب الخبر، ولا يُصدق إن كان لا يُخالف ما عندنا، فهذه أحسن الأحوال، إلا ما جاء موافقًا لما جاء في الوحي عندنا، - فالله تعالى أعلم -.

"قوله تعالى: لَكُمْ آيَةً [الأعراف: 73] أي: معجزة تدل على صحة نبوة صالح، والمجرور في موضع الحال من آية؛ لأنه لو تأخر لكن صفة".

لَكُمْ آيَةً يعني حال كونها آية كائنة لكم، والآية هي الدليل، والبرهان، وعرفنا أن الآيات منها ما هو شرعي، كآيات القرآن، ومنها ما هو كوني، فمعجزات الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام - غير القرآن، وهي من الآيات الكونية، وهو يقصد بالمجرور هنا الذي في موضع الحال هو قوله: (لكم).

"قوله تعالى: وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ [الأعراف: 73] أي: لا تضرُّوها، ولا تطردوها".

وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ أيًا كان، بأي وجه، فهذا يدل على العموم، فلم يقل: لا تمسوها بسوءٍ بقتلٍ، أو ضربٍ، أو طردٍ، و ذودٍ عن الماء مثلًا، وإنما حُذِف المتعلق؛ ليفيد العموم النسبي، فيدخل في ذلك العقر، وشتى أنواع الأذى.